الباحث القرآني

. هَذا هو بَيانُ ما طَلَباهُ مِنهُ مِن تَعْبِيرِ رُؤْياهُما، والمُرادُ بِقَوْلِهِ: أمّا أحَدُكُما هو السّاقِي، وإنَّما أبْهَمَهُ لِكَوْنِهِ مَفْهُومًا أوْ لِكَراهَةِ التَّصْرِيحِ لِلْخَبّازِ بِأنَّهُ الَّذِي سَيُصْلَبُ ﴿فَيَسْقِي رَبَّهُ خَمْرًا﴾ أيْ مالِكَهُ، وهي عُهْدَتُهُ الَّتِي كانَ قائِمًا بِها في خِدْمَةِ المَلِكِ، فَكَأنَّهُ قالَ: أمّا أنْتَ أيُّها السّاقِي فَسَتَعُودُ إلى ما كُنْتَ عَلَيْهِ ويَدْعُو بِكَ المَلِكُ ويُطْلِقُكَ مِنَ الحَبْسِ وأمّا الآخَرُ وهو الخَبّازُ ﴿فَيُصْلَبُ فَتَأْكُلُ الطَّيْرُ مِن رَأْسِهِ﴾ تَعْبِيرًا لِما رَآهُ مِن أنَّهُ يَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِهِ خُبْزًا فَتَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنهُ ﴿قُضِيَ الأمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيانِ﴾ وهو ما رَأياهُ وقَصّاهُ عَلَيْهِ، يُقالُ اسْتَفْتاهُ: إذا طَلَبَ مِنهُ بَيانَ حُكْمِ شَيْءٍ سَألَهُ عَنْهُ مِمّا أشْكَلَ عَلَيْهِ، وهُما قَدْ سَألاهُ تَعْبِيرَ ما أشْكَلَ عَلَيْهِما مِنَ الرُّؤْيا. ﴿وقالَ لِلَّذِي ظَنَّ أنَّهُ ناجٍ مِنهُما﴾ أيْ قالَ يُوسُفُ، والظّانُّ هو أيْضًا يُوسُفُ، والمُرادُ بِالظَّنِّ العِلْمُ لِأنَّهُ قَدْ عَلِمَ مِنَ الرُّؤْيا نَجاةَ الشَّرّابِيِّ وهَلاكَ الخَبّازِ، هَكَذا قالَ جُمْهُورُ المُفَسِّرِينَ. وقِيلَ الظّاهِرُ عَلى مَعْناهُ، لِأنَّ عابِرَ الرُّؤْيا إنَّما يَظُنُّ ظَنًّا، والأوَّلُ أوْلى وأنْسَبُ بِحالِ الأنْبِياءِ. ولا سِيَّما وقَدْ أخْبَرَ عَنْ نَفْسِهِ عَلَيْهِ السَّلامُ بِأنَّهُ قَدْ أطْلَعَهُ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ مِن عِلْمِ الغَيْبِ كَما في قَوْلِهِ: ﴿لا يَأْتِيكُما طَعامٌ تُرْزَقانِهِ﴾ [يوسف: ٣٧] الآيَةَ، وجُمْلَةُ ﴿اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ﴾ هي مَقُولُ القَوْلِ أمَرَهُ بِأنْ يَذْكُرَهُ عِنْدَ سَيِّدِهِ ويَصِفَهُ بِما شاهَدَهُ مِنهُ مِن جَوْدَةِ التَّعْبِيرِ والِاطِّلاعِ عَلى شَيْءٍ مِن عِلْمِ الغَيْبِ، وكانَتْ هَذِهِ المَقالَةُ مِنهُ عَلَيْهِ السَّلامُ صادِرَةً عَنْ ذُهُولٍ ونِسْيانٍ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ بِسَبَبِ الشَّيْطانِ، فَيَكُونُ ضَمِيرُ المَفْعُولِ في أنْساهُ عائِدًا إلى يُوسُفَ، هَكَذا قالَ بَعْضُ المُفَسِّرِينَ ويَكُونُ المُرادُ بِرَبِّهِ في قَوْلِهِ: ذِكْرَ رَبِّهِ هو اللَّهُ سُبْحانَهُ: أيْ إنْساءُ الشَّيْطانِ يُوسُفَ ذِكْرَ اللَّهِ تَعالى في تِلْكَ الحالِ ﴿وقالَ لِلَّذِي ظَنَّ أنَّهُ ناجٍ مِنهُما﴾ يَذْكُرُهُ عِنْدَ سَيِّدِهِ لِيَكُونَ ذَلِكَ سَبَبًا لِانْتِباهِهِ عَلى ما أوْقَعَهُ مِنَ الظُّلْمِ البَيِّنِ عَلَيْهِ بِسَجْنِهِ بَعْدَ أنْ رَأى مِنَ الآياتِ ما يَدُلُّ عَلى بَراءَتِهِ. وذَهَبَ كَثِيرٌ مِنَ المُفَسِّرِينَ إلى أنَّ الَّذِي أنْساهُ الشَّيْطانُ ذِكْرَ رَبِّهِ هو الَّذِي نَجا مِنَ الغُلامَيْنِ: وهو الشَّرّابِيُّ، والمَعْنى: إنْساءُ الشَّيْطانِ الشَّرّابِيَّ ذِكْرَ سَيِّدِهِ: أيْ ذِكْرَهُ لِسَيِّدِهِ فَلَمْ يُبَلِّغْ إلَيْهِ ما أوْصاهُ بِهِ يُوسُفُ مَعَ ذِكْرِهِ عِنْدَ سَيِّدِهِ، ويَكُونُ المَعْنى: فَأنْساهُ الشَّيْطانُ ذِكْرَ إخْبارِهِ بِما أمَرَهُ بِهِ (p-٦٩٨)يُوسُفُ مَعَ خُلُوصِهِ مِنَ السِّجْنِ ورُجُوعِهِ إلى ما كانَ عَلَيْهِ مِنَ القِيامِ بِسَقْيِ المَلِكِ، وقَدْ رُجِّحَ هَذا بِكَوْنِ الشَّيْطانِ لا سَبِيلَ لَهُ عَلى الأنْبِياءِ. وأُجِيبَ بِأنَّ النِّسْيانَ وقَعَ مِن يُوسُفَ، ونِسْبَتُهُ إلى الشَّيْطانِ عَلى طَرِيقِ المَجازِ، والأنْبِياءُ غَيْرُ مَعْصُومِينَ عَنِ النِّسْيانِ إلّا فِيما يُخْبِرُونَ بِهِ عَنِ اللَّهِ سُبْحانَهُ، وقَدْ صَحَّ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وسَلَّمَ أنَّهُ قالَ: «إنَّما أنا بَشَرٌ مِثْلُكم أنْسى كَما تَنْسَوْنَ، فَإذا نَسِيتُ فَذَكِّرُونِي» ورُجِّحَ أيْضًا بِأنَّ النِّسْيانَ لَيْسَ بِذَنْبٍ، فَلَوْ كانَ الَّذِي أنْساهُ الشَّيْطانُ ذِكْرَ رَبِّهِ هو يُوسُفُ لَمْ يَسْتَحِقَّ العُقُوبَةَ عَلى ذَلِكَ بِلُبْثِهِ في السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ. وأُجِيبُ بِأنَّ النِّسْيانَ هُنا بِمَعْنى التَّرْكِ، وأنَّهُ عُوقِبَ بِسَبَبِ اسْتِعانَتِهِ بِغَيْرِ اللَّهِ سُبْحانَهُ، ويُؤَيِّدُ رُجُوعَ الضَّمِيرِ إلى يُوسُفَ ما بَعْدَهُ مِن قَوْلِهِ: ﴿فَلَبِثَ في السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ﴾ ويُؤَيِّدُ رُجُوعَهُ إلى الَّذِي نَجا مِنَ الغُلامَيْنِ قَوْلُهُ فِيما سَيَأْتِي ﴿وقالَ الَّذِي نَجا مِنهُما وادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ﴾ سَنَةٍ فَلَبِثَ أيْ يُوسُفُ في السَّجْنِ بِسَبَبِ ذَلِكَ القَوْلِ الَّذِي قالَهُ لِلَّذِي نَجا مِنَ الغُلامَيْنِ، أوْ بِسَبَبِ ذَلِكَ الإنْساءِ بِضْعَ سِنِينَ، البِضْعُ: ما بَيْنَ الثَّلاثِ إلى التِّسْعِ كَما حَكاهُ الهَرَوِيُّ عَنِ العَرَبِ. وحُكِيَ عَنْ أبِي عُبَيْدَةَ أنَّ البِضْعَ: ما دُونَ نِصْفِ العِقْدِ، يَعْنِي ما بَيْنَ واحِدٍ إلى أرْبَعَةٍ، وقِيلَ ما بَيْنَ ثَلاثٍ إلى سَبْعٍ، حَكاهُ قُطْرُبٌ. وحَكى الزَّجّاجُ أنَّهُ ما بَيْنَ الثَّلاثِ إلى الخَمْسِ. وقَدِ اخْتُلِفَ في تَعْيِينِ قَدْرِ المُدَّةِ الَّتِي لَبِثَ قِيها يُوسُفُ في السِّجْنِ فَقِيلَ سَبْعُ سِنِينَ، وقِيلَ ثِنْتا عَشْرَةَ سَنَةً، وقِيلَ أرْبَعَ عَشْرَةَ سَنَةً، وقِيلَ خَمْسُ سِنِينَ. وقَدْ أخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ عِكْرِمَةَ في قَوْلِهِ: أمّا أحَدُكُما قالَ: أتاهُ فَقالَ: رَأيْتُ فِيما يَرى النّائِمُ أنِّي غَرَسْتُ حُبْلَةً مِن عِنَبٍ فَنَبَتَتْ، فَخَرَجَ فِيهِ عَناقِيدُ فَعَصَرْتُهُنَّ ثُمَّ سَقَيْتُهُنَّ المَلِكَ، فَقالَ: تَمْكُثُ في السِّجْنِ ثَلاثَةَ أيّامٍ، ثُمَّ تَخْرُجُ فَتَسْقِيهِ خَمْرًا. وأخْرَجَ ابْنُ أبِي شَيْبَةَ وابْنُ جَرِيرٍ وابْنُ المُنْذِرِ وابْنُ أبِي حاتِمٍ وأبُو الشَّيْخِ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ قالَ: ما رَأى صاحِبا يُوسُفَ شَيْئًا، إنَّما تَحالَما لِيُجَرِّبا عِلْمَهُ، فَلَمّا أوَّلَ رُؤْياهُما قالا: إنَّما كُنّا نَلْعَبُ ولَمْ نَرَ شَيْئًا، فَقالَ ﴿قُضِيَ الأمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيانِ﴾ يَقُولُ: وقَعَتِ العِبارَةُ فَصارَ الأمْرُ عَلى ما عَبَّرَ يُوسُفُ. وأخْرَجَ أبُو عُبَيْدٍ وابْنُ المُنْذِرِ وأبُو الشَّيْخِ عَنْ أبِي مِجْلَزٍ قالَ: كانَ أحَدُ اللَّذَيْنِ قَصّا عَلى يُوسُفَ الرُّؤْيا كاذِبًا. وأخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وأبُو الشَّيْخِ عَنِ ابْنِ ساباطَ ﴿وقالَ لِلَّذِي ظَنَّ أنَّهُ ناجٍ مِنهُما اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ﴾ قالَ: عِنْدَ مَلِكِ الأرْضِ. وأخْرَجَ ابْنُ أبِي الدُّنْيا في كِتابِ العُقُوباتِ وابْنُ جَرِيرٍ والطَّبَرانِيُّ وابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ قالَ: قالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وسَلَّمَ: «لَوْ لَمْ يَقُلْ يُوسُفُ الكَلِمَةَ الَّتِي قالَ ما لَبِثَ في السِّجْنِ طُولَ ما لَبِثَ حَيْثُ يَبْتَغِي الفَرَجَ مِن عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ» . وأخْرَجَ عَبْدُ الرَّزّاقِ وابْنُ جَرِيرٍ وأبُو الشَّيْخِ عَنْ عِكْرِمَةَ مَرْفُوعًا نَحْوَهُ وهو مُرْسَلٌ. وأخْرَجَ ابْنُ المُنْذِرِ وابْنُ أبِي حاتِمٍ وابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ أبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا نَحْوَهُ. وأخْرَجَ أحْمَدُ في الزُّهْدِ وابْنُ جَرِيرٍ وابْنُ المُنْذِرِ وابْنُ أبِي حاتِمٍ، وأبُو الشَّيْخِ عَنِ الحَسَنِ مَرْفُوعًا نَحْوَهُ وهو مُرْسَلٌ. وأخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وأبُو الشَّيْخِ عَنْ قَتادَةَ فَذَكَرَ نَحْوَهُ وهو مُرْسَلٌ أيْضًا. وأخْرَجَ ابْنُ أبِي شَيْبَةَ وعَبْدُ اللَّهِ بْنُ أحْمَدَ في زَوائِدِ الزُّهْدِ وابْنُ المُنْذِرِ وابْنُ أبِي حاتِمٍ وأبُو الشَّيْخِ عَنْ أنَسٍ قالَ: أُوحِيَ إلى يُوسُفَ: مَنِ اسْتَنْقَذَكَ مِنَ القَتْلِ حِينَ هَمَّ إخْوَتُكَ أنْ يَقْتُلُوكَ ؟ قالَ: أنْتَ يا رَبِّ، قالَ: فَمَنِ اسْتَنْقَذَكَ مِنَ الجُبِّ إذْ ألْقَوْكَ فِيهِ ؟ قالَ: أنْتَ يا رَبِّ، قالَ: فَمَنِ اسْتَنْقَذَكَ مِنَ المَرْأةِ إذْ هَمَّتْ بِكَ ؟ قالَ: أنْتَ يا رَبِّ، قالَ: فَما لَكَ نَسِيتَنِي وذَكَرْتَ آدَمِيًّا ؟ قالَ: جَزَعًا وكَلِمَةٌ تَكَلَّمَ بِها لِسانِي، قالَ: فَوَعِزَّتِي لِأُخَلِّدَنَّكَ في السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ، فَلَبِثَ فِيهِ سَبْعَ سِنِينَ. وقَدِ اخْتَلَفَ السَّلَفُ في تَقْدِيرِ مُدَّةِ لُبْثِهِ في السِّجْنِ عَلى حَسَبِ ما قَدَّمْنا ذِكْرَهُ، فَلَمْ نَشْتَغِلْ هَهُنا بِذِكْرِ مَن قالَ بِذَلِكَ ومَن خَرَّجَهُ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب