الباحث القرآني

قَوْلُهُ: ويَقُولُونَ ذَكَرَ سُبْحانَهُ هاهُنا نَوْعًا رابِعًا مِن مَخازِيهِمْ، وهو مَعْطُوفٌ عَلى قَوْلِهِ: ويَعْبُدُونَ [يونس: ١٨] وجاءَ بِالمُضارِعِ لِاسْتِحْضارِ صُورَةِ ما قالُوهُ. قِيلَ: والقائِلُونَ هم أهْلُ مَكَّةَ، كَأنَّهم لَمْ يَعْتَدُّوا بِما قَدْ نَزَلَ عَلى رَسُولِ اللَّهِ - صَلّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وسَلَّمَ - مِنَ الآياتِ الباهِرَةِ، والمُعْجِزاتِ القاهِرَةِ الَّتِي لَوْ لَمْ يَكُنْ مِنها إلّا القُرْآنُ لَكَفى بِهِ دَلِيلًا بَيِّنًا ومُصَدِّقًا قاطِعًا: أيْ هَلّا أُنْزِلَتْ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنَ الآياتِ الَّتِي نَقْتَرِحُها عَلَيْهِ ونَطْلُبُها مِنهُ كَإحْياءِ الأمْواتِ وجَعْلِ الجِبالِ ذَهَبًا ونَحْوِ ذَلِكَ ؟ ثُمَّ أمَرَهُ اللَّهُ سُبْحانَهُ أنْ يُجِيبَ عَنْهم فَقالَ: ﴿فَقُلْ إنَّما الغَيْبُ لِلَّهِ﴾ أيْ أنَّ نُزُولَ الآيَةِ غَيْبٌ، واللَّهُ هو المُخْتَصُّ بِعِلْمِهِ، المُسْتَأْثِرُ بِهِ، لا عِلْمَ لِي ولا لَكم ولا لِسائِرِ مَخْلُوقاتِهِ،﴿فانْتَظِرُوا﴾ نُزُولَ ما اقْتَرَحْتُمُوهُ مِنَ الآياتِ ﴿إنِّي مَعَكم مِنَ المُنْتَظِرِينَ﴾ لِنُزُولِها، وقِيلَ: المَعْنى: انْتَظِرُوا قَضاءَ اللَّهِ بَيْنِي وبَيْنَكم بِإظْهارِ الحَقِّ عَلى الباطِلِ. قَوْلُهُ: ﴿وإذا أذَقْنا النّاسَ رَحْمَةً مِن بَعْدِ ضَرّاءَ مَسَّتْهم إذا لَهم مَكْرٌ في آياتِنا﴾ لَمّا بَيَّنَ سُبْحانَهُ في الآيَةِ المُتَقَدِّمَةِ أنَّهم طَلَبُوا آيَةً عِنادًا ومَكْرًا وُلِجاجًا، وأكَّدَ ذَلِكَ بِما ذَكَرَهُ هُنا مِن أنَّهُ سُبْحانَهُ إذا أذاقَهم رَحْمَةً مِنهُ مِن بَعْدِ أنْ مَسَّتْهُمُ الضَّرّاءُ، فَعَلُوا مُقابِلَ هَذِهِ النِّعْمَةِ العَظِيمَةِ المَكْرَ مِنهم في آياتِ اللَّهِ، والمُرادُ بِإذاقَتِهِمْ رَحْمَتَهُ سُبْحانَهُ: أنَّهُ وسَّعَ عَلَيْهِمْ في الأرْزاقِ، وأدَرَّ عَلَيْهِمُ النِّعَمَ بِالمَطَرِ وصَلاحِ الثِّمارِ بَعْدَ أنْ مَسَّتْهُمُ الضَّرّاءُ بِالجَدْبِ وضِيقِ المَعايِشِ، فَما شَكَرُوا نِعْمَتَهُ ولا قَدَرُوها حَقَّ قَدْرِها، بَلْ أضافُوها إلى أصْنامِهِمُ الَّتِي لا تَنْفَعُ ولا تَضُرُّ، وطَعَنُوا في آياتِ اللَّهِ واحْتالُوا في دَفْعِها بِكُلِّ حِيلَةٍ، وهو مَعْنى المَكْرِ فِيها. وإذا الأُولى شَرْطِيَّةٌ، وجَوابُها ( ﴿إذا لَهم مَكْرٌ﴾ )، وهي فُجائِيَّةٌ، ذَكَرَ مَعْنى ذَلِكَ الخَلِيلُ وسِيبَوَيْهِ. ثُمَّ أمَرَ اللَّهُ سُبْحانَهُ رَسُولَهُ أنْ يُجِيبَ عَنْهم فَقالَ: ﴿قُلِ اللَّهُ أسْرَعُ مَكْرًا﴾ أيْ أعْجَلُ عُقُوبَةً، وقَدْ دَلَّ أفْعَلُ التَّفْضِيلِ عَلى أنَّ مَكْرَهم كانَ سَرِيعًا، ولَكِنَّ مَكْرَ اللَّهِ أسْرَعُ مِنهُ. وإذا الفُجائِيَّةُ يُسْتَفادُ مِنها السُّرْعَةُ، لِأنَّ المَعْنى أنَّهم فاجَئُوا المَكْرَ: أيْ أوْقَعُوهُ عَلى جِهَةِ الفُجاءَةِ والسُّرْعَةِ، وتَسْمِيَةُ عُقُوبَةِ اللَّهِ سُبْحانَهُ مَكْرًا مِن بابِ المُشاكَلَةِ كَما قُرِّرَ في مُواطِنَ مِن عِباراتِ الكِتابِ العَزِيزِ: ﴿إنَّ رُسُلَنا يَكْتُبُونَ ما تَمْكُرُونَ﴾ . قَرَأ يَعْقُوبُ في رِوايَةٍ، وأبُو عَمْرٍو في رِوايَةٍ " يَمْكُرُونَ " بِالتَّحْتِيَّةِ، وقَرَأ الباقُونَ بِالفَوْقِيَّةِ. والمَعْنى: أنَّ رُسُلَ اللَّهِ وهُمُ المَلائِكَةُ يَكْتُبُونَ مَكْرَ الكُفّارِ لا يَخْفى ذَلِكَ عَلى المَلائِكَةِ الَّذِينَ هُمُ الحَفَظَةُ، فَكَيْفَ يَخْفى عَلى العَلِيمِ الخَبِيرِ ؟ وفي هَذا وعِيدٌ لَهم شَدِيدٌ، وهَذِهِ الجُمْلَةُ تَعْلِيلِيَّةٌ لِلْجُمْلَةِ الَّتِي قَبْلَها، فَإنَّ مَكْرَهم إذا كانَ ظاهِرًا لا يَخْفى، فَعُقُوبَةُ اللَّهِ كائِنَةٌ لا مَحالَةَ، ومَعْنى هَذِهِ الآيَةِ قَرِيبٌ مِن مَعْنى الآيَةِ المُتَقَدِّمَةِ وهي ﴿وإذا مَسَّ الإنْسانَ ضُرٌّ﴾ وفي هَذِهِ زِيادَةٌ، وهي أنَّهم لا يَقْتَصِرُونَ عَلى مُجَرَّدِ الإعْراضِ، بَلْ يَطْلُبُونَ الغَوائِلَ لِآياتِ اللَّهِ بِما يُدَبِّرُونَهُ مِنَ المَكْرِ. ﴿هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكم في البَرِّ والبَحْرِ﴾ ضَرَبَ سُبْحانَهُ لِهَؤُلاءِ مَثَلًا حَتّى يَنْكَشِفَ المُرادُ انْكِشافًا تامًّا، ومَعْنى تَسْيِيرِهِمْ في البَرِّ أنَّهم يَمْشُونَ عَلى أقْدامِهِمُ الَّتِي خَلَقَها لَهم لِيَنْتَفِعُوا بِها، ويَرْكَبُونَ ما خَلَقَهُ اللَّهُ لِرُكُوبِهِمْ مِنَ الدَّوابِّ، ومَعْنى تَسْيِيرِهِمْ في البَحْرِ: أنَّهُ ألْهَمَهم لِعَمَلِ السَّفائِنِ الَّتِي يَرْكَبُونَ فِيها في لُجَجِ البَحْرِ ويَسَّرَ ذَلِكَ لَهم ودَفَعَ عَنْهم أسْبابَ الهَلاكِ. وقَدْ قَرَأ ابْنُ عامِرٍ " وهو الَّذِي يَنْشُرُكم في البَحْرِ " بِالنُّونِ والشِّينِ المُعْجَمَةِ مِنَ النَّشْرِ كَما في قَوْلِهِ: ﴿فانْتَشِرُوا في الأرْضِ﴾ [الجمعة: ١٠] أيْ يَنْشُرُهم سُبْحانَهُ في البَحْرِ فَيُنَجِّي مَن يَشاءُ ويُغْرِقُ مَن يَشاءُ ﴿حَتّى إذا كُنْتُمْ في الفُلْكِ وجَرَيْنَ بِهِمْ﴾ الفُلْكُ يَقَعُ عَلى الواحِدِ والجَمْعِ ويُذَكَّرُ ويُؤَنَّثُ، وقَدْ تَقَدَّمَ تَحْقِيقُهُ وجَرَيْنَ أيِ السُّفُنَ ( بِهِمْ ): أيْ بِالرّاكِبِينَ عَلَيْها، و( حَتّى ) لِانْتِهاءِ الغايَةِ، والغايَةُ مَضْمُونُ الجُمْلَةِ الشَّرْطِيَّةِ بِكَمالِها، فالقُيُودُ المُعْتَبَرَةُ في الشَّرْطِ ثَلاثَةٌ: أوَّلُها: الكَوْنُ في الفُلْكِ، والثّانِي: جَرْيُها بِهِمْ بِالرِّيحِ الطَّيِّبَةِ الَّتِي لَيْسَتْ بِعاصِفَةٍ، وثالِثُها: فَرَحُهم. والقُيُودُ المُعْتَبَرَةُ في الجَزاءِ ثَلاثَةٌ: الأوَّلُ جاءَتْها أيْ لَجاءَتِ الفُلْكَ رِيحٌ عاصِفٌ أوْ جاءَتِ الرِّيحَ الطَّيِّبَةَ: أيْ تَلَقَّتْها رِيحٌ عاصِفٌ، والعُصُوفُ شِدَّةُ هُبُوبِ الرِّيحِ، والثّانِي ﴿وجاءَهُمُ المَوْجُ مِن كُلِّ مَكانٍ﴾ أيْ مِن جَمِيعِ الجَوانِبِ لِلْفُلْكِ، والمُرادُ جاءَ الرّاكِبِينَ فِيها، والمَوْجُ ما ارْتَفَعَ مِنَ الماءِ فَوْقَ البَحْرِ، والثّالِثُ ظَنُّوا أنَّهم أُحِيطَ بِهِمْ أيْ غَلَبَ عَلى ظُنُونِهِمُ الهَلاكُ، وأصْلُهُ مِن إحاطَةِ العَدُوِّ بِقَوْمٍ أوْ بِبَلَدٍ، فَجَعَلَ هَذِهِ الإحاطَةَ مَثَلًا في الهَلاكِ وإنْ كانَ بِغَيْرِ العَدُوِّ كَما هُنا، وجَوابُ إذا في قَوْلِهِ: ﴿إذا كُنْتُمْ في الفُلْكِ﴾ (p-٦١٨)قَوْلُهُ: جاءَتْها إلى آخِرِهِ ويَكُونُ قَوْلُهُ: ﴿دَعَوُا اللَّهَ﴾ بَدَلًا مِن ( ظَنُّوا ) لِكَوْنِ هَذا الدُّعاءِ الواقِعِ مِنهم إنَّما كانَ عِنْدَ ظَنِّ الهَلاكِ وهو الباعِثُ عَلَيْهِ، فَكانَ بَدَلًا مِنهُ بَدَلَ اشْتِمالٍ لِاشْتِمالِهِ عَلَيْهِ، ويُمْكِنُ أنْ يَكُونَ جُمْلَةُ ( دَعَوُا ) مُسْتَأْنَفَةً كَأنَّهُ قِيلَ: ماذا صَنَعُوا ؟ فَقِيلَ: دَعَوُا اللَّهَ، وفي قَوْلِهِ: ﴿وجَرَيْنَ بِهِمْ﴾ التِفاتٌ مِنَ الخِطابِ إلى الغَيْبَةِ، جَعَلَ الفائِدَةَ فِيهِ صاحِبُ الكَشّافِ المُبالَغَةَ. وقالَ الرّازِيُّ: الِانْتِقالُ مِن مَقامِ الخِطابِ إلى مَقامِ الغَيْبَةِ في هَذا المَقامِ دَلِيلُ المَقْتِ والتَّبْعِيدِ، كَما أنَّ عَكْسَ ذَلِكَ في قَوْلِهِ: ﴿إيّاكَ نَعْبُدُ﴾ [الفاتحة: ٥] دَلِيلُ الرِّضا والتَّقْرِيبِ، وانْتِصابُ ( مُخْلِصِينَ ) عَلى الحالِ: أيْ لَمْ يَشُوبُوا دُعاءَهم بِشَيْءٍ مِنَ الشَّوائِبِ، كَما جَرَتْ عادَتُهم في غَيْرِ هَذا المَوْطِنِ أنَّهم يُشْرِكُونَ أصْنامَهم في الدُّعاءِ، ولَيْسَ هَذا لِأجْلِ الإيمانِ بِاللَّهِ وحْدَهُ، بَلْ لِأجْلِ أنْ يُنْجِيَهم مِمّا شارَفُوهُ مِنَ الهَلاكِ لِعِلْمِهِمْ أنَّهُ لا يُنْجِيهِمْ سِوى اللَّهِ سُبْحانَهُ. وفِي هَذا دَلِيلٌ عَلى أنَّ الخَلْقَ جُبِلُوا عَلى الرُّجُوعِ إلى اللَّهِ في الشَّدائِدِ، وأنَّ المُضْطَرَّ يُجابُ دُعاؤُهُ، وإنْ كانَ كافِرًا. وفِي هَذِهِ الآيَةِ بَيانُ أنَّ هَؤُلاءِ المُشْرِكِينَ كانُوا لا يَلْتَفِتُونَ إلى أصْنامِهِمْ في هَذِهِ الحالَةِ وما يُشابِهُها، فَيا عَجَبًا لِما حَدَثَ في الإسْلامِ مِن طَوائِفَ يَعْتَقِدُونَ في الأمْواتِ، إذا عَرَضَتْ لَهم في البَحْرِ مِثْلُ هَذِهِ الحالَةِ دَعَوُا الأمْواتَ، ولَمْ يُخْلِصُوا الدُّعاءَ لِلَّهِ كَما فَعَلَهُ المُشْرِكُونَ كَما تَواتَرَ ذَلِكَ إلَيْنا تَواتُرًا يَحْصُلُ بِهِ القَطْعُ، فانْظُرْ - هَداكَ اللَّهُ - ما فَعَلَتْ هَذِهِ الِاعْتِقاداتُ الشَّيْطانِيَّةُ، وأيْنَ وصَلَ بِها أهْلُها، وإلى أيْنَ رَمى بِهِمُ الشَّيْطانُ، وكَيْفَ اقْتادَهم وتَسَلَّطَ عَلَيْهِمْ ؟ حَتّى انْقادُوا لَهُ انْقِيادًا ما كانَ يَطْمَعُ في مِثْلِهِ ولا في بَعْضِهِ مِن عُبّادِ الأوْثانِ، فَإنّا لِلَّهِ وإنّا إلَيْهِ راجِعُونَ، واللّامُ في ﴿لَئِنْ أنْجَيْتَنا مِن هَذِهِ﴾ هي اللّامُ المُوَطِّئَةُ لِلْقَسَمِ: أيْ قائِلِينَ ذَلِكَ، والإشارَةُ بِقَوْلِهِ: مِن هَذِهِ إلى ما وقَعُوا فِيهِ مِن مُشارَفَةِ الهَلاكِ في البَحْرِ، واللّامُ في لَنَكُونَنَّ جَوابُ القِسْمِ: أيْ لَنَكُونَنَّ في كُلِّ حالٍ مِمَّنْ يَشْكُرُ نِعَمَكَ الَّتِي أنْعَمْتَ بِها عَلَيْنا، مِنها هَذِهِ النِّعْمَةُ الَّتِي نَحْنُ بِصَدَدِ سُؤالِكَ أنْ تُفَرِّجَها عَنّا وتُنْجِيَنا مِنها، وقِيلَ: إنَّ هَذِهِ الجُمْلَةَ مَفْعُولُ ( دَعَوُا ) . فَلَمّا نَجّاهم اللَّهُ مِن هَذِهِ المِحْنَةِ الَّتِي وقَعُوا فِيها، وأجابَ دُعاءَهم، لَمْ يَفُوا بِما وعَدُوا مِن أنْفُسِهِمْ، بَلْ فَعَلُوا فِعْلَ الجاحِدِينَ لا فِعْلَ الشّاكِرِينَ، وجَعَلُوا البَغْيَ في الأرْضِ بِغَيْرِ الحَقِّ مَكانَ الشُّكْرِ. وإذا في ﴿إذا هم يَبْغُونَ﴾ هي الفُجائِيَّةُ: أيْ فاجَئُوا البَغْيَ في الأرْضِ بِغَيْرِ الحَقِّ، والبَغْيُ: هو الفَسادُ، مِن قَوْلِهِمْ بَغى الجُرْحُ: إذا تَرامى في الفَسادِ، وزِيادَةُ ( في الأرْضِ ) لِلدَّلالَةِ عَلى أنَّ فَسادَهم هَذا شامِلٌ لِأقْطارِ الأرْضِ، والبَغْيُ وإنْ كانَ يُنافِي أنْ يَكُونَ بِحَقٍّ، بَلْ لا يَكُونُ إلّا بِالباطِلِ، لَكِنْ زِيادَةُ ( بِغَيْرِ الحَقِّ ) إشارَةٌ إلى أنَّهم فَعَلُوا ذَلِكَ بِغَيْرِ شُبْهَةِ عِنْدَهم، بَلْ تَمَرُّدًا وعِنادًا، لِأنَّهم قَدْ يَفْعَلُونَ ذَلِكَ لِشُبْهَةٍ يَعْتَقِدُونَها مَعَ كَوْنِها باطِلَةً. قَوْلُهُ: ﴿ياأيُّها النّاسُ إنَّما بَغْيُكم عَلى أنْفُسِكم مَتاعَ الحَياةِ الدُّنْيا﴾ لَمّا ذَكَرَ سُبْحانَهُ أنَّ هَؤُلاءِ المُتَقَدِّمَ ذِكْرُهم يَبْغُونَ في الأرْضِ بِغَيْرِ الحَقِّ، ذَكَرَ عاقِبَةَ البَغْيِ وسُوءَ مَغَبَّتِهِ. قَرَأ ابْنُ إسْحاقَ، وحَفْصٌ والمُفَضَّلُ بِنَصْبِ مَتاعَ، وقَرَأ الباقُونَ بِالرَّفْعِ. فَمَن قَرَأ بِالنَّصْبِ جَعَلَ ما قَبْلَهُ جُمْلَةً تامَّةً: أيْ بَغْيُكم وبالٌ عَلى أنْفُسِكم، فَيَكُونُ بَغْيُكم مُبْتَدَأً و( عَلى أنْفُسِكم ) خَبَرَهُ، ويَكُونُ ( مَتاعَ ) في مَوْضِعِ المَصْدَرِ المُؤَكَّدِ، كَأنَّهُ قِيلَ: تَتَمَتَّعُونَ مَتاعَ الحَياةِ الدُّنْيا، ويَكُونُ المَصْدَرُ مَعَ الفِعْلِ المُقَدَّرِ اسْتِئْنافًا، وقِيلَ: إنَّ مَتاعَ عَلى قِراءَةِ النَّصْبِ ظَرْفُ زَمانٍ نَحْوُ مَقْدَمِ الحاجِّ: أيْ زَمَنَ مَتاعِ الحَياةِ الدُّنْيا، وقِيلَ: هو مَفْعُولٌ لَهُ: أيْ لِأجْلِ مَتاعِ الحَياةِ الدُّنْيا، وقِيلَ: مَنصُوبٌ بِنَزْعِ الخافِضِ: أيْ كَمَتاعِ، وقِيلَ: عَلى الحالِ عَلى أنَّهُ مَصْدَرٌ بِمَعْنى المَفْعُولِ: أيْ مُمَتَّعِينَ، وقَدْ نُوقِشَ غالِبُ هَذِهِ الأقْوالِ في تَوْجِيهِ النَّصْبِ. وأمّا مَن قَرَأ بِرَفْعِ " مَتاعُ " فَجَعَلَهُ خَبَرَ المُبْتَدَأِ: أيْ بَغْيُكم مَتاعُ الحَياةِ الدُّنْيا، ويَكُونُ ( ﴿عَلى أنْفُسِكُمْ﴾ ) مُتَعَلِّقٌ بِالمَصْدَرِ، والتَّقْدِيرُ: إنَّما بَغْيُكم عَلى أمْثالِكم والَّذِينَ جِنْسُهم جِنْسُكم مَتاعُ الحَياةِ الدُّنْيا ومَنفَعَتُها الَّتِي لا بَقاءَ لَها، فَيَكُونُ المُرادُ بِأنْفُسِكم عَلى هَذا الوَجْهِ أبْناءُ جِنْسِهِمْ، وعَبَّرَ عَنْهم بِالأنْفُسِ لِما يُدْرِكُهُ الجِنْسُ عَلى جِنْسِهِ مِنَ الشَّفَقَةِ، وقِيلَ: ارْتِفاعُ مَتاعٍ عَلى أنَّهُ خَبَرٌ ثانٍ، وقِيلَ: عَلى أنَّهُ خَبَرٌ لِمُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ: أيْ هو مَتاعٌ. قالَ النَّحّاسُ: عَلى قِراءَةِ الرَّفْعِ يَكُونُ ( بَغْيُكم ) مُرْتَفِعًا بِالِابْتِداءِ وخَبَرُهُ ( ﴿مَتاعَ الحَياةِ الدُّنْيا﴾ )، وعَلى أنْفُسِكم مَفْعُولُ البَغْيِ، ويَجُوزُ أنْ يَكُونَ خَبَرُهُ ( ﴿عَلى أنْفُسِكُمْ﴾ ) ويُضْمَرُ مُبْتَدَأٌ: أيْ ذَلِكَ مَتاعُ الحَياةِ الدُّنْيا، أوْ هو مَتاعُ الحَياةِ الدُّنْيا انْتَهى. وقَدْ نُوقِشَ أيْضًا بَعْضُ هَذِهِ الوُجُوهِ المَذْكُورَةِ في تَوْجِيهِ الرَّفْعِ بِما يَطُولُ بِهِ البَحْثُ في غَيْرِ طائِلٍ. والحاصِلُ أنَّهُ إذا جُعِلَ خَبَرُ المُبْتَدَأِ ( ﴿عَلى أنْفُسِكُمْ﴾ )، فالمَعْنى: أنَّ ما يَقَعُ مِنَ البَغْيِ عَلى الغَيْرِ هو بَغْيٌ عَلى نَفْسِ الباغِي بِاعْتِبارِ ما يَئُولُ إلَيْهِ الأمْرُ مِنَ الِانْتِقامِ مِنهُ مُجازاةً عَلى بَغْيِهِ، وإنْ جُعِلَ الخَبَرُ ( مَتاعُ )، فالمُرادُ أنَّ بَغْيَ هَذا الجِنْسِ الإنْسانِيِّ عَلى بَعْضِهِ بَعْضًا هو سَرِيعُ الزَّوالِ قَرِيبُ الِاضْمِحْلالِ، كَسائِرِ أمْتِعَةِ الحَياةِ الدُّنْيا فَإنَّها ذاهِبَةٌ عَنْ قُرْبٍ، مُتَلاشِيَةٌ بِسُرْعَةٍ، لَيْسَ لِذَلِكَ كَثِيرُ فائِدَةٍ ولا عَظِيمُ جَدْوى. ثُمَّ ذَكَرَ سُبْحانَهُ ما يَكُونُ عَلى ذَلِكَ البَغْيِ مِنَ المُجازاةِ يَوْمَ القِيامَةِ مَعَ وعِيدٍ شَدِيدٍ فَقالَ: ﴿ثُمَّ إلَيْنا مَرْجِعُكُمْ﴾ وتَقْدِيمُ الخَبَرِ لِلدَّلالَةِ عَلى القَصْرِ، والمَعْنى: أنَّكم بَعْدَ هَذِهِ الحَياةِ الدُّنْيا ومَتاعِها تُرْجَعُونَ إلى اللَّهِ، فَيُجازِي المُسِيءَ بِإساءَتِهِ، والمُحْسِنَ بِإحْسانِهِ ﴿فَنُنَبِّئُكم بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ﴾ في الدُّنْيا: أيْ فَنُخْبِرُكم بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ في الدُّنْيا مِن خَيْرٍ وشَرٍّ، والمُرادُ بِذَلِكَ المُجازاةُ كَما تَقُولُ لِمَن أساءَ: سَأُخْبِرُكَ بِما صَنَعْتَ، وفِيهِ أشَدُّ وعِيدٍ وأفْظَعُ تَهْدِيدٍ. وقَدْ أخْرَجَ ابْنُ أبِي حاتِمٍ، عَنِ الرَّبِيعِ، في قَوْلِهِ: ﴿فانْتَظِرُوا إنِّي مَعَكم مِنَ المُنْتَظِرِينَ﴾ قالَ: خَوَّفَهم عَذابَهُ وعُقُوبَتَهُ. وأخْرَجَ ابْنُ أبِي شَيْبَةَ، وابْنُ جَرِيرٍ، وابْنُ المُنْذِرِ، وابْنُ أبِي حاتِمٍ، وأبُو الشَّيْخِ، عَنْ مُجاهِدٍ في قَوْلِهِ: ﴿وإذا أذَقْنا النّاسَ رَحْمَةً مِن بَعْدِ ضَرّاءَ مَسَّتْهم إذا لَهم مَكْرٌ في آياتِنا﴾ قالَ: اسْتِهْزاءٌ وتَكْذِيبٌ. وأخْرَجَ ابْنُ المُنْذِرِ، عَنِ ابْنِ (p-٦١٩)جُرَيْجٍ في قَوْلِهِ: ﴿وظَنُّوا أنَّهم أُحِيطَ بِهِمْ﴾ قالَ: هَلَكُوا. وأخْرَجَ ابْنُ أبِي شَيْبَةَ، وأبُو داوُدَ، والنَّسائِيُّ، وابْنُ مَرْدَوَيْهِ، عَنْ سَعْدِ بْنِ أبِي وقّاصٍ ما حاصِلُهُ: أنَّ النَّبِيَّ - صَلّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وسَلَّمَ - لَمّا أهْدَرَ يَوْمَ الفَتْحِ دَمَ جَماعَةٍ، مِنهم عِكْرِمَةُ بْنُ أبِي جَهْلٍ، هَرَبَ مِن مَكَّةَ ورَكِبَ البَحْرَ فَأصابَهم عاصِفٌ، فَقالَ أصْحابُ السَّفِينَةِ لِأهْلِ السَّفِينَةِ: أخْلِصُوا فَإنَّ آلِهَتَكم لا تُغْنِي عَنْكم شَيْئًا، فَقالَ عِكْرِمَةُ: لَئِنْ لَمْ يُنْجِنِي في البَحْرِ الإخْلاصُ، ما يُنْجِينِي في البَرِّ غَيْرُهُ، اللَّهُمَّ إنَّ لَكَ عَهْدًا إنْ أنْتَ عافَيْتَنِي مِمّا أنا فِيهِ، أنْ آتِيَ مُحَمَّدًا حَتّى أضَعَ يَدِيَ في يَدِهِ، فَلَأجِدَنَّهُ عَفُوًّا كَرِيمًا، فَجاءَ فَأسْلَمَ. وأخْرَجَ أبُو الشَّيْخِ، وابْنُ مَرْدَوَيْهِ، وأبُو نُعَيْمٍ، والخَطِيبُ في تارِيخِهِ، والدَّيْلَمِيُّ في مُسْنَدِ الفِرْدَوْسِ، عَنْ أنَسٍ قالَ: قالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وسَلَّمَ -: «ثَلاثٌ هُنَّ رَواجِعُ عَلى أهْلِها: المَكْرُ، والنَّكْثُ، والبَغْيُ، ثُمَّ تَلا رَسُولُ اللَّهِ - صَلّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وسَلَّمَ -: ﴿ياأيُّها النّاسُ إنَّما بَغْيُكم عَلى أنْفُسِكم﴾، ﴿ولا يَحِيقُ المَكْرُ السَّيِّئُ إلّا بِأهْلِهِ﴾ [فاطر: ٤٣] ﴿فَمَن نَكَثَ فَإنَّما يَنْكُثُ عَلى نَفْسِهِ﴾» [الحج: ١٠] . وأخْرَجَ الحاكِمُ وصَحَّحَهُ، والبَيْهَقِيُّ في شُعَبِ الإيمانِ، عَنْ أبِي بَكْرَةَ قالَ: قالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وسَلَّمَ: «لا تَبْغِ ولا تَكُنْ باغِيًا، فَإنَّ اللَّهَ يَقُولُ: ﴿إنَّما بَغْيُكم عَلى أنْفُسِكُمْ﴾» . وأخْرَجَ أبُو الشَّيْخِ، عَنْ مَكْحُولٍ قالَ: ثَلاثٌ مَن كُنَّ فِيهِ كُنَّ عَلَيْهِ: المَكْرُ، والبَغْيُ، والنَّكْثُ، قالَ اللَّهُ سُبْحانَهُ: ﴿إنَّما بَغْيُكم عَلى أنْفُسِكُمْ﴾ . أقُولُ أنا: ويَنْبَغِي أنْ يَلْحَقَ بِهَذِهِ الثَّلاثِ الَّتِي دَلَّ القُرْآنُ عَلى أنَّها تَعُودُ عَلى فاعِلِها: الخَدْعُ، فَإنَّ اللَّهَ يَقُولُ: ﴿يُخادِعُونَ اللَّهَ والَّذِينَ آمَنُوا وما يَخْدَعُونَ إلّا أنْفُسَهم﴾ [البقرة: ٩] . وأخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ، عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ، قالَ: قالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وسَلَّمَ -: «لَوْ بَغى جَبَلٌ عَلى جَبَلٍ لَدُكَّ الباغِي مِنهُما» . وأخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ، مِن حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ مِثْلَهُ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب