الباحث القرآني

. قَوْلُهُ: ﴿وإلى ثَمُودَ أخاهم صالِحًا﴾ مَعْطُوفٌ عَلى ما تَقَدَّمَ، والتَّقْدِيرُ: وأرْسَلْنا إلى ثَمُودَ أخاهم صالِحًا، والكَلامُ فِيهِ، وفي قَوْلِهِ: ﴿ياقَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكم مِن إلَهٍ غَيْرُهُ﴾ كَما تَقَدَّمَ في قِصَّةِ هُودٍ. وقَرَأ الحَسَنُ ويَحْيى بْنُ وثّابٍ وإلى ثَمُودٍ بِالتَّنْوِينِ في جَمِيعِ المَواضِعِ. واخْتَلَفَ سائِرُ القُرّاءِ فِيهِ فَصَرَفُوهُ في مَوْضِعٍ ولَمْ يَصْرِفُوهُ في مَوْضِعٍ، فالصَّرْفُ بِاعْتِبارِ التَّأْوِيلِ بِالحَيِّ، والمَنعُ بِاعْتِبارِ التَّأْوِيلِ بِالقَبِيلَةِ، وهَكَذا سائِرُ ما يَصِحُّ فِيهِ التَّأْوِيلانِ، وأنْشَدَ سِيبَوَيْهِ في التَّأْنِيثِ بِاعْتِبارِ التَّأْوِيلِ بِالقَبِيلَةِ: ؎غَلَبَ المَسامِيحَ الوَلِيدُ جَماعَةً وكَفى قُرَيْشَ المُعْضِلاتِ وسادَها ﴿هُوَ أنْشَأكم مِنَ الأرْضِ﴾ أيِ ابْتَدَأ خَلْقَكم مِنَ الأرْضِ، لِأنَّ كُلَّ بَنِي آدَمَ مِن صُلْبِ آدَمَ، وهو مَخْلُوقٌ مِنَ الأرْضِ ﴿واسْتَعْمَرَكم فِيها﴾ أيْ جَعَلَكم عُمّارَها وسُكّانَها، مِن قَوْلِهِمْ: أعْمَرَ فُلانٌ فُلانًا دارَهُ فَهي لَهُ عُمْرى، فَيَكُونُ اسْتَفْعَلْ بِمَعْنى أفْعَلَ: مِثْلَ اسْتَجابَ بِمَعْنى أجابَ. وقالَ الضَّحّاكُ: مَعْناهُ أطالَ أعْمارَكم، وكانَتْ أعْمارُهم مِن ثَلاثِمِائَةٍ إلى ألْفٍ، وقِيلَ مَعْناهُ: أمَرَكم بِعِمارَتِها مِن بِناءِ المَساكِنِ وغَرْسِ الأشْجارِ ﴿فاسْتَغْفِرُوهُ﴾ أيْ سَلُوهُ المَغْفِرَةَ لَكم مِن عِبادَةِ الأصْنامِ ﴿ثُمَّ تُوبُوا إلَيْهِ﴾ أيِ ارْجِعُوا إلى عِبادَتِهِ ﴿إنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُجِيبٌ﴾ أيْ قَرِيبُ الإجابَةِ لِمَن دَعاهُ، وقَدْ تَقَدَّمَ القَوْلُ فِيهِ في البَقَرَةِ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعالى: ﴿فَإنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدّاعِ﴾ [البقرة: ١٨٦] . ﴿قالُوا يا صالِحُ قَدْ كُنْتَ فِينا مَرْجُوًّا قَبْلَ هَذا﴾ أيْ كُنّا نَرْجُو أنْ تَكُونَ فِينا سَيِّدًا مُطاعًا نَنْتَفِعُ بِرَأْيِكَ، ونَسْعَدُ بِسِيادَتِكَ قَبْلَ هَذا الَّذِي أظْهَرْتَهُ مِنِ ادِّعائِكَ النُّبُوَّةَ ودَعْوَتِكَ إلى التَّوْحِيدِ، وقِيلَ: كانَ صالِحٌ يَعِيبُ آلِهَتَهم وكانُوا يَرْجُونَ رُجُوعَهُ إلى دِينِهِمْ، فَلَمّا دَعاهم إلى اللَّهِ قالُوا انْقَطَعَ رَجاؤُنا مِنكَ، والِاسْتِفْهامُ في قَوْلِهِ: ﴿أتَنْهانا أنْ نَعْبُدَ ما يَعْبُدُ آباؤُنا﴾ لِلْإنْكارِ أنْكَرُوا عَلَيْهِ هَذا النَّهْيَ، وأنْ نَعْبُدَ في مَحَلِّ نَصْبٍ بِحَذْفِ الجارِّ: أيْ بِأنْ نَعْبُدَ، ومَعْنى ما يَعْبُدُ آباؤُنا: ما كانَ يَعْبُدُ آباؤُنا، فَهو حِكايَةُ حالٍ ماضِيَةٍ لِاسْتِحْضارِ الصُّورَةِ ﴿وإنَّنا لَفي شَكٍّ مِمّا تَدْعُونا إلَيْهِ مُرِيبٍ﴾ مِن أرَبْتُهُ فَأنا أُرِيبُهُ: إذا فَعَلْتُ بِهِ فِعْلًا يُوجِبُ لَهُ الرِّيبَةَ، وهي قَلَقُ النَّفْسِ وانْتِفاءُ الطُّمَأْنِينَةِ، أوْ مِن أرابَ الرَّجُلُ: إذا كانَ ذا رِيبَةٍ، والمَعْنى: إنَّنا لَفي شَكٍّ مِمّا تَدْعُونا إلَيْهِ مِن عِبادَةِ اللَّهِ وحْدَهُ، وتَرْكُ عِبادَةِ الأوْثانِ مُوقِعٌ في الرَّيْبِ. ﴿قالَ ياقَوْمِ أرَأيْتُمْ إنْ كُنْتُ عَلى بَيِّنَةٍ مِن رَبِّي﴾ أيْ حُجَّةٍ ظاهِرَةٍ وبُرْهانٍ صَحِيحٍ ﴿وآتانِي مِنهُ﴾ أيْ مِن جِهَتِهِ رَحْمَةً أيْ نُبُوَّةً، وهَذِهِ الأُمُورُ وإنْ كانَتْ مُتَحَقِّقَةَ الوُقُوعِ، لَكِنَّها صُدِّرَتْ بِكَلِمَةِ الشَّكِّ اعْتِبارًا بِحالِ المُخاطَبِينَ، لِأنَّهم في شَكٍّ مِن ذَلِكَ، كَما وصَفُوهُ عَنْ أنْفُسِهِمْ ﴿فَمَن يَنْصُرُنِي مِنَ اللَّهِ﴾ اسْتِفْهامٌ مَعْناهُ النَّفْيُ: أيْ لا ناصِرَ لِي يَمْنَعُنِي مِن عَذابِ اللَّهِ ﴿إنْ عَصَيْتُهُ﴾ في تَبْلِيغِ الرِّسالَةِ وراقَبْتُكم وفَتَرْتُ عَمّا يَجِبُ عَلَيَّ مِنَ البَلاغِ ﴿فَما تَزِيدُونَنِي﴾ بِتَثْبِيطِكم إيّايَ ﴿غَيْرَ تَخْسِيرٍ﴾ بِأنْ تَجْعَلُونِي خاسِرًا بِإبْطالِ عَمَلِي، والتَّعَرُّضِ لِعُقُوبَةِ اللَّهِ لِي. قالَ الفَرّاءُ: أيْ تَضْلِيلٍ وإبْعادٍ مِنَ الخَيْرِ، وقِيلَ المَعْنى: فَما تَزِيدُونَنِي بِاحْتِياجِكم بِدِينِ آبائِكم غَيْرَ بَصِيرَةٍ بِخَسارَتِكم. قَوْلُهُ: ﴿ويا قَوْمِ هَذِهِ ناقَةُ اللَّهِ لَكم آيَةً﴾ قَدْ مَرَّ تَفْسِيرُ هَذِهِ الآيَةِ في الأعْرافِ، ومَعْنى ﴿لَكم آيَةً﴾: مُعْجِزَةً ظاهِرَةً، وهي مُنْتَصِبَةٌ عَلى الحالِ، ولَكم في مَحَلِّ نَصْبٍ عَلى الحالِ مِن آيَةٍ مُقَدَّمَةٍ عَلَيْها، ولَوْ تَأخَّرَتْ لَكانَتْ صِفَةً لَها، وقِيلَ: إنَّ ناقَةَ اللَّهِ بَدَلٌ مِن هَذِهِ، والخَبَرُ لَكم، والأوَّلُ أوْلى، وإنَّما قالَ: ﴿ناقَةُ اللَّهِ﴾ لِأنَّهُ أخْرَجَها لَهم مِن جَبَلٍ عَلى حَسَبِ اقْتِراحِهِمْ، وقِيلَ: مِن صَخْرَةٍ صَمّاءَ (p-٦٦٤)﴿فَذَرُوها تَأْكُلْ في أرْضِ اللَّهِ﴾ أيْ دَعُوها تَأْكُلْ في أرْضِ اللَّهِ مِمّا فِيها مِنَ المَراعِي الَّتِي تَأْكُلُها الحَيَواناتُ. قالَ أبُو إسْحاقَ الزَّجّاجُ: ويَجُوزُ رَفْعُ ( تَأْكُلْ ) عَلى الحالِ والِاسْتِئْنافِ، ولَعَلَّهُ يَعْنِي في الأصْلِ عَلى ما تَقْتَضِيهِ لُغَةُ العَرَبِ لا في الآيَةِ، فالمُعْتَمَدُ القِراءاتُ المَرْوِيَّةُ عَلى وجْهِ الصِّحَّةِ ﴿ولا تَمَسُّوها بِسُوءٍ﴾ . قالَ الفَرّاءُ: بِعَقْرٍ، والظّاهِرُ أنَّ النَّهْيَ عَمّا هو أعَمُّ مِن ذَلِكَ ﴿فَيَأْخُذَكم عَذابٌ قَرِيبٌ﴾ جَوابُ النَّهْيِ: أيْ قَرِيبٌ مِن عَقْرِها، وذَلِكَ ثَلاثَةُ أيّامٍ. فَعَقَرُوها أيْ فَلَمْ يَمْتَثِلُوا الأمْرَ مِن صالِحٍ ولا النَّهْيَ، بَلْ خالَفُوا كُلَّ ذَلِكَ فَوَقَعَ مِنهُمُ العَقْرُ لَها فَقالَ لَهم صالِحٌ ﴿تَمَتَّعُوا في دارِكم ثَلاثَةَ أيّامٍ﴾ أيْ تَمَتَّعُوا بِالعَيْشِ في مَنازِلِكم ثَلاثَةَ أيّامٍ، فَإنَّ العِقابَ نازِلٌ عَلَيْكم بَعْدَها، قِيلَ: إنَّهم عَقَرُوها يَوْمَ الأرْبِعاءِ، فَأقامُوا الخَمِيسَ والجُمُعَةَ والسَّبْتَ وأتاهُمُ العَذابُ يَوْمَ الأحَدِ، والإشارَةُ بِقَوْلِهِ: ذَلِكَ إلى ما يَدُلُّ عَلَيْهِ الأمْرُ بِالتَّمَتُّعِ ثَلاثَةَ أيّامٍ ﴿وعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ﴾ أيْ غَيْرُ مَكْذُوبٍ فِيهِ، فَحَذَفَ الجارَّ اتِّساعًا، أوْ مِن بابِ المَجازِ كَأنَّ الوَعْدَ إذا وُفِّيَ بِهِ صَدَقَ ولَمْ يَكْذِبْ، ويَجُوزُ أنْ يَكُونَ مَصْدَرًا: أيْ وعْدٌ غَيْرُ كَذِبٍ. ﴿فَلَمّا جاءَ أمْرُنا﴾ أيْ عَذابُنا، أوْ أمْرُنا بِوُقُوعِ العَذابِ ﴿نَجَّيْنا صالِحًا والَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنّا﴾ قَدْ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُ هَذا في قِصَّةِ هُودٍ ﴿ومِن خِزْيِ يَوْمِئِذٍ﴾ أيْ ونَجَّيْناهم مِن خِزْيِ يَوْمَئِذٍ وهو هَلاكُهم بِالصَّيْحَةِ، والخِزْيُ: الذُّلُّ والمَهانَةُ، وقِيلَ مِن عَذابِ يَوْمِ القِيامَةِ، والأوَّلُ أوْلى. وقَرَأ نافِعٌ والكِسائِيُّ بِفَتْحِ ( يَوْمَ ) عَلى أنَّهُ اكْتَسَبَ البِناءَ مِنَ المُضافِ إلَيْهِ. وقَرَأ الباقُونَ بِالكَسْرِ ﴿إنَّ رَبَّكَ هو القَوِيُّ العَزِيزُ﴾ القادِرُ الغالِبُ الَّذِي لا يُعْجِزُهُ شَيْءٌ. ﴿وأخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ﴾ أيْ في اليَوْمِ الرّابِعِ مِن عَقْرِ النّاقَةِ، صِيحَ بِهِمْ فَماتُوا، وذُكِرَ الفِعْلُ لِأنَّ الصَّيْحَةَ والصِّياحَ واحِدٌ مَعَ كَوْنِ التَّأْنِيثِ غَيْرَ حَقِيقِيٍّ، قِيلَ صَيْحَةُ جِبْرِيلَ، وقِيلَ صَيْحَةٌ مِنَ السَّماءِ فَتَقَطَّعَتْ قُلُوبُهم وماتُوا، وتَقَدَّمَ في الأعْرافِ ﴿فَأخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ﴾ [الأعراف: ٧٨] قِيلَ: ولَعَلَّها وقَعَتْ عَقِبَ الصَّيْحَةِ ﴿فَأصْبَحُوا في دِيارِهِمْ جاثِمِينَ﴾ أيْ ساقِطِينَ عَلى وُجُوهِهِمْ مَوْتى قَدْ لَصِقُوا بِالتُّرابِ كالطَّيْرِ إذا جَثَمَتْ. ﴿كَأنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيها﴾ أيْ كَأنَّهم لَمْ يُقِيمُوا في بِلادِهِمْ أوْ دِيارِهِمْ، والجُمْلَةُ في مَحَلِّ نَصْبٍ عَلى الحالِ والتَّقْدِيرِ: مُماثِلِينَ لِمَن لَمْ يُوجَدْ ولَمْ يَقُمْ في مَقامٍ قَطُّ ﴿ألا إنَّ ثَمُودَ كَفَرُوا رَبَّهُمْ﴾ وضَعَ الظّاهِرَ مَوْضِعَ المُضْمَرِ لِزِيادَةِ البَيانِ، وصَرَّحَ بِكُفْرِهِمْ مَعَ كَوْنِهِ مَعْلُومًا تَعْلِيلًا لِلدُّعاءِ عَلَيْهِمْ بِقَوْلِهِ: ﴿ألا بُعْدًا لِثَمُودَ﴾ . وقَرَأ الكِسائِيُّ بِالتَّنْوِينِ. وقَدْ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُ هَذِهِ القِصَّةِ في الأعْرافِ بِما يَحْتاجُ إلى مُراجَعَتِهِ لِيَضُمَّ ما في إحْدى القِصَّتَيْنِ مِنَ الفَوائِدِ إلى الأُخْرى. وقَدْ أخْرَجَ أبُو الشَّيْخِ عَنِ السُّدِّيِّ: ﴿هُوَ أنْشَأكم مِنَ الأرْضِ﴾ قالَ: خَلَقَكم مِنَ الأرْضِ. وأخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وابْنُ أبِي حاتِمٍ وأبُو الشَّيْخِ عَنْ مُجاهِدٍ ﴿واسْتَعْمَرَكم فِيها﴾ قالَ: أعْمَرَكم فِيها. وأخْرَجَ ابْنُ أبِي حاتِمٍ عَنِ ابْنِ زَيْدٍ ﴿واسْتَعْمَرَكم فِيها﴾ قالَ: اسْتَخْلَفَكم فِيها. وأخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وأبُو الشَّيْخِ عَنْ مُجاهِدٍ ﴿فَما تَزِيدُونَنِي غَيْرَ تَخْسِيرٍ﴾ يَقُولُ: ما تَزْدادُونَ أنْتُمْ إلّا خَسارًا. وأخْرَجَ ابْنُ أبِي حاتِمٍ وأبُو الشَّيْخِ عَنْ عَطاءٍ الخُراسانِيِّ نَحْوَهُ. وأخْرَجَ ابْنُ أبِي حاتِمٍ عَنِ ابْنِ زَيْدٍ في قَوْلِهِ: ﴿فَأصْبَحُوا في دِيارِهِمْ جاثِمِينَ﴾ قالَ: مَيِّتِينَ. وأخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وابْنُ أبِي حاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ ﴿كَأنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيها﴾ قالَ: كَأنْ لَمْ يَعِيشُوا فِيها. وأخْرَجَ ابْنُ أبِي حاتِمٍ وأبُو الشَّيْخِ عَنْهُ، قالَ: كَأنْ لَمْ يَعْمُرُوا فِيها. وأخْرَجَ ابْنُ أبِي حاتِمٍ عَنْ قَتادَةَ قالَ: كَأنْ لَمْ يَنْعَمُوا فِيها.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب