الباحث القرآني

. لَمّا أجْمَعَ رَأْيُهم عَلى أنْ يُلْقُوهُ في غَياباتِ الجُبِّ جاءُوا إلى أبِيهِمْ وخاطَبُوهُ بِلَفْظِ الأُبُوَّةِ اسْتِعْطافًا لَهُ وتَحْرِيكًا لِلْحُنُوِّ الَّذِي جُبِلَتْ عَلَيْهِ طَبائِعُ الآباءِ لِلْأبْناءِ، وتَوَسُّلًا بِذَلِكَ إلى تَمامِ ما يُرِيدُونَهُ مِنَ الكَيْدِ الَّذِي دَبَّرُوهُ، واسْتَفْهَمُوهُ اسْتِفْهامَ المُنْكِرِ لِأمْرٍ يَنْبَغِي أنْ يَكُونَ الواقِعُ عَلى خِلافِهِ، فَ ﴿قالُوا ياأبانا ما لَكَ لا تَأْمَنّا عَلى يُوسُفَ﴾ أيْ: أيُّ شَيْءٍ لَكَ لا تَجْعَلُنا أُمَناءَ عَلَيْهِ، وكَأنَّهم قَدْ كانُوا سَألُوهُ قَبْلَ ذَلِكَ أنْ يُخْرِجَ مَعَهم يُوسُفَ فَأبى، وقَرَأ يَزِيدُ بْنُ القَعْقاعِ وعَمْرُو بْنُ عُبَيْدٍ والزُّهْرِيُّ " لا تَأْمَنّا " بِالِادِّغامِ بِغَيْرِ إشْمامٍ. وقَرَأ طَلْحَةُ بْنُ مُصَرِّفٍ لا تَأْمَنُنا بِنُونَيْنِ ظاهِرَتَيْنِ عَلى الأصْلِ: وقَرَأ يَحْيى بْنُ وثّابٍ وأبُو رَزِينٍ والأعْمَشُ لا تَيْمَنّا وهو لُغَةُ تَمِيمٍ كَما تَقَدَّمَ، وقَرَأ سائِرُ القُرّاءِ بِالإدْغامِ والإشْمامِ لِيَدُلَّ عَلى حالِ الحَرْفِ قَبْلَ إدْغامِهِ ﴿وإنّا لَهُ لَناصِحُونَ﴾ في حِفْظِهِ وحِيطَتِهِ حَتّى نَرُدَّهُ إلَيْكَ. ﴿أرْسِلْهُ مَعَنا غَدًا﴾ أيْ إلى الصَّحْراءِ الَّتِي أرادُوا الخُرُوجَ إلَيْها، وغَدًا ظَرْفٌ، والأصْلُ عِنْدَ سِيبَوَيْهِ غُدْوَةٌ. قالَ النَّضْرُ بْنُ شُمَيْلٍ: ما بَيْنَ الفَجْرِ وطُلُوعِ الشَّمْسِ، يُقالُ لَهُ غُدْوَةٌ، وكَذا يُقالُ لَهُ بُكْرَةٌ " . نَرْتَعْ ونَلْعَبْ " هَذا جَوابُ الأمْرِ. قَرَأ أهْلُ البَصْرَةِ وأهْلُ مَكَّةَ وأهْلُ الشّامِ بِالنُّونِ وإسْكانِ العَيْنِ كَما رَواهُ البَعْضُ عَنْهم. وقَرَأُوا أيْضًا بِالِاخْتِلاسِ، وقَرَأ الباقُونَ بِالنُّونِ وكَسْرِ العَيْنِ، والقِراءَةُ الأُولى مَأْخُوذَةٌ مِن قَوْلِ العَرَبِ رَتَعَ الإنْسانُ أوِ البَعِيرُ: إذا أكَلَ كَيْفَ شاءَ، أوِ المَعْنى: نَتَّسِعُ في الخِصْبِ، وكُلُّ مُخْصِبٍ راتِعٌ: قالَ الشّاعِرُ: ؎فارْعى فَزارَةَ لا هُناكَ المَرْتَعُ ومِنهُ قَوْلُ الشّاعِرِ: ؎تَرْتَعُ ما رَتَعَتْ حَتّى إذا ادَّكَرَتْ ∗∗∗ فَإنَّما هي إقْبالٌ وإدْبارُ والقِراءَةُ الثّانِيَةُ مَأْخُوذَةٌ مِن رَعْيِ الغَنَمِ. وقَرَأ مُجاهِدٌ وقَتادَةُ " يَرْتَعْ ويَلْعَبُ " بِالتَّحْتِيَّةِ فِيهِما، ورَفَعَ يَلْعَبُ عَلى الِاسْتِئْنافِ، والضَّمِيرُ لِيُوسُفَ. وقالَ القُتَيْبِيُّ: مَعْنى نَرْتَعْ نَتَحارَسُ ونَتَحافَظُ ويَرْعى بَعْضُنا بَعْضًا، مِن قَوْلِهِمْ رَعاكَ اللَّهُ: أيْ حَفِظَكَ، ونَلْعَبْ مِنَ اللَّعِبِ. قِيلَ لِأبِي عَمْرِو بْنِ العَلاءِ: كَيْفَ قالُوا ونَلْعَبْ وهم أنْبِياءُ ؟ فَقالَ: لَمْ يَكُونُوا يَوْمَئِذٍ أنْبِياءَ، وقِيلَ المُرادُ بِهِ اللَّعِبُ المُباحُ مِنَ الأنْبِياءِ، وهو مُجَرَّدُ الِانْبِساطِ، وقِيلَ هو اللَّعِبُ الَّذِي يَتَعَلَّمُونَ بِهِ الحَرْبَ ويَتَقَوَّوُّنَ بِهِ عَلَيْهِ كَما في قَوْلِهِمْ: ﴿إنّا ذَهَبْنا نَسْتَبِقُ﴾ لا اللَّعِبُ المَحْظُورُ الَّذِي هو ضِدُّ الحَقِّ، ولِذَلِكَ لَمْ يُنْكِرْ يَعْقُوبُ عَلَيْهِمْ لَمّا قالُوا ونَلْعَبْ، ومِنهُ قَوْلُهُ صَلّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وسَلَّمَ لِجابِرٍ «فَهَلّا بِكْرًا تَلاعِبُها وتَلاعِبُكَ» . فَأجابَهم يَعْقُوبُ بِقَوْلِهِ: ﴿إنِّي لَيَحْزُنُنِي أنْ تَذْهَبُوا بِهِ﴾ أيْ ذَهابُكم بِهِ، واللّامُ في لَيُحْزِنَنِي لامُ الِابْتِداءِ لِلتَّأْكِيدِ ولِتَخْصِيصِ المُضارِعِ بِالحالِ، أخْبَرَهم أنَّهُ يَحْزَنُ لِغَيْبَةِ يُوسُفَ عَنْهُ لِفَرْطِ مَحَبَّتِهِ لَهُ وخَوْفِهِ عَلَيْهِ ﴿وأخافُ أنْ يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ﴾ أيْ ومَعَ ذَلِكَ أخافُ أنْ يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ. قالَ يَعْقُوبُ هَذا تَخَوُّفًا عَلَيْهِ مِنهم، فَكَنّى عَنْ ذَلِكَ بِالذِّئْبِ. وقِيلَ إنَّهُ خافَ أنْ يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ حَقِيقَةً، لِأنَّ ذَلِكَ المَكانَ كانَ كَثِيرَ الذِّئابِ، ولَوْ خافَ مِنهم عَلَيْهِ أنْ يَقْتُلُوهُ لَأرْسَلَ مَعَهم مَن يَحْفَظُهُ. قالَ ثَعْلَبٌ: والذِّئْبُ مَأْخُوذٌ مِن تَذَأَّبَتِ الرِّيحُ: إذا هاجَتْ مِن كُلِّ وجْهٍ. قالَ: والذِّئْبُ مَهْمُوزٌ لِأنَّهُ يَجِيءُ مِن كُلِّ وجْهٍ. وقَدْ قَرَأ ابْنُ كَثِيرٍ ونافِعٌ في رِوايَةٍ عَنْهُ بِالهَمْزِ عَلى الأصْلِ، وكَذَلِكَ أبُو عَمْرٍو في رِوايَةٍ عَنْهُ وابْنُ عامِرٍ وعاصِمٌ وحَمْزَةُ. (p-٦٨٦)وقَرَأ الباقُونَ بِالتَّخْفِيفِ ﴿وأنْتُمْ عَنْهُ غافِلُونَ﴾ لِاشْتِغالِكم بِالرَّتْعِ واللَّعِبِ، أوْ لِكَوْنِهِمْ غَيْرَ مُهْتَمِّينَ بِحِفْظِهِ. ﴿قالُوا لَئِنْ أكَلَهُ الذِّئْبُ ونَحْنُ عُصْبَةٌ﴾ اللّامُ هي المُوَطِّئَةُ لِلْقَسَمِ. والمَعْنى: واللَّهِ لَئِنْ أكَلَهُ الذِّئْبُ والحالُ إنْ نَحْنُ عُصْبَةٌ: أيْ جَماعَةٌ كَثِيرَةٌ عَشَرَةٌ ﴿إنّا إذًا لَخاسِرُونَ﴾ أيْ إنَّما في ذَلِكَ الوَقْتِ، وهو أكْلُ الذِّئْبِ لَهُ لَخاسِرُونَ هالِكُونَ ضَعْفًا وعَجْزًا، أوْ مُسْتَحِقُّونَ لِلْهَلاكِ لِعَدَمِ الِاعْتِدادِ بِنا، وانْتِفاءِ القُدْرَةِ عَلى أيْسَرِ شَيْءٍ وأقَلِّهِ، أوْ مُسْتَحِقُّونَ لِأنَّ يُدْعى عَلَيْنا بِالخَسارِ والدَّمارِ، وقِيلَ لَخاسِرُونَ لَجاهِلُونَ حَقَّهُ، وهَذِهِ الجُمْلَةُ جَوابُ القَسَمِ المُقَدَّرِ في الجُمْلَةِ الَّتِي قَبْلَها. فَلَمّا ذَهَبُوا بِهِ مِن عِنْدِ يَعْقُوبَ وأجْمَعُوا أمْرَهم ﴿أنْ يَجْعَلُوهُ في غَيابَةِ الجُبِّ﴾ قَدْ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُ الغَيابَةِ والجُبِّ قَرِيبًا، وجَوابُ لَمّا مَحْذُوفٌ لِظُهُورِهِ ودَلالَةِ المَقامِ عَلَيْهِ، والتَّقْدِيرُ: فَعَلُوا بِهِ ما فَعَلُوا، وقِيلَ جَوابُهُ ﴿قالُوا ياأبانا إنّا ذَهَبْنا نَسْتَبِقُ﴾ وقِيلَ الجَوابُ المُقَدَّرُ جَعَلُوهُ فِيها، وقِيلَ الجَوابُ أوْحَيْنا والواوُ مُقْحَمَةٌ، ومِثْلُهُ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿فَلَمّا أسْلَما وتَلَّهُ لِلْجَبِينِ﴾ ﴿ونادَيْناهُ﴾ [الصافات: ١٠٣، ١٠٤] أيْ نادَيْناهُ ﴿وأوْحَيْنا إلَيْهِ﴾ أيْ إلى يُوسُفَ تَيْسِيرًا لَهُ وتَأْنِيسًا لِوَحْشَتِهِ مَعَ كَوْنِهِ صَغِيرًا اجْتَمَعَ عَلى إنْزالِ الضَّرَرِ بِهِ عَشَرَةُ رِجالٍ مِن إخْوَتِهِ، بِقُلُوبٍ غَلِيظَةٍ فَقَدْ نُزِعَتْ عَنْها الرَّحْمَةُ وسُلِبَتْ مِنها الرَّأْفَةُ، فَإنَّ الطَّبْعَ البَشَرِيَّ، دَعْ عَنْكَ الدِّينَ، يَتَجاوَزُ عَنْ ذَنْبِ الصَّغِيرِ ويَغْتَفِرُهُ لِضَعْفِهِ عَنِ الدَّفْعِ وعَجْزِهِ عَنْ أيْسَرِ شَيْءٍ يُرادُ مِنهُ، فَكَيْفَ بِصَغِيرٍ لا ذَنْبَ لَهُ، بَلْ كَيْفَ بِصَغِيرٍ هو أخٌ ولَهُ ولَهم أبٌ مِثْلَ يَعْقُوبَ، فَلَقَدْ أبْعَدَ مَن قالَ إنَّهم كانُوا أنْبِياءَ في ذَلِكَ الوَقْتِ، فَما هَكَذا عَمَلُ الأنْبِياءِ ولا فِعْلُ الصّالِحِينَ. وفِي هَذا دَلِيلٌ عَلى أنَّهُ يَجُوزُ أنْ يُوحِيَ اللَّهُ إلى مَن كانَ صَغِيرًا ويُعْطِيَهُ النُّبُوَّةَ حِينَئِذٍ كَما وقَعَ في عِيسى ويَحْيى بْنِ زَكَرِيّا، وقَدْ قِيلَ إنَّهُ كانَ في ذَلِكَ الوَقْتِ قَدْ بَلَغَ مَبْلَغَ الرِّجالِ، وهو بَعِيدٌ جِدًّا، فَإنَّ مَن كانَ قَدْ بَلَغَ مَبالِغَ الرِّجالِ لا يُخافُ عَلَيْهِ أنْ يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ ﴿لَتُنَبِّئَنَّهم بِأمْرِهِمْ هَذا﴾ أيْ لَتُخْبِرَنَّ إخْوَتَكَ بِأمْرِهِمْ هَذا الَّذِي فَعَلُوهُ مَعَكَ بَعْدَ خُلُوصِكَ مِمّا أرادُوهُ بِكَ مِنَ الكَيْدِ وأنْزَلُوهُ عَلَيْكَ مِنَ الضَّرَرِ، وجُمْلَةُ ﴿وهم لا يَشْعُرُونَ﴾ في مَحَلِّ نَصْبٍ عَلى الحالِ: أيْ لا يَشْعُرُونَ بِأنَّكَ أخُوهم يُوسُفَ لِاعْتِقادِهِمْ هَلاكَكَ بِإلْقائِهِمْ لَكَ في غَيابَةِ الجُبِّ، ولِبُعْدِ عَهْدِهِمْ بِكَ، ولِكَوْنِكَ قَدْ صِرْتَ عِنْدَ ذَلِكَ في حالٍ غَيْرِ ما كُنْتَ عَلَيْهِ وخِلافَ ما عَهِدُوهُ مِنكَ، وسَيَأْتِي ما قالَهُ لَهم عِنْدَ دُخُولِهِمْ عَلَيْهِ بَعْدَ أنْ صارَ إلَيْهِ مُلْكُ مِصْرَ. قَوْلُهُ: ﴿وجاءُوا أباهم عِشاءً يَبْكُونَ﴾ عِشاءً مُنْتَصِبٌ عَلى الظَّرْفِيَّةِ، وهو آخِرُ النَّهارِ، وقِيلَ في اللَّيْلِ، ويَبْكُونَ في مَحَلِّ نَصْبٍ عَلى الحالِ: أيْ باكِينَ أوْ مُتَباكِينَ لِأنَّهم لَمْ يَبْكُوا حَقِيقَةً، بَلْ فَعَلُوا فِعْلَ مَن يَبْكِي تَرْوِيجًا لِكَذِبِهِمْ وتَنْفِيقًا لِمَكْرِهِمْ وغَدْرِهِمْ. فَلَمّا وصَلُوا إلى أبِيهِمْ ﴿قالُوا ياأبانا إنّا ذَهَبْنا نَسْتَبِقُ﴾ أيْ نَتَسابَقُ في العَدْوِ أوْ في الرَّمْيِ، وقِيلَ نَنْتَضِلُ، ويُؤَيِّدُهُ قِراءَةُ ابْنِ مَسْعُودٍ ( نَنْتَضِلُ ) قالَ الزَّجّاجُ: وهو نَوْعٌ مِنَ المُسابَقَةِ. وقالَ الزُّهْرِيُّ: النِّضالُ في السِّهامِ، والرِّهانُ في الخَيْلِ، والمُسابَقَةُ تَجْمَعُهُما. قالَ القُشَيْرِيُّ: نَسْتَبِقُ، أيْ في الرَّمْيِ أوْ عَلى الفَرَسِ أوْ عَلى الأقْدامِ. والغَرَضُ مِنَ المُسابَقَةِ التَّدَرُّبُ بِذَلِكَ في القِتالِ وتَرَكْنا يُوسُفَ عِنْدَ مَتاعِنا أيْ عِنْدَ ثِيابِنا لِيَحْرُسَها فَأكَلَهُ الذِّئْبُ الفاءُ لِلتَّعْقِيبِ: أيْ أكَلَهُ عَقِبَ ذَلِكَ. وقَدِ اعْتَذَرُوا عَلَيْهِ بِما خافَهُ سابِقًا عَلَيْهِ، ورُبَّ كَلِمَةٍ تَقُولُ لِصاحِبِها دَعْنِي ﴿وما أنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنا﴾ بِمُصَدِّقٍ لَنا في هَذا العُذْرِ الَّذِي أبْدَيْنا، والكَلِمَةُ الَّتِي قُلْناها ولَوْ كُنّا عِنْدَكَ أوْ في الواقِعِ صادِقِينَ لِما قَدْ عَلِقَ بِقَلْبِكَ مِنَ التُّهْمَةِ لَنا في ذَلِكَ مَعَ شِدَّةِ مَحَبَّتِكَ لَهُ. قالَ الزَّجّاجُ: والمَعْنى: ولَوْ كُنّا عِنْدَكَ مِن أهْلِ الثِّقَةِ والصِّدْقِ ما صَدَّقْتَنا في هَذِهِ القَضِيَّةِ لِشِدَّةِ مَحَبَّتِكَ لِيُوسُفَ. وكَذا ذَكَرَهُ ابْنُ جَرِيرٍ وغَيْرُهُ ﴿وجاءُوا عَلى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ﴾ عَلى قَمِيصِهِ في مَحَلِّ نَصْبٍ عَلى الظَّرْفِيَّةِ: أيْ جاءُوا فَوْقَ قَمِيصِهِ بِدَمٍ، ووَصَفَ الدَّمَ بِأنَّهُ كَذِبٌ مُبالَغَةً كَما هو مَعْرُوفٌ في وصْفِ اسْمِ العَيْنِ بِاسْمِ المَعْنى، وقِيلَ المَعْنى: بِدَمٍ ذِي كَذِبٍ أوْ بِدَمٍ مَكْذُوبٍ فِيهِ. وقَرَأ الحَسَنُ وعائِشَةُ بِدَمٍ كَدِبٍ بِالدّالِ المُهْمَلَةِ: أيْ بِدَمٍ طَرِيٍّ، يُقالُ لِلدَّمِ الطَّرِيِّ كَدِبٌ. وقالَ الشَّعْبِيُّ: إنَّهُ المُتَغَيِّرُ، والكَذِبُ أيْضًا البَياضُ الَّذِي يَخْرُجُ في أظْفارِ الأحْداثِ، فَيَجُوزُ أنْ يَكُونَ شَبَّهَ الدَّمَ في القَمِيصِ بِالبَياضِ الَّذِي يَخْرُجُ في الظُّفُرِ مِن جِهَةِ اللَّوْنَيْنِ. وقَدِ اسْتَدَلَّ يَعْقُوبُ عَلى كَذِبِهِمْ بِصِحَّةِ القَمِيصِ، وقالَ لَهم: مَتى كانَ هَذا الذِّئْبُ حَكِيمًا يَأْكُلُ يُوسُفَ ولا يَخْرِقُ القَمِيصَ ؟ ثُمَّ ذَكَرَ اللَّهُ سُبْحانَهُ ما أجابَ بِهِ يَعْقُوبُ عَلَيْهِمْ فَقالَ ﴿قالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكم أنْفُسُكم أمْرًا﴾ أيْ زَيَّنَتْ وسَهَّلَتْ. قالَ النَّيْسابُورِيُّ: التَّسْوِيلُ تَقْرِيرٌ في مَعْنى النَّفْسِ مَعَ الطَّمَعِ في تَمامِهِ. وهُوَ تَفْعِيلٌ مِنَ السُّولِ وهو الأمْنِيَّةُ. قالَ الأزْهَرِيُّ: وأصْلُهُ مَهْمُوزٌ غَيْرَ أنَّ العَرَبَ اسْتَثْقَلُوا فِيهِ الهَمْزَةَ ﴿فَصَبْرٌ جَمِيلٌ﴾ قالَ الزَّجّاجُ: أيْ فَشَأْنِي أوِ الَّذِي أعْتَقِدُهُ صَبْرٌ جَمِيلٌ. وقالَ قُطْرُبٌ: أيْ فَصَبْرِي صَبْرٌ جَمِيلٌ، وقِيلَ فَصَبْرٌ جَمِيلٌ أوْلى بِي. قِيلَ والصَّبْرُ الجَمِيلُ هو الَّذِي لا شَكْوى مَعَهُ. قالَ الزَّجّاجُ: قَرَأ عِيسى بْنُ عُمَرَ فِيما زَعَمَ سَهْلُ بْنُ يُوسُفَ فَصَبْرًا جَمِيلًا قالَ: وكَذا في مُصْحَفِ أنَسٍ. قالَ المُبَرِّدُ: فَصَبْرٌ جَمِيلٌ بِالرَّفْعِ أوْلى مِنَ النَّصْبِ. لِأنَّ المَعْنى: قالَ رَبِّ عِنْدِي صَبْرٌ جَمِيلٌ، وإنَّما النَّصْبُ عَلى المَصْدَرِ أيْ فَلْأصْبِرَنَّ صَبْرًا جَمِيلًا. قالَ الشّاعِرُ: ؎شَكا إلَيَّ جَمَلِي طُولَ السُّرى ∗∗∗ صَبْرًا جَمِيلًا فَكِلانا مُبْتَلى ﴿واللَّهُ المُسْتَعانُ﴾ أيْ المَطْلُوبُ مِنهُ العَوْنُ ﴿عَلى ما تَصِفُونَ﴾ أيْ عَلى إظْهارِ حالِ ما تَصِفُونَ، أوْ عَلى احْتِمالِ ما تَصِفُونَ، وهَذا مِنهُ عَلَيْهِ السَّلامُ إنْشاءٌ لا إخْبارٌ. وقَدْ أخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وابْنُ أبِي حاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ في قَوْلِهِ: " أرْسِلْهُ مَعَنا غَدًا نَرْتَعُ ونَلْعَبُ " قالَ: نَسْعى ونَنْشَطُ ونَلْهُو. وأخْرَجَ أبُو الشَّيْخِ وابْنُ مَرْدَوَيْهِ والسِّلْفِيُّ في الطُّيُورِيّاتِ عَنِ ابْنِ عُمَرَ قالَ: قالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وسَلَّمَ: «لا تُلَقِّنُوا النّاسَ فَيَكْذِبُوا، فَإنَّ بَنِي يَعْقُوبَ لَمْ يَعْلَمُوا أنَّ الذِّئْبَ يَأْكُلُ النّاسَ، فَلَمّا لَقَّنَهم أبُوهم كَذَبُوا، فَقالُوا أكَلَهُ الذِّئْبُ» . (p-٦٨٧)وأخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وابْنُ المُنْذِرِ وابْنُ أبِي حاتِمٍ وأبُو الشَّيْخِ عَنْ مُجاهِدٍ في قَوْلِهِ: ﴿وأوْحَيْنا إلَيْهِ﴾ الآيَةَ قالَ: أُوحِيَ إلى يُوسُفَ وهو في الجُبِّ لَتُنَبِّئَنَّ إخْوَتَكَ بِما صَنَعُوا وهم لا يَشْعُرُونَ بِذَلِكَ الوَحْيِ. وأخْرَجَ هَؤُلاءِ عَنْ قَتادَةَ قالَ: أوْحى اللَّهُ إلَيْهِ وحْيًا وهو في الجُبِّ أنْ سَيُنْبِئُهم بِما صَنَعُوا وهم: أيْ إخْوَتُهُ لا يَشْعُرُونَ بِذَلِكَ الوَحْيِ، فَهَوَّنَ ذَلِكَ الوَحْيُ عَلَيْهِ ما صُنِعَ بِهِ. وأخْرَجَ ابْنُ أبِي حاتِمٍ وأبُو الشَّيْخِ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ في قَوْلِهِ: ﴿وهم لا يَشْعُرُونَ﴾ قالَ: لَمْ يَعْلَمُوا بِوَحْيِ اللَّهِ إلَيْهِ. وأخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وابْنُ أبِي حاتِمٍ عَنْهُ قالَ: لَمّا دَخَلَ إخْوَةُ يُوسُفَ عَلى يُوسُفَ فَعَرَفَهم وهم لَهُ مُنْكِرُونَ جِيءَ بِالصُّواعِ فَوَضَعَهُ عَلى يَدِهِ، ثُمَّ نَقَرَهُ فَطَنَّ، فَقالَ: إنَّهُ لِيُخْبِرُنِي هَذا الجامُ أنَّهُ كانَ لَكم أخٌ مِن أبِيكم يُقالُ لَهُ يُوسُفُ يُدْنِيهِ دُونَكم، وأنَّكُمُ انْطَلَقْتُمْ بِهِ فَألْقَيْتُمُوهُ في غَيابَةِ الجُبِّ فَأتَيْتُمْ أباكم فَقُلْتُمْ: إنَّ الذِّئْبَ أكَلَهُ، وجِئْتُمْ عَلى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ، فَقالَ بَعْضُهم لِبَعْضٍ: إنَّ هَذا الجامَ لِيُخْبِرُهُ بِخَبَرِكم، فَقالَ ابْنُ عَبّاسٍ: فَلا نَرى هَذِهِ الآيَةَ نَزَلَتْ إلّا في ذَلِكَ ﴿لَتُنَبِّئَنَّهم بِأمْرِهِمْ هَذا وهم لا يَشْعُرُونَ﴾ . وأخْرَجَ ابْنُ أبِي حاتِمٍ وابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ أبِي بَكْرِ بْنِ عَيّاشٍ قالَ: كانَ يُوسُفُ في الجُبِّ ثَلاثَةَ أيّامٍ. وأخْرَجَ أبُو الشَّيْخِ عَنِ الضَّحّاكِ ﴿وما أنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنا﴾ قالَ: بِمُصَدِّقٍ لَنا. وأخْرَجَ عَبْدُ الرَّزّاقِ وابْنُ جَرِيرٍ وابْنُ أبِي حاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ ﴿وجاءُوا عَلى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ﴾ قالَ: كانَ دَمُ سَخْلَةٍ. وأخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ مُجاهِدٍ مِثْلَهُ، وأخْرَجَ الفِرْيابِيُّ وابْنُ جَرِيرٍ وابْنُ المُنْذِرِ وابْنُ أبِي حاتِمٍ وأبُو الشَّيْخِ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ ﴿وجاءُوا عَلى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ﴾ قالَ: لَمّا أُتِيَ يَعْقُوبُ بِقَمِيصِ يُوسُفَ فَلَمْ يَرَ فِيهِ خَرْقًا قالَ: كَذَبْتُمْ لَوْ كانَ كَما تَقُولُونَ أكَلَهُ الذِّئْبُ لَخَرَقَ القَمِيصَ. وأخْرَجَ ابْنُ أبِي حاتِمٍ وأبُو الشَّيْخِ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ في قَوْلِهِ: ﴿بَلْ سَوَّلَتْ لَكم أنْفُسُكم أمْرًا﴾ قالَ: أمَرَتْكم أنْفُسُكم. وأخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وابْنُ أبِي حاتِمٍ وأبُو الشَّيْخِ عَنْ قَتادَةَ في قَوْلِهِ ﴿بَلْ سَوَّلَتْ لَكم أنْفُسُكم أمْرًا﴾ يَقُولُ: بَلْ زَيَّنَتْ لَكم أنْفُسُكم أمْرًا ﴿فَصَبْرٌ جَمِيلٌ واللَّهُ المُسْتَعانُ عَلى ما تَصِفُونَ﴾ أيْ عَلى ما تَكْذِبُونَ، وأخْرَجَ ابْنُ أبِي الدُّنْيا في كِتابِ الصَّبْرِ وابْنُ جَرِيرٍ وابْنُ المُنْذِرِ وابْنُ أبِي حاتِمٍ عَنْ حِبّانَ بْنِ أبِي حَبْلَةَ قالَ: «سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وسَلَّمَ عَنْ قَوْلِهِ: ﴿فَصَبْرٌ جَمِيلٌ﴾ قالَ: لا شَكْوى فِيهِ، مَن بَثَّ لَمْ يَصْبِرْ» وهو مِن طَرِيقِ هُشَيْمٍ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ حِبّانَ بْنِ أبِي حَبْلَةَ، وهو مُرْسَلٌ. وأخْرَجَ عَبْدُ الرَّزّاقِ والفِرْيابِيُّ وابْنُ جَرِيرٍ وابْنُ المُنْذِرِ وابْنُ أبِي حاتِمٍ وأبُو الشَّيْخِ عَنْ مُجاهِدٍ في قَوْلِهِ: ﴿فَصَبْرٌ جَمِيلٌ﴾ قالَ: لَيْسَ في جَزَعٍ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب