الباحث القرآني

. قَوْلُهُ: ﴿قالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكم أنْفُسُكم أمْرًا﴾ أيْ زَيَّنَتْ، والأمْرُ هُنا قَوْلُهم ﴿إنَّ ابْنَكَ سَرَقَ﴾ يُوسُفَ ٨١، وما سَرَقَ في الحَقِيقَةِ، وقِيلَ: المُرادُ بِالأمْرِ إخْراجُهم بِنْيامِينَ، والمُضِيُّ بِهِ إلى مِصْرَ طَلَبًا لِلْمَنفَعَةِ فَعادَ ذَلِكَ بِالمَضَرَّةِ، وقِيلَ: التَّسْوِيلُ التَّخْيِيلُ، أيْ: خَيَّلَتْ لَكم أنْفُسُكم أمْرًا لا أصْلَ لَهُ، وقِيلَ: الأمْرُ الَّذِي سَوَّلَتْ لَهم أنْفُسُهم فُتَياهم بِأنَّ السّارِقَ يُؤْخَذُ بِسَرِقَتِهِ، والإضْرابُ هُنا هو بِاعْتِبارِ ما أثْبَتُوهُ مِنَ البَراءَةِ لِأنْفُسِهِمْ، لا بِاعْتِبارِ أصْلِ الكَلامِ فَإنَّهُ صَحِيحٌ، والجُمْلَةُ مُسْتَأْنَفَةٌ مَبْنِيَّةٌ عَلى سُؤالٍ مُقَدَّرٍ كَغَيْرِها. وجُمْلَةُ ﴿فَصَبْرٌ جَمِيلٌ﴾ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ أوْ مُبْتَدَأٌ خَبَرُهُ مَحْذُوفٌ، أيْ: فَأمْرِي صَبْرٌ جَمِيلٌ أجْمَلُ بِي وأوْلى لِي والصَّبْرُ الجَمِيلُ هو الَّذِي لا يَبُوحُ صاحِبُهُ بِالشَّكْوى بَلْ يُفَوِّضُ أمْرَهُ إلى اللَّهِ ويَسْتَرْجِعُ، وقَدْ ورَدَ أنَّ الصَّبْرَ عِنْدَ أوَّلِ الصَّدْمَةِ ﴿عَسى اللَّهُ أنْ يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعًا﴾ أيْ بِيُوسُفَ وأخِيهِ بِنْيامِينَ، والأخِ الثّالِثِ الباقِي بِمِصْرَ، وهو كَبِيرُهم كَما تَقَدَّمَ، وإنَّما قالَ هَكَذا لِأنَّهُ قَدْ كانَ عِنْدَهُ أنَّ يُوسُفَ لَمْ يَمُتْ، وأنَّهُ باقٍ عَلى الحَياةِ وإنْ غابَ عَنْهُ خَبَرُهُ ﴿إنَّهُ هو العَلِيمُ﴾ بِحالِي ﴿الحَكِيمُ﴾ فِيما يَقْضِي بِهِ. ﴿وتَوَلّى عَنْهُمْ﴾ أيْ أعْرَضَ عَنْهم، وقَطَعَ الكَلامَ مَعَهم ﴿وقالَ ياأسَفى عَلى يُوسُفَ﴾ . قالَ الزَّجّاجُ: الأصْلُ يا أسَفِي، فَأُبْدِلَ مِنَ الياءِ ألِفًا لِخِفَّةِ الفَتْحَةِ، والأسَفُ: شِدَّةُ الجَزَعِ، وقِيلَ: شِدَّةُ الحُزْنِ، ومِنهُ قَوْلُ كُثَيِّرٍ: ؎فَيا أسَفا لِلْقَلْبِ كَيْفَ انْصِرافُهُ ولِلنَّفْسِ لَمّا سُلِّيَتْ فَتَسَلَّتِ قالَ يَعْقُوبُ هَذِهِ المَقالَةَ لَمّا بَلَغَ مِنهُ الحُزْنُ غايَةً مُبالَغَةً بِسَبَبِ فِراقِهِ لِيُوسُفَ، وانْضِمامِ فِراقِهِ لِأخِيهِ بِنْيامِينَ، وبُلُوغِ ما بَلَغَهُ مِن كَوْنِهِ أسِيرًا عِنْدَ مَلِكِ مِصْرَ، فَتَضاعَفَتْ أحْزانُهُ، وهاجَ عَلَيْهِ الوَجْدُ القَدِيمُ بِما أثارَهُ مِنَ الخَبَرِ الأخِيرِ. وقَدْ رُوِيَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ أنَّ يَعْقُوبَ لَمْ يَكُنْ عِنْدَهُ ما ثَبَتَ (p-٧١٠)فِي شَرِيعَتِنا مِنَ الِاسْتِرْجاعِ والصَّبْرِ عَلى المَصائِبِ، ولَوْ كانَ عِنْدَهُ ذَلِكَ لَما قالَ: يا أسَفا عَلى يُوسُفَ. ومَعْنى المُناداةِ لِلْأسَفِ طَلَبُ حُضُورِهِ، كَأنَّهُ قالَ: تَعالَ يا أسَفِي وأقْبِلْ إلَيَّ ﴿وابْيَضَّتْ عَيْناهُ مِنَ الحُزْنِ﴾ أيِ انْقَلَبَ سَوادُ عَيْنَيْهِ بَياضًا مِن كَثْرَةِ البُكاءِ. قِيلَ إنَّهُ زالَ إدْراكُهُ بِحاسَّةِ البَصَرِ بِالمَرَّةِ، وقِيلَ: كانَ يُدْرِكُ إدْراكًا ضَعِيفًا. وقَدْ قِيلَ في تَوْجِيهِ ما وقَعَ مِن يَعْقُوبَ عَلَيْهِ السَّلامُ مِن هَذا الحُزْنِ العَظِيمِ المُفْضِي إلى ذَهابِ بَصَرِهِ كُلًّا أوْ بَعْضًا بِأنَّهُ إنَّما وقَعَ مِنهُ ذَلِكَ لِأنَّهُ عَلِمَ أنَّ يُوسُفَ حَيٌّ، فَخافَ عَلى دِينِهِ مَعَ كَوْنِهِ بِأرْضِ مِصْرَ وأهْلُها حِينَئِذٍ كَفّارٌ، وقِيلَ: إنَّ مُجَرَّدَ الحُزْنِ لَيْسَ بِمُحَرَّمٍ، وإنَّما المُحَرَّمُ ما يُفْضِي مِنهُ إلى الوَلَهِ وشَقِّ الثِّيابِ والتَّكَلُّمِ بِما لا يَنْبَغِي. وقَدْ «قالَ النَّبِيُّ صَلّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وسَلَّمَ عِنْدَ مَوْتِ ولَدِهِ إبْراهِيمَ: تَدْمَعُ العَيْنُ، ويَحْزَنُ القَلْبُ، ولا نَقُولُ ما يُسْخِطُ الرَّبَّ، وإنّا عَلَيْكَ يا إبْراهِيمُ لَمُحْزَنُونَ» . ويُؤَيِّدُ هَذا قَوْلُهُ: ﴿فَهُوَ كَظِيمٌ﴾ أيْ مَكْظُومٌ، فَإنَّ مَعْناهُ: أنَّهُ مَمْلُوءٌ مِنَ الحُزْنِ مُمْسِكٌ لَهُ لا يَبُثُّهُ، ومِنهُ كَظْمُ الغَيْظِ وهو إخْفاؤُهُ، فالمَكْظُومُ المَسْدُودُ عَلَيْهِ طَرِيقُ حُزْنِهِ، مِن كَظَمَ السِّقاءَ: إذا سَدَّهُ عَلى ما فِيهِ، والكَظَمُ بِفَتْحِ الظّاءِ: مَخْرَجُ النَّفَسِ، يُقالُ أخَذَ بِأكْظامِهِ وقِيلَ: الكَظِيمُ بِمَعْنى الكاظِمِ: أيِ المُشْتَمِلِ عَلى حُزْنِهِ المُمْسِكِ لَهُ، ومِنهُ: ؎فَإنْ أكُ كاظِمًا لِمُصابِ ناسٍ ∗∗∗ فَإنِّي اليَوْمَ مُنْطَلِقٌ لِسانِي ومِنهُ ﴿والكاظِمِينَ الغَيْظَ﴾ [آل عمران: ١٣٤] . وقالَ الزَّجّاجُ: مَعْنى كَظِيمٌ مَحْزُونٌ. ورُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ أنَّهُ قالَ: مَعْناهُ مَغْمُومٌ مَكْرُوبٌ. قالَ بَعْضُ أهْلِ اللُّغَةِ: الحُزْنُ بِالضَّمِّ والسُّكُونِ: البُكاءُ، وبِفَتْحَتَيْنِ: ضِدُّ الفَرَحِ. وقالَ أكْثَرُ أهْلِ اللُّغَةِ: هُما لُغَتانِ بِمَعْنى ﴿قالُوا تاللَّهِ تَفْتَأُ تَذْكُرُ يُوسُفَ﴾ أيْ لا تَفْتَؤُ، فَحُذِفَ حَرْفُ النَّفْيِ لِعَدَمِ اللَّبْسِ. قالَ الكِسائِيُّ: فَتَأْتُ وفَتِئْتُ أفْعَلُ كَذا، أيْ: ما زِلْتُ، وقالَ الفَرّاءُ: إنَّ " لا " مُضْمَرَةٌ، أيْ: لا تَفْتَأُ. قالَ النَّحّاسُ: والَّذِي قالَ صَحِيحٌ. وقَدْ رُوِيَ عَنِ الخَلِيلِ وسِيبَوَيْهِ مِثْلُ قَوْلِ الفَرّاءِ، وأنْشَدَ الفَرّاءُ مُحْتَجًّا عَلى ما قالَهُ: ؎فَقُلْتُ يَمِينَ اللَّهِ أبْرَحُ قاعِدًا ∗∗∗ ولَوْ قَطَعُوا رَأْسِي لَدَيْكِ وأوْصالِي ويُقالُ فَتِئَ وفَتَأ لُغَتانِ، ومِنهُ قَوْلُ الشّاعِرِ: ؎فَما فَتِئْتُ حَتّى كَأنَّ غُبارَها ∗∗∗ سُرادِقُ يَوْمٍ ذِي رِياحٍ تُرْفَعُ ﴿حَتّى تَكُونَ حَرَضًا﴾ الحَرَضُ مَصْدَرٌ يَسْتَوِي فِيهِ الواحِدُ والجَمْعُ والمُذَكَّرُ والمُؤَنَّثُ، والصِّفَةُ المُشَبَّهَةُ حَرِضٌ بِكَسْرِ الرّاءِ كَدَنَفٍ ودَنِفٍ، وأصْلُ الحَرَضِ: الفَسادُ في الجِسْمِ أوِ العَقْلِ مِنَ الحُزْنِ أوِ العِشْقِ أوِ الهَرَمِ، حُكِيَ ذَلِكَ عَنْ أبِي عُبَيْدَةَ وغَيْرِهِ، ومِنهُ قَوْلُ الشّاعِرِ: ؎سَرى هَمِّي فَأمْرَضَنِي ∗∗∗ وقَدْ ما زادَنِي مَرَضا ؎كَذاكَ الحُبُّ قَبْلَ اليَوْ ∗∗∗ مِ مِمّا يُورِثُ الحَرَضا وقِيلَ: الحَرَضُ: ما دُونَ المَوْتِ، وقِيلَ: الهَرَمُ، وقِيلَ: الحارِضُ: البالِي الدّائِرُ. وقالَ الفَرّاءُ: الحارِضُ: الفاسِدُ الجِسْمِ والعَقْلِ، وكَذا الحَرَضُ. وقالَ مُؤَرِّجٌ: هو الذّائِبُ مِنَ الهَمِّ، ويَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُ الشّاعِرِ: ؎إنِّي امْرُؤٌ لَجَّ بِي حُبٌّ فَأحْرَضَنِي ∗∗∗ حَتّى بَلِيتُ وحَتّى شَفَّنِي السَّقَمُ ويُقالُ رَجُلٌ مُحْرَضٌ، ومِنهُ قَوْلُ الشّاعِرِ: ؎طَلَبَتْهُ الخَيْلُ يَوْمًا كامِلًا ∗∗∗ ولَوْ ألْفَتْهُ لَأضْحى مُحْرَضًا قالَ النَّحّاسُ: وحَكى أهْلُ اللُّغَةِ أحْرَضَهُ الهَمُّ: إذا أسْقَمَهُ، ورَجُلٌ حارِضٌ، أيْ: أحْمَقٌ. وقالَ الأخْفَشُ: الحارِضُ الذّاهِبُ. وقالَ ابْنُ الأنْبارِيِّ: هو الهالِكُ. والأوْلى تَفْسِيرُ الحَرَضِ هُنا بِغَيْرِ المَوْتِ والهَلاكِ مِن هَذِهِ المَعانِي المَذْكُورَةِ حَتّى يَكُونَ لِقَوْلِهِ ﴿أوْ تَكُونَ مِنَ الهالِكِينَ﴾ مَعْنًى غَيْرُ مَعْنى الحَرَضِ، فالتَّأْسِيسُ أوْلى مِنَ التَّأْكِيدِ، ومَعْنى ﴿مِنَ الهالِكِينَ﴾: مِنَ المَيِّتِينَ، وغَرَضُهم مَنعُ يَعْقُوبَ مِنَ البُكاءِ والحُزْنِ شَفَقَةً عَلَيْهِ وإنْ كانُوا هم سَبَبَ أحْزانِهِ ومَنشَأ هُمُومِهِ وغُمُومِهِ. ﴿قالَ إنَّما أشْكُو بَثِّي وحُزْنِي إلى اللَّهِ﴾ هَذِهِ الجُمْلَةُ مُسْتَأْنَفَةٌ، كَأنَّهُ قِيلَ: فَما قالَ يَعْقُوبُ لَمّا قالُوا لَهُ ما قالُوا ؟ والبَثُّ: ما يَرِدُ عَلى الإنْسانِ مِنَ الأشْياءِ الَّتِي يَعْظُمُ حُزْنُ صاحِبِها بِها حَتّى لا يَقْدِرَ عَلى إخْفائِها، كَذا قالَ أهْلُ اللُّغَةِ، وهو مَأْخُوذٌ مِن بَثَّثَهُ، أيْ: فَرَّقَهُ، فَسُمِّيَتِ المُصِيبَةُ بَثًّا مَجازًا. قالَ ذُو الرُّمَّةِ: ؎وقَفْتُ عَلى رَبْعٍ لِمَيَّةَ يا فَتى ∗∗∗ فَما زِلْتُ أبْكِي عِنْدَهُ وأُخاطِبُهْ ؎وأسْقِيهِ حَتّى كادَ مِمّا أبُثُّهُ ∗∗∗ تُكَلِّمُنِي أحْجارُهُ ومَلاعِبُهْ وقَدْ ذَكَرَ المُفَسِّرُونَ أنَّ الإنْسانَ إذا قَدَرَ عَلى كَتْمِ ما نَزَلَ بِهِ مِنَ المَصائِبِ كانَ ذَلِكَ حُزْنًا، وإنْ لَمْ يَقْدِرْ عَلى كَتْمِهِ كانَ ذَلِكَ بَثًّا، فالبَثُّ عَلى هَذا أعْظَمُ الحُزْنِ وأصْعَبُهُ، وقِيلَ: البَثُّ الهَمُّ، وقِيلَ: هو الحاجَةُ، وعَلى هَذا القَوْلِ يَكُونُ عَطْفُ الحُزْنِ عَلى البَثِّ واضِحُ المَعْنى. وأمّا عَلى تَفْسِيرِ البَثِّ بِالحُزْنِ العَظِيمِ، فَكَأنَّهُ قالَ: إنَّما أشْكُو حُزْنِي العَظِيمَ وما دُونَهُ مِنَ الحُزْنِ إلى اللَّهِ لا إلى غَيْرِهِ مِنَ النّاسِ. وقَدْ قُرِئَ " حُزْنِي " بِضَمِّ الحاءِ وسُكُونِ الزّايِ و" حَزَنِي " بِفَتْحِهِما ﴿وأعْلَمُ مِنَ اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ﴾ أيْ أعْلَمُ مِن لُطْفِهِ وإحْسانِهِ وثَوابِهِ عَلى المُصِيبَةِ ما لا تَعْلَمُونَهُ أنْتُمْ، وقِيلَ: أرادَ عِلْمَهُ بِأنَّ يُوسُفَ حَيٌّ، وقِيلَ: أرادَ عِلْمَهُ بِأنَّ رُؤْياهُ صادِقَةٌ، وقِيلَ: أعْلَمُ مِن إجابَةِ المُضْطَرِّينَ إلى اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ. ﴿يابَنِيَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِن يُوسُفَ وأخِيهِ﴾ التَّحَسُّسُ بِمُهْمَلاتٍ: طَلَبُ الشَّيْءِ بِالحَواسِّ، مَأْخُوذٌ مِنَ الحِسِّ، أوْ مِنَ الإحْساسِ: أيِ اذْهَبُوا فَتَعَرَّفُوا خَبَرَ يُوسُفَ وأخِيهِ وتَطَلَّبُوهُ، وقُرِيءَ بِالجِيمِ، وهو أيْضًا التَّطَلُّبُ ﴿ولا تَيْأسُوا مِن رَوْحِ اللَّهِ﴾ أيْ لا تَقْنَطُوا مِن فَرَجِهِ وتَنْفِيسِهِ. قالَ الأصْمَعِيُّ: الرَّوْحُ ما يَجِدُهُ الإنْسانُ مِن نَسِيمِ الهَواءِ فَيَسْكُنُ إلَيْهِ، والتَّرْكِيبُ يَدُلُّ عَلى الحَرَكَةِ والهِزَّةِ فَكُلُّ ما يَهْتَزُّ الإنْسانُ بِوُجُودِهِ ويَلْتَذُّ بِهِ فَهو رَوْحٌ. وحَكى الواحِدِيُّ عَنِ الأصْمَعِيِّ أيْضًا أنَّهُ قالَ: الرَّوْحُ الِاسْتِراحَةُ مِن غَمِّ القَلْبِ. وقالَ أبُو عُمَرَ: الرَّوْحُ الفَرَجُ، وقِيلَ: الرَّحْمَةُ ﴿إنَّهُ لا يَيْئَسُ مِن رَوْحِ اللَّهِ إلّا القَوْمُ الكافِرُونَ﴾ لِكَوْنِهِمْ لا يَعْلَمُونَ بِقُدْرَةِ اللَّهِ سُبْحانَهُ، وعَظِيمِ صُنْعِهِ وخَفِيِّ ألْطافِهِ. قَوْلُهُ: ﴿فَلَمّا دَخَلُوا عَلَيْهِ﴾ أيْ عَلى يُوسُفَ، وفي الكَلامِ حَذْفٌ، والتَّقْدِيرُ: فَذَهَبُوا كَما أمَرَهم أبُوهم إلى مِصْرَ لِيَتَحَسَّسُوا مِن يُوسُفَ وأخِيهِ، فَلَمّا دَخَلُوا عَلى يُوسُفَ ﴿قالُوا ياأيُّها العَزِيزُ﴾ أيِ المَلِكُ المُمْتَنِعُ (p-٧١١)القادِرُ ﴿مَسَّنا وأهْلَنا الضُّرُّ﴾ أيِ الجُوعُ والحاجَةُ. وفِيهِ دَلِيلٌ عَلى أنَّهُ تَجُوزُ الشَّكْوى عِنْدَ الضَّرُورَةِ إذا خافَ مِن إصابَتِهِ عَلى نَفْسِهِ كَما يَجُوزُ لِلْعَلِيلِ أنْ يَشْكُوَ إلى الطَّبِيبِ ما يَجِدُهُ مِنَ العِلَّةِ، وهَذِهِ المَرَّةُ الَّتِي دَخَلُوا فِيها مِصْرَ هي المَرَّةُ الثّالِثَةُ كَما يُفِيدُهُ ما تَقَدَّمَ مِن سِياقِ الكِتابِ العَزِيزِ ﴿وجِئْنا بِبِضاعَةٍ مُزْجاةٍ﴾ البِضاعَةُ هي القِطْعَةُ مِنَ المالِ يُقْصَدُ بِها شِراءُ شَيْءٍ يُقالُ أبْضَعْتُ الشَّيْءَ واسْتَبْضَعْتُهُ: إذا جَعَلْتَهُ بِضاعَةً، وفي المَثَلِ كَمُسْتَبْضِعِ التَّمْرِ إلى هَجَرَ. والإزْجاءُ: السَّوْقُ بِدَفْعٍ. قالَ الواحِدِيُّ: الإزْجاءُ في اللُّغَةِ السَّوْقُ والدَّفْعُ قَلِيلًا قَلِيلًا، ومِنهُ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿ألَمْ تَرَ أنَّ اللَّهَ يُزْجِي سَحابًا﴾ [النور: ٤٣]، والمَعْنى: أنَّها بِضاعَةٌ تُدْفَعُ ولا يَقْبَلُها التُّجّارُ. قالَ ثَعْلَبٌ: البِضاعَةُ المُزْجاةُ النّاقِصَةُ غَيْرُ التّامَّةِ. قالَ أبُو عُبَيْدَةَ: إنَّما قِيلَ لِلدَّراهِمِ الرَّدِيئَةِ مُزْجاةٌ لِأنَّها مَرْدُودَةٌ مَدْفُوعَةٌ غَيْرُ مَقْبُولَةٍ. واخْتُلِفَ في هَذِهِ البِضاعَةِ ما هي ؟ فَقِيلَ كانَتْ قَدِيدًا وحَيْسًا، وقِيلَ: صُوفٌ وسَمْنٌ، وقِيلَ: الحَبَّةُ الخَضْراءُ والصَّنَوْبَرُ، وقِيلَ: دَراهِمُ رَدِيئَةٌ، وقِيلَ: النِّعالُ والأُدْمُ. ثُمَّ طَلَبُوا مِنهُ بَعْدَ أنْ أخْبَرُوهُ بِالبِضاعَةِ الَّتِي مَعَهم أنْ يُوَفِّيَ لَهُمُ الكَيْلَ، أيْ: يَجْعَلَهُ تامًّا لا نَقْصَ فِيهِ، وطَلَبُوا مِنهُ أنْ يَتَصَدَّقَ عَلَيْهِمْ إمّا بِزِيادَةٍ يَزِيدُها لَهم عَلى ما يُقابِلُ بِضاعَتَهم. أوْ بِالإغْماضِ عَنْ رَداءَةِ البِضاعَةِ الَّتِي جاءُوا بِها، وأنْ يَجْعَلَها كالبِضاعَةِ الجَيِّدَةِ في إيفاءِ الكَيْلِ لَهم بِها، وبِهَذا قالَ أكْثَرُ المُفَسِّرِينَ، وقَدْ قِيلَ كَيْفَ يَطْلُبُونَ التَّصَدُّقَ عَلَيْهِمْ وهم أنْبِياءُ والصَّدَقَةُ مُحَرَّمَةٌ عَلى الأنْبِياءِ. وأُجِيبَ بِاخْتِصاصِ ذَلِكَ بِنَبِيِّنا مُحَمَّدٍ صَلّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وسَلَّمَ، ﴿إنَّ اللَّهَ يَجْزِي المُتَصَدِّقِينَ﴾ بِما يَجْعَلُهُ لَهم مِنَ الثَّوابِ الأُخْرَوِيِّ، أوِ التَّوْسِيعِ عَلَيْهِمْ في الدُّنْيا. وقَدْ أخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وابْنُ أبِي حاتِمٍ وأبُو الشَّيْخِ عَنْ قَتادَةَ في قَوْلِهِ: ﴿عَسى اللَّهُ أنْ يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعًا﴾ قالَ: يُوسُفَ وأخِيهِ ورُوبِيلَ. وأخْرَجَ ابْنُ المُنْذِرِ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ في الآيَةِ قالَ: يُوسُفَ وأخِيهِ وكَبِيرِهِمُ الَّذِي تَخَلَّفَ. وأخْرَجَ ابْنُ المُنْذِرِ وابْنُ أبِي حاتِمٍ مِن طُرُقٍ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ في قَوْلِهِ: يا أسَفا عَلى يُوسُفَ قالَ: يا حُزْنًا وأخْرَجَ ابْنُ أبِي شَيْبَةَ وابْنُ جَرِيرٍ وابْنُ المُنْذِرِ عَنْ قَتادَةَ مِثْلَهُ. وأخْرَجُوا عَنْ مُجاهِدٍ قالَ: يا جَزَعًا. وأخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ في قَوْلِهِ: ﴿فَهُوَ كَظِيمٌ﴾ قالَ: حَزِينٌ. وأخْرَجَ ابْنُ المُبارَكِ وعَبْدُ الرَّزّاقِ وابْنُ جَرِيرٍ وابْنُ المُنْذِرِ وابْنُ أبِي حاتِمٍ وأبُو الشَّيْخِ عَنْ قَتادَةَ قالَ: كَظَمَ عَلى الحُزْنِ فَلَمْ يَقُلْ إلّا خَيْرًا. وأخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وابْنُ المُنْذِرِ عَنْ عَطاءٍ الخُرَسانِيِّ قالَ: كَظِيمٌ مَكْرُوبٌ. وأخْرَجَ ابْنُ أبِي حاتِمٍ عَنْ عِكْرِمَةَ مِثْلَهُ. وأخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وابْنُ المُنْذِرِ وابْنُ أبِي حاتِمٍ وأبُو الشَّيْخِ عَنِ الضَّحّاكِ قالَ: الكَظِيمُ الكَمِدُ. وأخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ مُجاهِدٍ نَحْوَهُ. وأخْرَجَ ابْنُ أبِي شَيْبَةَ وابْنُ جَرِيرٍ وابْنُ المُنْذِرِ وابْنُ أبِي حاتِمٍ وأبُو الشَّيْخِ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ في قَوْلِهِ: ﴿تاللَّهِ تَفْتَأُ تَذْكُرُ يُوسُفَ﴾ قالَ: لا تَزالُ تَذْكُرُ يُوسُفَ ﴿حَتّى تَكُونَ حَرَضًا﴾ قالَ: دَنِفًا مِنَ المَرَضِ ﴿أوْ تَكُونَ مِنَ الهالِكِينَ﴾ قالَ: المَيِّتِينَ. وأخْرَجَ هَؤُلاءِ عَنْ مُجاهِدٍ نَحْوَهُ وأخْرَجَ عَبْدُ الرَّزّاقِ وابْنُ جَرِيرٍ وابْنُ المُنْذِرِ وأبُو الشَّيْخِ عَنْ قَتادَةَ في قَوْلِهِ: ﴿تَفْتَأُ تَذْكُرُ يُوسُفَ﴾ قالَ: لا تَزالُ تَذْكُرُ يُوسُفَ ﴿حَتّى تَكُونَ حَرَضًا﴾ قالَ: هَرِمًا ﴿أوْ تَكُونَ مِنَ الهالِكِينَ﴾ قالَ: أوْ تَمُوتَ. وأخْرَجَ ابْنُ أبِي شَيْبَةَ وابْنُ جَرِيرٍ وابْنُ المُنْذِرِ وابْنُ أبِي حاتِمٍ وأبُو الشَّيْخِ عَنِ الضَّحّاكِ ﴿حَتّى تَكُونَ حَرَضًا﴾ قالَ: الحَرَضُ البالِي ﴿أوْ تَكُونَ مِنَ الهالِكِينَ﴾ قالَ: مِنَ المَيِّتِينَ. وأخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وعَبْدُ الرَّزّاقِ عَنْ مُسْلِمِ بْنِ يَسارٍ يَرْفَعُهُ إلى النَّبِيِّ صَلّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وسَلَّمَ قالَ: «مَن بَثَّ لَمْ يَصْبِرْ، ثُمَّ قَرَأ ﴿إنَّما أشْكُو بَثِّي وحُزْنِي إلى اللَّهِ﴾»، وأخْرَجَ ابْنُ مَندَهْ في المَعْرِفَةِ عَنْ مُسْلِمِ بْنِ يَسارٍ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ قالَ: قالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وسَلَّمَ فَذَكَرَهُ. وأخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ مِن حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو مَرْفُوعًا مِثْلَهُ. وأخْرَجَهُ ابْنُ المُنْذِرِ وابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ يَعْمُرَ مَرْفُوعًا مُرْسَلًا. وأخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وابْنُ المُنْذِرِ وأبُو الشَّيْخِ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ في قَوْلِهِ: ﴿إنَّما أشْكُو بَثِّي﴾ قالَ: هَمِّي. وأخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وابْنُ أبِي حاتِمٍ عَنْهُ في قَوْلِهِ: ﴿وأعْلَمُ مِنَ اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ﴾ قالَ: أعْلَمُ أنَّ رُؤْيا يُوسُفَ صادِقَةٌ وأنِّي سَأسْجُدُ لَهُ. وأخْرَجَ عَبْدُ الرَّزّاقِ وابْنُ جَرِيرٍ وابْنُ المُنْذِرِ وابْنُ أبِي حاتِمٍ وأبُو الشَّيْخِ في قَوْلِهِ ﴿ولا تَيْأسُوا مِن رَوْحِ اللَّهِ﴾ قالَ: مِن رَحْمَةِ اللَّهِ وأخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ الضَّحّاكِ مِثْلَهُ. وأخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وأبُو الشَّيْخِ عَنِ ابْنِ زَيْدٍ قالَ: مِن فَرَجِ اللَّهِ يُفَرِّجُ عَنْكُمُ الغَمَّ الَّذِي أنْتُمْ فِيهِ وأخْرَجَ ابْنُ أبِي حاتِمٍ وأبُو الشَّيْخِ عَنْ قَتادَةَ في قَوْلِهِ ﴿مَسَّنا وأهْلَنا الضُّرُّ﴾ قالَ: أيِ الضُّرُّ في المَعِيشَةِ، وأخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وابْنُ أبِي حاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ في قَوْلِهِ ﴿بِبِضاعَةٍ﴾ قالَ: دَراهِمُ ﴿مُزْجاةٍ﴾ قالَ: كاسِدَةٌ. وأخْرَجَ عَبْدُ الرَّزّاقِ وسَعِيدُ بْنُ مَنصُورٍ وابْنُ جَرِيرٍ وابْنُ المُنْذِرِ وابْنُ أبِي حاتِمٍ وأبُو الشَّيْخِ عَنْهُ قالَ: ﴿مُزْجاةٍ﴾ رَثَّةُ المَتاعِ خَلِقَةُ الحَبْلِ والغِرارَةِ والشَّيْءِ. وأخْرَجَ أبُو عُبَيْدٍ وابْنُ أبِي شَيْبَةَ وابْنُ جَرِيرٍ وابْنُ المُنْذِرِ وابْنُ أبِي حاتِمٍ وأبُو الشَّيْخِ عَنْهُ أيْضًا ﴿مُزْجاةٍ﴾ قالَ: الوَرِقُ الزُّيُوفُ الَّتِي لا تُنْفَقُ حَتّى يُوضَعَ مِنها. وأخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وابْنُ المُنْذِرِ وأبُو الشَّيْخِ عَنِ ابْنِ جَرِيرٍ في قَوْلِهِ ﴿وتَصَدَّقْ عَلَيْنا﴾ قالَ: ارْدُدْ عَلَيْنا أخانا.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب