الباحث القرآني
.
قَوْلُهُ: ﴿ولا تَحْسَبَنَّ﴾ خِطابٌ لِلنَّبِيِّ صَلّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وسَلَّمَ، وهو تَعْرِيضٌ لِأُمَّتِهِ، فَكَأنَّهُ قالَ: ولا تَحْسَبُ أُمَّتُكَ يا مُحَمَّدُ، ويَجُوزُ أنْ يَكُونَ خِطابًا لِكُلِّ مَن يَصْلُحُ لَهُ مِنَ المُكَلَّفِينَ، وإنْ كانَ الخِطابُ لِلنَّبِيِّ صَلّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وسَلَّمَ مِن غَيْرِ تَعْرِيضٍ لِأُمَّتِهِ، فَمَعْناهُ التَّثْبِيتُ عَلى ما كانَ عَلَيْهِ مِن عَدَمِ الحُسْبانِ كَقَوْلِهِ: ﴿ولا تَكُونَنَّ مِنَ المُشْرِكِينَ﴾ ونَحْوِهِ، وقِيلَ: المُرادُ: ولا تَحْسَبَنَّهُ يُعامِلُهم مُعامَلَةَ الغافِلِ عَمّا يَعْمَلُونَ، ولَكِنْ مُعامَلَةَ الرَّقِيبِ عَلَيْهِمْ، أوْ يَكُونُ المُرادُ بِالنَّهْيِ عَنِ الحُسْبانِ الإيذانَ بِأنَّهُ عالِمٌ بِذَلِكَ لا تَخْفى عَلَيْهِ مِنهُ خافِيَةٌ.
وفِي هَذا تَسْلِيَةٌ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وسَلَّمَ وإعْلامٌ لِلْمُشْرِكِينَ بِأنَّ تَأْخِيرَ العَذابِ عَنْهم لَيْسَ لِلرِّضا بِأفْعالِهِمْ، بَلْ سُنَّةُ اللَّهِ سُبْحانَهُ في إمْهالِ العُصاةِ (p-٧٥٢)﴿إنَّما يُؤَخِّرُهم لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الأبْصارُ﴾ أيْ يُؤَخِّرُ جَزاءَهم ولا يُؤاخِذُهم بِظُلْمِهِمْ.
وهَذِهِ الجُمْلَةُ تَعْلِيلٌ لِلنَّهْيِ السّابِقِ.
وقَرَأ الحَسَنُ والسُّلَمِيُّ وهو رِوايَةٌ عَنْ أبِي عَمْرٍو بِالنُّونِ في نُؤَخِّرُهم.
وقَرَأ الباقُونَ بِالتَّحْتِيَّةِ.
واخْتارَها أبُو عُبَيْدٍ وأبُو حاتِمٍ لِقَوْلِهِ ﴿ولا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ﴾ ومَعْنى ﴿لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الأبْصارُ﴾ أيْ تُرْفَعُ فِيهِ أبْصارُ أهْلِ المَوْقِفِ، ولا تُغْمِضُ مِن هَوْلِ ما تَراهُ في ذَلِكَ اليَوْمِ، هَكَذا قالَ الفَرّاءُ.
يُقالُ: شَخَصَ الرَّجُلُ بَصَرَهُ وشَخَصَ البَصَرُ نَفْسُهُ إلى السَّماءِ مِن هَوْلِ ما يَرى، والمُرادُ أنَّ الأبْصارَ بَقِيَتْ مَفْتُوحَةً لا تَتَحَرَّكُ مِن شِدَّةِ الحَيْرَةِ والدَّهْشَةِ.
﴿مُهْطِعِينَ﴾ أيْ مُسْرِعِينَ، مِن أهْطَعَ يَهْطَعُ إهْطاعًا: إذا أسْرَعَ، وقِيلَ: المُهْطِعُ: الَّذِي يَنْظُرُ في ذُلٍّ وخُشُوعٍ.
ومِنهُ:
؎بِدَجْلَةَ دارُهم ولَقَدْ أراهم بِدَجْلَةَ مُهْطِعِينَ إلى السَّماءِ
وقِيلَ: المُهْطِعُ: الَّذِي يُدِيمُ النَّظَرَ.
قالَ أبُو عُبَيْدَةَ: قَدْ يَكُونُ الوَجْهانِ جَمِيعًا، يَعْنِي الإسْراعَ مَعَ إدامَةِ النَّظَرِ، وقِيلَ: المُهْطِعُ الَّذِي لا يَرْفَعُ رَأْسَهُ.
وقالَ ثَعْلَبٌ: المُهْطِعُ الَّذِي يَنْظُرُ في ذُلٍّ وخُضُوعٍ، وقِيلَ: هو السّاكِتُ.
قالَ النَّحّاسُ: والمَعْرُوفُ في اللُّغَةِ أهْطَعَ: إذا أسْرَعَ ﴿مُقْنِعِي رُءُوسِهِمْ﴾ أيْ رافِعِي رُءُوسِهِمْ، وإقْناعُ الرَّأْسِ: رَفْعُهُ، وأقْنَعَ صَوْتَهُ: إذا رَفَعَهُ، والمَعْنى: أنَّهم يَوْمَئِذٍ رافِعُونَ رُءُوسَهم إلى السَّماءِ يَنْظُرُونَ إلَيْها نَظَرَ فَزَعٍ وذُلٍّ ولا يَنْظُرُ بَعْضُهم إلى بَعْضٍ.
وقِيلَ: إنَّ إقْناعَ الرَّأْسِ نَكْسُهُ، وقِيلَ: يُقالُ أقْنَعَ: إذا رَفَعَ رَأْسَهُ، وأقْنَعَ: إذا طَأْطَأ ذِلَّةً وخُضُوعًا، والآيَةُ مُحْتَمِلَةٌ لِلْوَجْهَيْنِ.
قالَ المِبْرَدُ: والقَوْلُ الأوَّلُ أعْرَفُ في اللُّغَةِ.
قالَ الشّاعِرُ:
؎أنَغْضَ نَحْوِي رَأْسَهُ وأقْنَعا ∗∗∗ كَأنَّما أبْصَرَ شَيْئًا أطْمَعا
﴿لا يَرْتَدُّ إلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ﴾ أيْ لا تَرْجِعُ إلَيْهِمْ أبْصارُهم، وأصْلُ الطَّرْفِ: تَحْرِيكُ الأجْفانِ، وسُمِّيَتِ العَيْنُ طَرْفًا لِأنَّهُ يَكُونُ بِها، ومِن إطْلاقِ الطَّرْفِ عَلى العَيْنِ قَوْلُ عَنْتَرَةَ:
؎وأغُضُّ طَرْفِي إنْ بَدَتْ لِي جارَتِي ∗∗∗ حَتّى يُوارِيَ جارَتِي مَأْواها
﴿وأفْئِدَتُهم هَواءٌ﴾ الهَواءُ في اللُّغَةِ: المُجَوَّفُ الخالِي الَّذِي لَمْ تَشْغَلْهُ الأجْرامُ، والمَعْنى: أنَّ قُلُوبَهم خالِيَةٌ عَنِ العَقْلِ والفَهْمِ لِما شاهَدُوا مِنَ الفَزَعِ والحَيْرَةِ والدَّهَشِ، وجَعْلُها نَفْسَ الهَوى مُبالَغَةٌ، ومِنهُ قِيلَ لِلْأحْمَقِ والجَبانِ: قَلْبُهُ هَواءٌ، أيْ: لا رَأْيَ فِيهِ ولا قُوَّةَ، وقِيلَ: مَعْنى الآيَةِ أنَّها خَرَجَتْ قُلُوبُهم عَنْ مَواضِعِها فَصارَتْ في الحَناجِرِ.
وقِيلَ: المَعْنى: إنَّ أفْئِدَةَ الكُفّارِ في الدُّنْيا خالِيَةٌ عَنِ الخَيْرِ، وقِيلَ: المَعْنى: وأفْئِدَتُهم ذاتُ هَواءٍ.
ومِمّا يُقارِبُ مَعْنى هَذِهِ الآيَةِ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿وأصْبَحَ فُؤادُ أُمِّ مُوسى فارِغًا﴾ [القصص: ١٠]، أيْ خالِيًا مِن كُلِّ شَيْءٍ إلّا مِن هَمِّ مُوسى.
﴿وأنْذِرِ النّاسَ﴾ هَذا رُجُوعٌ إلى خِطابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وسَلَّمَ، أمَرَهُ اللَّهُ سُبْحانَهُ بِأنْ يُنْذِرَ النّاسَ، والمُرادُ النّاسُ عَلى العُمُومِ، وقِيلَ: المُرادُ كُفّارُ مَكَّةَ، وقِيلَ: الكُفّارُ عَلى العُمُومِ.
والأوَّلُ أوْلى لِأنَّ الإنْذارَ كَما يَكُونُ لِلْكافِرِ يَكُونُ أيْضًا لِلْمُسْلِمِ، ومِنهُ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿إنَّما تُنْذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ﴾ [يس: ١١]، ومَعْنى ﴿يَوْمَ يَأْتِيهِمُ العَذابُ﴾ يَوْمَ القِيامَةِ، أيْ: خَوِّفْهم هَذا اليَوْمَ، وهو يَوْمُ إتْيانِ العَذابِ، وإنَّما اقْتُصِرَ عَلى ذِكْرِ إتْيانِ العَذابِ فِيهِ مَعَ كَوْنِهِ يَوْمَ إتْيانِ الثَّوابِ، لِأنَّ المَقامَ مَقامُ تَهْدِيدٍ، وقِيلَ: المُرادُ بِهِ يَوْمُ مَوْتِهِمْ، فَإنَّهُ أوَّلُ أوْقاتِ إتْيانِ العَذابِ، وقِيلَ: المُرادُ يَوْمُ هَلاكِهِمْ بِالعَذابِ العاجِلِ، وانْتِصابُ يَوْمَ عَلى أنَّهُ مَفْعُولٌ ثانٍ لِ أنْذِرْ ﴿فَيَقُولُ الَّذِينَ ظَلَمُوا رَبَّنا أخِّرْنا إلى أجَلٍ قَرِيبٍ﴾ المُرادُ بِالَّذِينَ ظَلَمُوا هاهُنا هُمُ النّاسُ، أيْ: فَيَقُولُونَ، والعُدُولُ إلى الإظْهارِ مَكانَ الإضْمارِ لِلْإشْعارِ بِأنَّ الظُّلْمَ هو العِلَّةُ فِيما نَزَلَ بِهِمْ، هَذا إذا كانَ المُرادُ بِالنّاسِ هُمُ الكُفّارَ.
وعَلى تَقْدِيرِ كَوْنِ المُرادِ بِهِمْ مَن يَعُمُّ المُسْلِمِينَ، فالمَعْنى: فَيَقُولُ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنهم وهُمُ الكُفّارُ ﴿رَبَّنا أخِّرْنا﴾ أمْهِلْنا إلى أجَلٍ قَرِيبٍ إلى أمَدٍ مِنَ الزَّمانِ مَعْلُومٍ غَيْرِ بَعِيدٍ ﴿نُجِبْ دَعْوَتَكَ﴾ أيْ دَعْوَتَكَ لِعِبادِكَ عَلى ألْسُنِ أنْبِيائِكَ إلى تَوْحِيدِكَ ﴿ونَتَّبِعِ الرُّسُلَ﴾ المُرْسَلِينَ مِنكَ إلَيْنا فَنَعْمَلْ بِما بَلَّغُوهُ إلَيْنا مِن شَرائِعِكَ، ونَتَدارَكْ ما فَرَطَ مِنّا مِنَ الإهْمالِ، وإنَّما جُمِعَ الرُّسُلُ، لِأنَّ دَعْوَتَهم إلى التَّوْحِيدِ مُتَّفِقَةٌ، فاتِّباعُ واحِدٍ مِنهُمُ اتِّباعٌ لِجَمِيعِهِمْ، وهَذا مِنهم سُؤالٌ لِلرُّجُوعِ إلى الدُّنْيا لَمّا ظَهَرَ لَهُمُ الحَقُّ في الآخِرَةِ ﴿ولَوْ رُدُّوا لَعادُوا لِما نُهُوا عَنْهُ﴾ [الأنعام: ٢٨]، ثُمَّ حَكى سُبْحانَهُ ما يُجابُ بِهِ عَنْهم عِنْدَ أنْ يَقُولُوا هَذِهِ المَقالَةَ.
فَقالَ: ﴿أوَلَمْ تَكُونُوا أقْسَمْتُمْ مِن قَبْلُ ما لَكم مِن زَوالٍ﴾ أيْ فَيُقالُ لَهم هَذا القَوْلُ تَوْبِيخًا وتَقْرِيعًا، أيْ: أوَلَمْ تَكُونُوا أقْسَمْتُمْ مِن قَبْلِ هَذا اليَوْمِ ما لَكَمَ مِن زَوالٍ مِن دارِ الدُّنْيا، وقِيلَ: إنَّهُ لا قَسَمَ مِنهم حَقِيقَةً، وإنَّما كانَ لِسانُ حالِهِمْ ذَلِكَ لِاسْتِغْراقِهِمْ في الشَّهَواتِ وإخْلادِهِمْ إلى الحَياةِ الدُّنْيا، وقِيلَ: قَسَمُهم هَذا هو ما حَكاهُ اللَّهُ عَنْهم في قَوْلِهِ: ﴿وأقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أيْمانِهِمْ لا يَبْعَثُ اللَّهُ مَن يَمُوتُ﴾ [النحل: ٣٨] وجَوابُ القَسَمِ ﴿ما لَكم مِن زَوالٍ﴾ وإنَّما جاءَ بِلَفْظِ الخِطابِ في " ما لَكَمَ مِن زَوالٍ " لِمُراعاةِ " أقْسَمْتُمْ "، ولَوْلا ذَلِكَ لَقالَ: ما لَنا مِن زَوالٍ.
﴿وسَكَنْتُمْ في مَساكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُوا أنْفُسَهم﴾ أيِ اسْتَقْرَرْتُمْ، يُقالُ سَكَنَ الدّارَ وسَكَنَ فِيها، وهي بِلادُ ثَمُودَ ونَحْوِهِمْ مِنَ الكُفّارِ الَّذِينَ ظَلَمُوا أنْفُسَهم بِالكُفْرِ بِاللَّهِ والعِصْيانِ لَهُ ﴿وتَبَيَّنَ لَكم كَيْفَ فَعَلْنا بِهِمْ﴾ قَرَأ عَبْدُ الرَّحْمَنِ السُّلَمِيُّ " نُبَيِّنُ " بِالنُّونِ والفِعْلِ المُضارِعِ.
وقَرَأ مَن عَداهُ بِالتّاءِ الفَوْقِيَّةِ والفِعْلِ الماضِي، أيْ: تَبَيَّنَ لَكم بِمُشاهَدَةِ الآثارِ كَيْفَ فَعَلْنا بِهِمْ مِنَ العُقُوبَةِ والعَذابِ الشَّدِيدِ بِما فَعَلُوهُ مِنَ الذُّنُوبِ، وفاعِلُ " تَبَيَّنَ " ما دَلَّتْ عَلَيْهِ الجُمْلَةُ المَذْكُورَةُ بَعْدَهُ، أيْ: تَبَيَّنَ لَكم فِعْلُنا العَجِيبُ بِهِمْ ﴿وضَرَبْنا لَكُمُ الأمْثالَ﴾ في كُتُبِ اللَّهِ وعَلى ألْسُنِ رُسُلِهِ إيضاحًا لَكم وتَقْرِيرًا وتَكْمِيلًا لِلْحُجَّةِ عَلَيْكم.
﴿وقَدْ مَكَرُوا مَكْرَهُمْ﴾ الجُمْلَةُ في مَحَلِّ نَصْبٍ عَلى الحالِ، أيْ: فَعَلْنا بِهِمْ ما فَعَلْنا، والحالُ أنَّهم قَدْ مَكَرُوا في رَدِّ الحَقِّ وإثْباتِ الباطِلِ مَكْرَهُمُ العَظِيمَ، الَّذِي اسْتَفْرَغُوا فِيهِ وُسْعَهم ﴿وعِنْدَ اللَّهِ مَكْرُهُمْ﴾ أيْ وعِنْدَ اللَّهِ جَزاءُ مَكْرِهِمْ، أوْ وعِنْدَ اللَّهِ مَكْتُوبٌ مَكْرُهم فَهو مُجازِيهِمْ، أوْ عِنْدَ اللَّهِ مَكْرُهُمُ الَّذِي يَمْكُرُهم بِهِ؛ عَلى أنْ يَكُونَ المَكْرُ مُضافًا إلى المَفْعُولِ، قِيلَ: والمُرادُ بِهِمْ قَوْمُ مُحَمَّدٍ صَلّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وسَلَّمَ مَكَرُوا بِالنَّبِيِّ صَلّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وسَلَّمَ حِينَ هَمُّوا بِقَتْلِهِ أوْ نَفْيِهِ، وقِيلَ: المُرادُ ما (p-٧٥٣)وقَعَ مِنَ النُّمْرُوذِ حَيْثُ حاوَلَ الصُّعُودَ إلى السَّماءِ، فاتَّخَذَ لِنَفْسِهِ تابُوتًا ورَبَطَ قَوائِمَهُ بِأرْبَعَةِ نُسُورٍ ﴿وإنْ كانَ مَكْرُهم لِتَزُولَ مِنهُ الجِبالُ﴾ قَرَأ عُمَرُ وعَلِيٌّ وابْنُ مَسْعُودٍ وأُبَيٌّ: " وإنْ كادَ مَكْرُهم " بِالدّالِ المُهْمَلَةِ مَكانَ النُّونِ.
وقَرَأ غَيْرُهم مِنَ القُرّاءِ وإنْ كانَ بِالنُّونِ.
وقَرَأ ابْنُ مُحَيْصِنٍ وابْنُ جُرَيْجٍ والكِسائِيُّ " لَتَزُولُ " بِفَتْحِ اللّامِ عَلى أنَّها لامُ الِابْتِداءِ.
وقَرَأ الجُمْهُورُ بِكَسْرِها عَلى أنَّها لامُ الجُحُودِ.
قالَ ابْنُ جَرِيرٍ: الِاخْتِيارُ هَذِهِ القِراءَةُ، يَعْنِي قِراءَةَ الجُمْهُورِ لِأنَّها لَوْ كانَتْ زالَتْ لَمْ تَكُنْ ثابِتَةً، فَعَلى قِراءَةِ الكِسائِيِّ ومَن مَعَهُ تَكُونُ إنْ هي المُخَفَّفَةُ مِنَ الثَّقِيلَةِ، واللّامُ هي الفارِقَةَ، وزَوالُ الجِبالِ مَثَلٌ لِعِظَمِ مَكْرِهِمْ وشِدَّتِهِ، أيْ: وإنَّ الشَّأْنَ كانَ مَكْرُهم مُعَدًّا لِذَلِكَ.
قالَ الزَّجّاجُ: وإنْ كانَ مَكْرُهم يَبْلُغُ في الكَيْدِ إلى إزالَةِ الجِبالِ، فَإنَّ اللَّهَ يَنْصُرُ دِينَهُ، وعَلى قِراءَةِ الجُمْهُورِ يَحْتَمِلُ وجْهَيْنِ: أحَدُهُما أنْ تَكُونَ " إنْ " هي المُخَفَّفَةُ مِنَ الثَّقِيلَةِ، والمَعْنى كَما مَرَّ.
والثّانِي أنْ تَكُونَ نافِيَةً واللّامُ المَكْسُورَةُ لِتَأْكِيدِ النَّفْيِ كَقَوْلِهِ: ﴿وما كانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إيمانَكُمْ﴾ [البقرة: ١٤٣] والمَعْنى: ومُحالٌّ أنْ تَزُولَ الجِبالُ بِمَكْرِهِمْ، عَلى أنَّ الجِبالَ مَثَلٌ لِآياتِ اللَّهِ وشَرائِعِهِ الثّابِتَةِ عَلى حالِها مَدى الدَّهْرِ، فالجُمْلَةُ عَلى هَذا حالٌ مِنَ الضَّمِيرِ في مَكَرُوا لا مِن قَوْلِهِ: ﴿وعِنْدَ اللَّهِ مَكْرُهُمْ﴾ أيْ والحالُ أنَّ مَكْرَهم لَمْ يَكُنْ لِتَزُولَ مِنهُ الجِبالُ.
وقَدْ أخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وابْنُ المُنْذِرِ وابْنُ أبِي حاتِمٍ والخَرائِطِيُّ في مَساوِي الأخْلاقِ عَنْ مَيْمُونِ بْنِ مِهْرانَ في قَوْلِهِ: ﴿ولا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غافِلًا عَمّا يَعْمَلُ الظّالِمُونَ﴾ قالَ: هي تَعْزِيَةٌ لِلْمَظْلُومِ ووَعِيدٌ لِلظّالِمِ.
وأخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وابْنُ جَرِيرٍ وابْنُ أبِي حاتِمٍ عَنْ قَتادَةَ في قَوْلِهِ: ﴿لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الأبْصارُ﴾ قالَ: شَخَصَتْ فِيهِ واللَّهِ أبْصارُهم فَلا تَرْتَدُّ إلَيْهِمْ.
وأخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وابْنُ أبِي حاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ في قَوْلِهِ: ﴿مُهْطِعِينَ﴾ قالَ: يَعْنِي بِالإهْطاعِ النَّظَرَ مِن غَيْرِ أنْ يَطْرِفَ ﴿مُقْنِعِي رُءُوسِهِمْ﴾ قالَ: الإقْناعُ رَفْعُ رُءُوسِهِمْ ﴿لا يَرْتَدُّ إلَيْهِمْ طَرْفُهم﴾ قالَ: شاخِصَةٌ أبْصارُهم ﴿وأفْئِدَتُهم هَواءٌ﴾ لَيْسَ فِيها شَيْءٌ مِنَ الخَيْرِ، فَهي كالخَرِبَةِ.
وأخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وابْنُ أبِي حاتِمٍ عَنْ مُجاهِدٍ ﴿مُهْطِعِينَ﴾ قالَ: مُدِيمِي النَّظَرِ.
وأخْرَجَ عَبْدُ الرَّزّاقِ وابْنُ جَرِيرٍ وابْنُ المُنْذِرِ عَنْ قَتادَةَ ﴿مُهْطِعِينَ﴾ قالَ: مُسْرِعِينَ.
وأخْرَجَ هَؤُلاءِ عَنْ قَتادَةَ في قَوْلِهِ: ﴿وأفْئِدَتُهم هَواءٌ﴾ قالَ: لَيْسَ فِيها شَيْءٌ، خَرَجَتْ مِن صُدُورِهِمْ فَنَشِبَتْ في حُلُوقِهِمْ.
وأخْرَجَ ابْنُ أبِي شَيْبَةَ وابْنُ جَرِيرٍ وابْنُ المُنْذِرِ وابْنُ أبِي حاتِمٍ عَنْ مُرَّةَ ﴿وأفْئِدَتُهم هَواءٌ﴾ قالَ: مُنْخَرِقَةٌ لا تَعِي شَيْئًا.
وأخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وابْنُ جَرِيرٍ وابْنُ المُنْذِرِ وابْنُ أبِي حاتِمٍ عَنْ قَتادَةَ في قَوْلِهِ: ﴿وأنْذِرِ النّاسَ يَوْمَ يَأْتِيهِمُ العَذابُ﴾ يَقُولُ: أنْذِرْهم في الدُّنْيا مِن قَبْلِ أنْ يَأْتِيَهُمُ العَذابُ.
وأخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ مُجاهِدٍ قالَ: ﴿يَوْمَ يَأْتِيهِمُ العَذابُ﴾ هو يَوْمُ القِيامَةِ.
وأخْرَجَ ابْنُ المُنْذِرِ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ ﴿ما لَكم مِن زَوالٍ﴾ قالَ: عَمّا أنْتُمْ فِيهِ إلى ما تَقُولُونَ.
وأخْرَجَ ابْنُ أبِي حاتِمٍ عَنِ السُّدِّيِّ في قَوْلِهِ ﴿ما لَكم مِن زَوالٍ﴾ قالَ: بَعْثٍ بَعْدَ المَوْتِ.
وأخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وابْنُ المُنْذِرِ عَنِ الحَسَنِ في قَوْلِهِ: ﴿وسَكَنْتُمْ في مَساكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُوا أنْفُسَهم﴾ قالَ: عَمِلْتُمْ بِمِثْلِ أعْمالِهِمْ.
وأخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ في قَوْلِهِ: ﴿وإنْ كانَ مَكْرُهُمْ﴾ يَقُولُ: ما كانَ مَكْرُهم ﴿لِتَزُولَ مِنهُ الجِبالُ﴾ .
وأخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وابْنُ المُنْذِرِ وابْنُ أبِي حاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ ﴿وإنْ كانَ مَكْرُهُمْ﴾ يَقُولُ شِرْكُهم كَقَوْلِهِ: ﴿تَكادُ السَّماواتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنهُ وتَنْشَقُّ الأرْضُ وتَخِرُّ الجِبالُ هَدًّا﴾ [مريم: ٩٠] .
وأخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وابْنُ جَرِيرٍ وابْنُ المُنْذِرِ وابْنُ أبِي حاتِمٍ وابْنُ الأنْبارِيِّ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أبِي طالِبٍ أنَّهُ قَرَأ هَذِهِ الآيَةَ ﴿وإنْ كانَ مَكْرُهم لِتَزُولَ مِنهُ الجِبالُ﴾ ثُمَّ فَسَّرَها فَقالَ: إنَّ جَبّارًا مِنَ الجَبابِرَةِ قالَ: لا أنْتَهِي حَتّى أنْظُرَ إلى ما في السَّماءِ، فَأمَرَ بِفِراخِ النُّسُورِ تُعْلَفُ اللَّحْمَ حَتّى شَبَّتْ وغَلُظَتْ، وأمَرَ بِتابُوتٍ فَنُجِرَ يَسَعُ رَجُلَيْنِ، ثُمَّ جَعَلَ في وسَطِهِ خَشَبَةً، ثُمَّ رَبَطَ أرْجُلَهُنَّ بِأوْتادٍ، ثُمَّ جَوَّعَهُنَّ، ثُمَّ جَعَلَ عَلى رَأْسِ الخَشَبَةِ لَحْمًا، ثُمَّ دَخَلَ هو وصاحِبُهُ في التّابُوتِ، ثُمَّ رَبَطَهُنَّ إلى قَوائِمِ التّابُوتِ، ثُمَّ خَلّى عَنْهُنَّ يُرِدْنَ اللَّحْمَ، فَذَهَبْنَ بِهِ ما شاءَ اللَّهُ، ثُمَّ قالَ لِصاحِبِهِ افْتَحْ فانْظُرْ ماذا تَرى، فَفَتَحَ فَقالَ: انْظُرْ إلى الجِبالِ كَأنَّها الذُّبابُ، قالَ: أغْلِقْ فَأغْلَقَ، فَطِرْنَ بِهِ ما شاءَ اللَّهُ، ثُمَّ قالَ: افْتَحْ فَفَتَحَ، فَقالَ: انْظُرْ ماذا تَرى، فَقالَ: ما أرى إلّا السَّماءَ وما أراها تَزْدادُ إلّا بُعْدًا، قالَ: صَوِّبِ الخَشَبَةَ فَصَوَّبَها فانْقَضَّتْ تُرِيدُ اللَّحْمَ، فَسَمِعَ الجِبالَ هَدَّتَها فَكادَتْ تَزُولُ عَنْ مَراتِبِها، وقَدْ رُوِيَ نَحْوُ هَذِهِ القِصَّةِ لِبُخْتُ نَصَّرَ ولِلنُّمْرُوذِ مِن طُرُقٍ، ذِكْرُها في الدُّرِّ المَنثُورِ.
{"ayahs_start":42,"ayahs":["وَلَا تَحۡسَبَنَّ ٱللَّهَ غَـٰفِلًا عَمَّا یَعۡمَلُ ٱلظَّـٰلِمُونَۚ إِنَّمَا یُؤَخِّرُهُمۡ لِیَوۡمࣲ تَشۡخَصُ فِیهِ ٱلۡأَبۡصَـٰرُ","مُهۡطِعِینَ مُقۡنِعِی رُءُوسِهِمۡ لَا یَرۡتَدُّ إِلَیۡهِمۡ طَرۡفُهُمۡۖ وَأَفۡـِٔدَتُهُمۡ هَوَاۤءࣱ","وَأَنذِرِ ٱلنَّاسَ یَوۡمَ یَأۡتِیهِمُ ٱلۡعَذَابُ فَیَقُولُ ٱلَّذِینَ ظَلَمُوا۟ رَبَّنَاۤ أَخِّرۡنَاۤ إِلَىٰۤ أَجَلࣲ قَرِیبࣲ نُّجِبۡ دَعۡوَتَكَ وَنَتَّبِعِ ٱلرُّسُلَۗ أَوَلَمۡ تَكُونُوۤا۟ أَقۡسَمۡتُم مِّن قَبۡلُ مَا لَكُم مِّن زَوَالࣲ","وَسَكَنتُمۡ فِی مَسَـٰكِنِ ٱلَّذِینَ ظَلَمُوۤا۟ أَنفُسَهُمۡ وَتَبَیَّنَ لَكُمۡ كَیۡفَ فَعَلۡنَا بِهِمۡ وَضَرَبۡنَا لَكُمُ ٱلۡأَمۡثَالَ","وَقَدۡ مَكَرُوا۟ مَكۡرَهُمۡ وَعِندَ ٱللَّهِ مَكۡرُهُمۡ وَإِن كَانَ مَكۡرُهُمۡ لِتَزُولَ مِنۡهُ ٱلۡجِبَالُ"],"ayah":"وَأَنذِرِ ٱلنَّاسَ یَوۡمَ یَأۡتِیهِمُ ٱلۡعَذَابُ فَیَقُولُ ٱلَّذِینَ ظَلَمُوا۟ رَبَّنَاۤ أَخِّرۡنَاۤ إِلَىٰۤ أَجَلࣲ قَرِیبࣲ نُّجِبۡ دَعۡوَتَكَ وَنَتَّبِعِ ٱلرُّسُلَۗ أَوَلَمۡ تَكُونُوۤا۟ أَقۡسَمۡتُم مِّن قَبۡلُ مَا لَكُم مِّن زَوَالࣲ"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق