الباحث القرآني

. قَوْلُهُ: ألَمْ تَرَ هَذا خِطابٌ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وسَلَّمَ أوْ لِكُلِّ مَن يَصْلُحُ لَهُ، وهو تَعْجِيبٌ مِن حالِ الكُفّارِ حَيْثُ جَعَلُوا بَدَلَ نِعْمَةِ اللَّهِ عَلَيْهِمُ الكُفْرَ، أيْ: بَدَلَ شُكْرِها الكُفْرَ بِها، وذَلِكَ بِتَكْذِيبِهِمْ مُحَمَّدًا صَلّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وسَلَّمَ حِينَ بَعَثَهُ اللَّهُ مِنهم وأنْعَمَ عَلَيْهِمْ بِهِ. وقَدْ ذَهَبَ جُمْهُورُ المُفَسِّرِينَ إلى أنَّهم كُفّارُ مَكَّةَ وأنَّ الآيَةَ نَزَلَتْ فِيهِمْ وقِيلَ: نَزَلَتْ في الَّذِينَ قاتَلُوا رَسُولَ اللَّهِ صَلّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وسَلَّمَ يَوْمَ بَدْرٍ، وقِيلَ: نَزَلَتْ في بَطْنَيْنِ مِن بُطُونِ قُرَيْشٍ بَنِي مَخْزُومٍ وبَنِي أُمَيَّةَ، وقِيلَ: نَزَلَتْ في مُتَنَصِّرَةِ العَرَبِ، وهم جَبَلَةُ بْنُ الأيْهَمِ وأصْحابُهُ، وفِيهِ نَظَرٌ، فَإنَّ جَبَلَةَ وأصْحابَهُ لَمْ يُسْلِمُوا إلّا في خِلافَةِ عُمَرَ بْنِ الخَطّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وقِيلَ: إنَّها عامَّةٌ في جَمِيعِ المُشْرِكِينَ، وقِيلَ: المُرادُ بِتَبْدِيلِ نِعْمَةِ اللَّهِ (p-٧٤٨)كُفْرًا أنَّهم لَمّا كَفَرُوها سَلَبَهُمُ اللَّهُ ذَلِكَ فَصارُوا مُتَبَدِّلِينَ بِها الكُفْرَ ﴿وأحَلُّوا قَوْمَهم دارَ البَوارِ﴾ أيْ أنْزَلُوا قَوْمَهم بِسَبَبِ ما زَيَّنُوهُ لَهم مِنَ الكُفْرِ، ﴿دارَ البَوارِ﴾ وهي جَهَنَّمُ، والبَوارُ الهَلاكُ، وقِيلَ: هم قادَةُ قُرَيْشٍ أحَلُّوا قَوْمَهم يَوْمَ بَدْرٍ دارَ البَوارِ: أيِ الهَلاكِ، وهو القَتْلُ الَّذِي أُصِيبُوا بِهِ، ومِنهُ قَوْلُ الشّاعِرِ: ؎فَلَمْ أرَ مِثْلَهم أبْطالَ حَرْبٍ غَداةَ الحَرْبِ إذْ خِيفَ البَوارُ والأوَّلُ أوْلى لِقَوْلِهِ: جَهَنَّمَ فَإنَّهُ عَطْفُ بَيانٍ لِدارِ البَوارِ، و( يَصْلَوْنَها ) في مَحَلِّ نَصْبٍ عَلى الحالِ، أوْ هو مُسْتَأْنَفٌ لِبَيانِ كَيْفِيَّةِ حُلُولِهِمْ فِيها ﴿وبِئْسَ القَرارُ﴾ أيْ بِئْسَ القَرارُ قَرارُهم فِيها، أوْ بِئْسَ المَقَرُّ جَهَنَّمُ، فالمَخْصُوصُ بِالذَّمِّ مَحْذُوفٌ. ﴿وجَعَلُوا لِلَّهِ أنْدادًا﴾ مَعْطُوفٌ عَلى: وأحَلُّوا: أيْ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ في الرُّبُوبِيَّةِ، أوْ في التَّسْمِيَةِ وهي الأصْنامُ. قَرَأ ابْنُ كَثِيرٍ وأبُو عَمْرٍو " لِيَضِلُّوا " بِفَتْحِ الياءِ، أيْ: لِيَضِلُّوا أنْفُسَهم عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ، وتَكُونُ اللّامُ لِلْعاقِبَةِ، أيْ: لِيَتَعَقَّبَ جَعْلَهم لِلَّهِ أنْدادًا ضَلالُهم، لِأنَّ العاقِلَ لا يُرِيدُ ضَلالَ نَفْسِهِ، وحَسُنَ اسْتِعْمالُ لامِ العاقِبَةِ هُنا لِأنَّها تُشْبِهُ الغَرَضَ والغايَةَ مِن جِهَةِ حُصُولِها في آخِرِ المَراتِبِ، والمُشابَهَةُ أحَدُ الأُمُورِ المُصَحِّحَةِ لِلْمَجازِ. وقَرَأ الباقُونَ بِضَمِّ الياءِ لِيُوقِعُوا قَوْمَهم في الضَّلالِ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ، فَهَذا هو الغَرَضُ مِن جَعْلِهِمْ لِلَّهِ أنْدادًا. ثُمَّ هَدَّدَهم سُبْحانَهُ، فَقالَ لِنَبِيِّهِ صَلّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وسَلَّمَ: قُلْ تَمَتَّعُوا بِما أنْتُمْ فِيهِ مِنَ الشَّهَواتِ، وما زَيَّنَتْهُ لَكم أنْفُسُكم مِن كُفْرانِ النِّعَمِ وإضْلالِ النّاسِ ﴿فَإنَّ مَصِيرَكم إلى النّارِ﴾ أيْ مَرَدُّكم ومَرْجِعُكم إلَيْها لَيْسَ إلّا، ولَمّا كانَ هَذا حالَهم، وقَدْ صارُوا لِفَرْطِ تَهالُكِهِمْ عَلَيْهِ وانْهِماكِهِمْ فِيهِ لا يُقْلِعُونَ عَنْهُ، ولا يَقْبَلُونَ فِيهِ نُصْحَ النّاصِحِينَ جُعِلَ الأمْرُ بِمُباشَرَتِهِ مَكانَ نَهْيِ قُرْبانِهِ؛ إيضاحًا لِما تَكُونُ عَلَيْهِ عاقِبَتُهم، وأنَّهم لا مَحالَةَ صائِرُونَ إلى النّارِ، فَلا بُدَّ لَهم مِن تَعاطِي الأسْبابِ المُقْتَضِيَةِ ذَلِكَ، فَجُمْلَةُ ﴿فَإنَّ مَصِيرَكم إلى النّارِ﴾ تَعْلِيلٌ لِلْأمْرِ بِالتَّمَتُّعِ، وفِيهِ مِنَ التَّهْدِيدِ ما لا يُقادَرُ قَدَرُهٌ، ويَجُوزُ أنْ تَكُونَ هَذِهِ الجُمْلَةُ جَوابًا لِمَحْذُوفٍ دَلَّ عَلَيْهِ سِياقُ الكَلامِ، كَأنَّهُ قِيلَ: فَإنْ دُمْتُمْ عَلى ذَلِكَ فَإنَّ مَصِيرَكم إلى النّارِ، والأوَّلُ أوْلى والنَّظْمُ القُرْآنِيِّ عَلَيْهِ أدَلُّ، وذَلِكَ كَما يُقالُ لِمَن يَسْعى في مُخالَفَةِ السُّلْطانِ: اصْنَعْ ما شِئْتَ مِنَ المُخالَفَةِ، فَإنَّ مَصِيرَكَ إلى السَّيْفِ. ﴿قُلْ لِعِبادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا يُقِيمُوا الصَّلاةَ ويُنْفِقُوا مِمّا رَزَقْناهم سِرًّا وعَلانِيَةً﴾ لَمّا أمَرَهُ بِأنْ يَقُولَ لِلْمُبَدِّلِينَ نِعْمَةَ اللَّهِ كُفْرًا الجاعِلِينَ لِلَّهِ أنْدادًا ما قالَهُ لَهم؛ أمَرَهُ سُبْحانَهُ أنْ يَقُولَ لِلطّائِفَةِ المُقابِلَةِ لَهم، وهي طائِفَةُ المُؤْمِنِينَ - هَذا القَوْلَ، والمَقُولُ مَحْذُوفٌ دَلَّ عَلَيْهِ المَذْكُورُ: أيْ قُلْ لِعِبادِي أقِيمُوا، وأنْفِقُوا، ويُقِيمُوا، ويُنْفِقُوا، فَجَزَمَ " يُقِيمُوا " عَلى أنَّهُ جَوابُ الأمْرِ المَحْذُوفِ، وكَذَلِكَ " يُنْفِقُوا "، ذَكَرَ مَعْنى هَذا الفَرّاءُ. وقالَ الزَّجّاجُ: إنَّ " يُقِيمُوا " مَجْزُومٌ بِمَعْنى اللّامِ، أيْ: لِيُقِيمُوا فَأُسْقِطَتِ اللّامُ: ثُمَّ ذَكَرَ وجْهًا آخَرَ لِلْجَزْمِ مِثْلَ ما ذَكَرَهُ الفَرّاءُ: وانْتِصابُ " سِرًّا وعَلانِيَةً "، إمّا عَلى الحالِ، أيْ: مُسِرِّينَ ومُعْلِنِينَ، أوْ عَلى المَصْدَرِ، أيْ: إنْفاقَ سِرٍّ وإنْفاقَ عَلانِيَةٍ، أوْ عَلى الظَّرْفِ، أيْ: وقْتَ سِرٍّ ووَقْتَ عَلانِيَةٍ. قالَ الجُمْهُورُ: السِّرُّ ما خَفِيَ، والعَلانِيَةُ ما ظَهَرَ. وقِيلَ: السِّرُّ التَّطَوُّعُ، والعَلانِيَةُ الفَرْضُ، وقَدْ تَقَدَّمَ بَيانُ هَذا عِنْدَ تَفْسِيرِ قَوْلِهِ: ﴿إنْ تُبْدُوا الصَّدَقاتِ فَنِعِمّا هِيَ﴾ [البقرة: ٣٧١] ﴿مِن قَبْلِ أنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا بَيْعٌ فِيهِ ولا خِلالٌ﴾ قالَ أبُو عُبَيْدَةَ: البَيْعُ هاهُنا الفِداءُ والخِلالُ المُخالَّةُ، وهو مَصْدَرٌ. قالَ الواحِدِيُّ: هَذا قَوْلُ جَمِيعِ أهْلِ اللُّغَةِ. وقالَ أبُو عَلِيٍّ الفارِسِيُّ: يَجُوزُ أنْ يَكُونَ جَمْعَ خُلَّةٍ مِثْلَ بُرْمَةِ وبِرامٍ وعُلْبَةِ وعِلابٍ، والمَعْنى: أنَّ يَوْمَ القِيامَةِ لا بَيْعَ فِيهِ حَتّى يَفْتَدِيَ المُقَصِّرُ في العَمَلِ نَفْسَهُ مِن عَذابِ اللَّهِ بِدَفْعِ عِوَضٍ عَنْ ذَلِكَ، ولَيْسَ هُناكَ مُخالَلَةٌ حَتّى يَشْفَعَ الخَلِيلُ لِخَلِيلِهِ ويُنْقِذَهُ مِنَ العَذابِ، فَأمَرَهم سُبْحانَهُ بِالإنْفاقِ في وُجُوهِ الخَيْرِ مِمّا رَزَقَهُمُ اللَّهُ ما دامُوا في الحَياةِ الدُّنْيا قادِرِينَ عَلى إنْفاقِ أمْوالِهِمْ مِن قَبْلِ أنْ يَأْتِيَ يَوْمُ القِيامَةِ، فَإنَّهم لا يَقْدِرُونَ عَلى ذَلِكَ بَلْ لا مالَ لَهم إذْ ذاكَ، فالجُمْلَةُ أعْنِي ﴿مِن قَبْلِ أنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا بَيْعٌ فِيهِ ولا خِلالٌ﴾ لِتَأْكِيدِ مَضْمُونِ الأمْرِ بِالإنْفاقِ مِمّا رَزَقَهُمُ اللَّهُ. ويُمْكِنُ أنْ يَكُونَ فِيها أيْضًا تَأْكِيدٌ لِمَضْمُونِ الأمْرِ بِإقامَةِ الصَّلاةِ، وذَلِكَ لِأنَّ تَرْكَها كَثِيرًا ما يَكُونُ بِسَبَبِ الِاشْتِغالِ بِالبَيْعِ ورِعايَةِ حُقُوقِ الأخِلّاءِ، وقَدْ تَقَدَّمَ في البَقَرَةِ تَفْسِيرُ البَيْعِ والخِلالِ. ﴿اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ والأرْضَ﴾ أيْ أبْدَعَهُما واخْتَرَعَهُما عَلى غَيْرِ مِثالٍ وخَلَقَ ما فِيهِما مِنَ الأجْرامِ العُلْوِيَّةِ والسُّفْلِيَّةِ، والِاسْمُ الشَّرِيفُ مُبْتَدَأٌ وما بَعْدَهُ خَبَرُهُ ( ﴿وأنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً﴾ ) المُرادُ بِالسَّماءِ هُنا جِهَةُ العُلُوِّ، فَإنَّهُ يَدْخُلُ في ذَلِكَ الفَلَكُ عِنْدَ مَن قالَ إنَّ ابْتِداءَ المَطَرِ مِنهُ، ويَدْخُلُ فِيهِ السَّحابُ عِنْدَ مَن قالَ إنَّ ابْتِداءَ المَطَرِ مِنها، وتَدْخُلُ فِيهِ الأسْبابُ الَّتِي تُثِيرُ السَّحابَ كالرِّياحِ، وتَنْكِيرُ الماءِ هُنا لِلنَّوْعِيَّةِ، أيْ: نَوْعًا مِن أنْواعِ الماءِ، وهو ماءُ المَطَرِ ﴿فَأخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَراتِ رِزْقًا لَكُمْ﴾ أيْ أخْرَجَ بِذَلِكَ الماءِ مِنَ الثَّمَراتِ المُتَنَوِّعَةِ رِزْقًا لِبَنِي آدَمَ يَعِيشُونَ بِهِ، وِ ( مِن ) في مِنَ الثَّمَراتِ لِلْبَيانِ كَقَوْلِكَ: أنْفَقْتُ مِنَ الدَّراهِمِ، وقِيلَ: لِلتَّبْعِيضِ لِأنَّ الثَّمَراتِ مِنها ما هو رِزْقٌ لِبَنِي آدَمَ، ومِنها ما لَيْسَ بِرِزْقٍ لَهم، وهو ما لا يَأْكُلُونَهُ ولا يَنْتَفِعُونَ بِهِ وسَخَّرَ لَكُمُ الفُلْكَ فَجَرَتْ عَلى إرادَتِكم واسْتَعْمَلْتُمُوها في مَصالِحِكم، ولِذا قالَ: لِتَجْرِيَ في البَحْرِ كَما تُرِيدُونَ وعَلى ما تَطْلُبُونَ بِأمْرِهِ أيْ بِأمْرِ اللَّهِ ومَشِيئَتِهِ، وقَدْ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُ هَذا في البَقَرَةِ وسَخَّرَ لَكُمُ الأنْهارَ أيْ ذَلَّلَها لَكم بِالرُّكُوبِ عَلَيْها والإجْراءِ لَها إلى حَيْثُ تُرِيدُونَ. وسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ والقَمَرَ لِتَنْتَفِعُوا بِهِما وتَسْتَضِيئُوا بِضَوْئِهِما، وانْتِصابُ دائِبَيْنِ عَلى الحالِ، والدُّءُوبُ مُرُورُ الشَّيْءِ في العَمَلِ عَلى عادَةٍ جارِيَةٍ، أيْ: دائِبَيْنِ في إصْلاحِ ما يُصْلِحانِهِ مِنَ النَّباتِ وغَيْرِهِ، وقِيلَ: دائِبَيْنِ في السَّيْرِ امْتِثالًا لِأمْرِ اللَّهِ، والمَعْنى: يَجْرِيانِ إلى يَوْمِ القِيامَةِ لا يَفْتُرانِ ولا يَنْقَطِعُ سَيْرُهُما ﴿وسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ والنَّهارَ﴾ يَتَعاقَبانِ، فالنَّهارُ لِسَعْيِكم في أُمُورِ مَعاشِكم وما تَحْتاجُونَ إلَيْهِ مِن أُمُورِ دُنْياكم، واللَّيْلُ لِتَسْكُنُوا كَما قالَ سُبْحانَهُ: (p-٧٤٩)﴿ومِن رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ والنَّهارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ ولِتَبْتَغُوا مِن فَضْلِهِ﴾ [القصص: ٧٣] . ﴿وآتاكم مِن كُلِّ ما سَألْتُمُوهُ﴾ قالَ الأخْفَشُ، أيْ: أعْطاكم مِن كُلِّ مَسْئُولٍ سَألْتُمُوهُ شَيْئًا فَحُذِفَ شَيْئًا، وقِيلَ: المَعْنى: وآتاكم مِن كُلِّ ما سَألْتُمُوهُ ومِن كُلِّ ما لَمْ تَسْألُوهُ فَحُذِفَتِ الجُمْلَةَ الأُخْرى، قالَهُ ابْنُ الأنْبارِيِّ. وقِيلَ: " مِن " زائِدَةٌ، أيْ: آتاكم كُلَّ ما سَألْتُمُوهُ، وقِيلَ: لِلتَّبْعِيضِ، أيْ: آتاكم بَعْضَ كُلِّ ما سَألْتُمُوهُ. وقَرَأ ابْنُ عَبّاسٍ والضَّحّاكُ والحَسَنُ وقَتادَةُ: " مِن كُلٍّ " بِتَنْوِينِ " كُلٍّ "، وعَلى هَذِهِ القِراءَةِ يَجُوزُ أنْ تَكُونَ " ما " نافِيَةً، أيْ: آتاكم مِن جَمِيعِ ذَلِكَ حالَ كَوْنِكم غَيْرَ سائِلِينَ لَهُ، ويَجُوزُ أنْ تَكُونَ مَوْصُولَةً، أيْ: آتاكم مِن كُلِّ شَيْءٍ الَّذِي سَألْتُمُوهُ ﴿وإنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوها﴾ أيْ وإنْ تَتَعَرَّضُوا لِتَعْدادِ نِعَمِ اللَّهِ الَّتِي أنْعَمَ بِها عَلَيْكم إجْمالًا فَضْلًا عَنِ التَّفْصِيلِ لا تُطِيقُوا إحْصاءَها بِوَجْهٍ مِنَ الوُجُوهِ، ولا تَقُومُوا بِحَصْرِها عَلى حالٍ مِنَ الأحْوالِ، وأصْلُ الإحْصاءِ أنَّ الحاسِبَ إذا بَلَغَ عَقْدًا مُعَيَّنًا مِن عُقُودِ الأعْدادِ وضَعَ حَصاةً لِيَحْفَظَهُ بِها، ومَعْلُومٌ أنَّهُ لَوْ رامَ فَرْدٌ مِن أفْرادِ العِبادِ أنْ يُحْصِيَ ما أنْعَمَ اللَّهُ بِهِ عَلَيْهِ في خَلْقِ عُضْوٍ مِن أعْضائِهِ، أوْ حاسَّةٍ مِن حَواسِّهِ لَمْ يَقْدِرْ عَلى ذَلِكَ قَطُّ ولا أمْكَنَهُ أصْلًا، فَكَيْفَ بِما عَدا ذَلِكَ مِنَ النِّعَمِ في جَمِيعِ ما خَلَقَهُ اللَّهُ في بَدَنِهِ، فَكَيْفَ بِما عَدا ذَلِكَ مِنَ النِّعَمِ الواصِلَةِ إلَيْهِ في كُلِّ وقْتٍ عَلى تَنَوُّعِها واخْتِلافِ أجْناسِها. اللَّهُمَّ إنّا نَشْكُرُكَ عَلى كُلِّ نِعْمَةٍ أنْعَمْتَ بِها عَلَيْنا مِمّا لا يَعْلَمُهُ إلّا أنْتَ، ومِمّا عَلِمْناهُ شُكْرًا لا يُحِيطُ بِهِ حَصْرٌ ولا يَحْصُرُهُ عَدٌّ، وعَدَدَ ما شَكَرَكَ الشّاكِرُونَ بِكُلِّ لِسانٍ في كُلِّ زَمانٍ ( إنَّ الإنْسانَ لَظَلُومٌ ) لِنَفْسِهِ بِإغْفالِهِ لِشُكْرِ نِعَمِ اللَّهِ عَلَيْهِ، وظاهِرُهُ شُمُولُ كُلِّ إنْسانٍ. وقالَ الزَّجّاجُ: إنَّ الإنْسانَ اسْمُ جِنْسٍ يُقْصَدُ بِهِ الكافِرُ خاصَّةً كَما قالَ: ﴿إنَّ الإنْسانَ لَفي خُسْرٍ﴾ [العصر: ٢] ( كَفّارٌ ) أيْ: شَدِيدُ كُفْرانِ نِعَمِ اللَّهِ عَلَيْهِ جاحِدٌ لَها غَيْرُ شاكِرٍ لِلَّهِ سُبْحانَهُ عَلَيْها، كَما يَنْبَغِي ويَجِبُ عَلَيْهِ. وقَدْ أخْرَجَ عَبْدُ الرَّزّاقِ وسَعِيدُ بْنُ مَنصُورٍ والبُخارِيُّ والنَّسائِيُّ وابْنُ جَرِيرٍ وابْنُ أبِي حاتِمٍ وابْنُ مَرْدَوَيْهِ والبَيْهَقِيُّ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ في قَوْلِهِ: ﴿ألَمْ تَرَ إلى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَةَ اللَّهِ كُفْرًا﴾ قالَ: هم كُفّارُ أهْلِ مَكَّةَ. وأخْرَجَ البُخارِيُّ في تارِيخِهِ وابْنُ جَرِيرٍ وابْنُ المُنْذِرِ وابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ عُمَرَ بْنِ الخَطّابِ في قَوْلِهِ: ﴿ألَمْ تَرَ إلى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَةَ اللَّهِ كُفْرًا﴾ قالَ: هُما الأفْجَرانِ مِن قُرَيْشٍ: بَنُو المُغِيرَةِ، وبَنُو أُمَيَّةَ، فَأمّا بَنُو المُغِيرَةِ فَكُفِيتُمُوهم يَوْمَ بَدْرٍ، وأمّا بَنُو أُمَيَّةَ فَمُتِّعُوا إلى حِينٍ. وأخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ عَنْ عُمَرَ نَحْوَهُ. وأخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وابْنُ المُنْذِرِ وابْنُ أبِي حاتِمٍ والطَّبَرانِيُّ في الأوْسَطِ والحاكِمُ وصَحَّحَهُ وابْنُ مَرْدَوَيْهِ مِن طُرُقٍ عَنْ عَلِيٍّ في الآيَةِ نَحْوَهُ أيْضًا. وأخْرَجَ عَبْدُ الرَّزّاقِ والفِرْيابِيُّ والنَّسائِيُّ وابْنُ جَرِيرٍ وابْنُ أبِي حاتِمٍ وابْنُ الأنْبارِيِّ والحاكِمُ وصَحَّحَهُ، وابْنُ مَرْدَوَيْهِ والبَيْهَقِيُّ عَنْ أبِي الطُّفَيْلِ أنَّ ابْنَ الكَوّاءِ سَألَ عَلِيًّا عَنِ الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَةَ اللَّهِ كُفْرًا قالَ: هُمُ الفُجّارُ مِن قُرَيْشٍ كُفِيتُهم يَوْمَ بَدْرٍ. قالَ: فَمَنِ الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهم في الحَياةِ الدُّنْيا ؟ قالَ: مِنهم أهْلُ حَرُوراءَ. وقَدْ رُوِيَ في تَفْسِيرِ هَذِهِ الآيَةِ عَنْ عَلِيٍّ مِن طُرُقٍ نَحْوُ هَذا. وأخْرَجَ ابْنُ أبِي حاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ في الآيَةِ قالَ: هم جَبَلَةُ بْنُ الأيْهَمِ والَّذِينَ اتَّبَعُوهُ مِنَ العَرَبِ فَلَحِقُوا بِالرُّومِ. وأخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وابْنُ المُنْذِرِ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ ﴿وأحَلُّوا قَوْمَهم دارَ البَوارِ﴾ قالَ: الهَلاكِ. وأخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وابْنُ المُنْذِرِ عَنْ قَتادَةَ في قَوْلِهِ: ﴿وجَعَلُوا لِلَّهِ أنْدادًا﴾ قالَ: أشْرَكُوا بِاللَّهِ. وأخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وابْنُ المُنْذِرِ وابْنُ أبِي حاتِمٍ عَنْ مُجاهِدٍ ﴿وسَخَّرَ لَكُمُ الأنْهارَ﴾ قالَ: بِكُلِّ فائِدَةٍ. وأخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ ﴿وسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ والقَمَرَ دائِبَيْنِ﴾ قالَ: دُءُوبُهُما في طاعَةِ اللَّهِ. وأخْرَجَ ابْنُ أبِي حاتِمٍ عَنْ عِكْرِمَةَ ﴿وآتاكم مِن كُلِّ ما سَألْتُمُوهُ﴾ قالَ: مِن كُلِّ شَيْءٍ رَغِبْتُمْ إلَيْهِ فِيهِ. وأخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وابْنُ المُنْذِرِ عَنْ مُجاهِدٍ مِثْلَهُ. وأخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ الحَسَنِ قالَ: مِن كُلِّ الَّذِي سَألْتُمُوهُ. وأخْرَجَ ابْنُ أبِي الدُّنْيا والبَيْهَقِيُّ في الشُّعَبِ عَنْ سُلَيْمانَ التَّيْمِيِّ قالَ: إنَّ اللَّهَ أنْعَمَ عَلى العِبادِ عَلى قَدَرِهِ وكَلَّفَهُمُ الشُّكْرَ عَلى قَدَرِهِمْ. وأخْرَجا أيْضًا عَنْ بَكْرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ المُزَنِيِّ قالَ: يا ابْنَ آدَمَ إنْ أرَدْتَ أنْ تَعْلَمَ قَدْرَ ما أنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْكَ فَغَمِّضْ عَيْنَيْكَ. وأخْرَجَ البَيْهَقِيُّ عَنْ أبِي الدَّرْداءِ قالَ: مَن لَمْ يَعْرِفْ نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْهِ إلّا في مَطْعَمِهِ ومَشْرَبِهِ، فَقَدْ قَلَّ عَمَلُهُ وحَضَرَ عَذابُهُ. وأخْرَجَ ابْنُ أبِي الدُّنْيا والبَيْهَقِيُّ عَنْ أبِي أيُّوبَ القُرَشِيِّ مَوْلى بَنِي هاشِمٍ قالَ: قالَ داوُدُ عَلَيْهِ السَّلامُ: رَبِّ أخْبِرْنِي ما أدْنى نِعْمَتِكَ عَلَيَّ، فَأوْحى إلَيَّ: يا داوُدُ تَنَفَّسَ فَتَنَفَّسَ، فَقالَ: هَذا أدْنى نِعْمَتِي عَلَيْكَ. وأخْرَجَ ابْنُ أبِي حاتِمٍ عَنْ عُمَرَ بْنِ الخَطّابِ أنَّهُ قالَ: اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي ظُلْمِي وكُفْرِي، فَقالَ قائِلٌ: يا أمِيرَ المُؤْمِنِينَ هَذا الظُّلْمُ، فَما بالُ الكُفْرِ ؟ قالَ: " إنَّ الإنْسانَ لَظَلُومٌ كَفّارٌ " .
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب