الباحث القرآني
قَوْلُهُ: ﴿فَمَن أظْلَمُ﴾ اسْتِفْهامٌ فِيهِ مَعْنى الجَحْدِ أيْ لا أحَدَ أظْلَمُ ﴿مِمَّنِ افْتَرى عَلى اللَّهِ﴾ الكَذِبَ، وزِيادَةُ كَذِبًا مَعَ أنَّ الِافْتِراءَ لا يَكُونُ إلّا كَذِبًا؛ لِبَيانِ أنَّ هَذا مَعَ كَوْنِهِ افْتِراءً عَلى اللَّهِ هو كَذِبٌ في نَفْسِهِ، فَرُبَّما يَكُونُ الِافْتِراءُ كَذِبًا في الإسْنادِ فَقَطْ، كَما إذا أُسْنِدَ ذَنْبُ زَيْدٍ إلى عَمْرٍو، ذَكَرَ مَعْنى هَذا أبُو السُّعُودِ في تَفْسِيرِهِ، قِيلَ: وهَذا مِن جُمْلَةِ رَدِّهِ - صَلّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وسَلَّمَ - عَلى المُشْرِكِينَ لَمّا طَلَبُوا مِنهُ أنْ يَأْتِيَ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَذا القُرْآنِ، أوْ يُبَدِّلَهُ، فَبَيَّنَ لَهم أنَّهُ لَوْ فَعَلَ ذَلِكَ لَكانَ مِنَ الِافْتِراءِ عَلى اللَّهِ، ولا ظُلْمَ يُماثِلُ ذَلِكَ، وقِيلَ: المُفْتَرِي عَلى اللَّهِ الكَذِبَ هُمُ المُشْرِكُونَ، والمُكَذِّبُ بِآياتِ اللَّهِ هم أهْلُ الكِتابِ ﴿إنَّهُ لا يُفْلِحُ المُجْرِمُونَ﴾ تَعْلِيلٌ لِكَوْنِ لا أظْلِمَ مِمَّنِ افْتَرى عَلى اللَّهِ كَذِبًا أوْ كَذَّبَ بِآياتِهِ: أيْ لا يَظْفَرُونَ بِمَطْلُوبٍ ولا يَفُوزُونَ بِخَيْرٍ، والضَّمِيرُ في إنَّهُ لِلشَّأْنِ: أيْ إنَّ الشَّأْنَ هَذا.
ثُمَّ نَعى اللَّهُ سُبْحانَهُ عَلَيْهِمْ عِبادَةَ الأصْنامِ، وبَيَّنَ أنَّها لا تَنْفَعُ مَن عَبَدَها، ولا تَضُرُّ مَن لَمْ يَعْبُدْها، فَقالَ: ﴿ويَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ﴾ أيْ مُتَجاوِزِينَ اللَّهَ سُبْحانَهُ إلى عِبادَةِ غَيْرِهِ، لا بِمَعْنى تَرْكِ عِبادَتِهِ بِالكُلِّيَّةِ ﴿ما لا يَضُرُّهم ولا يَنْفَعُهُمْ﴾ أيْ ما لَيْسَ مِن شَأْنِهِ الضَّرَرُ ولا النَّفْعُ، ومِن حَقِّ المَعْبُودِ أنْ يَكُونَ مُثِيبًا لِمَن أطاعَهُ مُعاقِبًا لِمَن عَصاهُ، والواوُ لِعَطْفِ هَذِهِ الجُمْلَةِ عَلى جُمْلَةِ ﴿وإذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا﴾ وما في ﴿ما لا يَضُرُّهُمْ﴾ مَوْصُولَةٌ أوْ مَوْصُوفَةٌ، والواوُ في ﴿ويَقُولُونَ هَؤُلاءِ شُفَعاؤُنا عِنْدَ اللَّهِ﴾ لِلْعَطْفِ عَلى ويَعْبُدُونَ زَعَمُوا أنَّهم يَشْفَعُونَ لَهم عِنْدَ اللَّهِ فَلا يُعَذِّبُهم بِذُنُوبِهِمْ، وهَذا غايَةُ الجَهالَةِ مِنهم حَيْثُ يَنْتَظِرُونَ الشَّفاعَةَ في المَآلِ مِمَّنْ لا يُوجَدُ مِنهُ نَفْعٌ ولا ضُرٌّ في الحالِ، وقِيلَ: أرادُوا بِهَذِهِ الشَّفاعَةِ إصْلاحَ أحْوالِ دُنْياهم، ثُمَّ أمَرَ اللَّهُ سُبْحانَهُ رَسُولَهُ - صَلّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وسَلَّمَ - بِأنْ يُجِيبَ عَنْهم فَقالَ: ﴿قُلْ أتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِما لا يَعْلَمُ في السَّماواتِ ولا في الأرْضِ﴾ .
قَرَأ أبُو السَّمالِ العَدَوِيُّ " تُنْبِئُونَ " بِالتَّخْفِيفِ مِن أنْبَأ يُنْبِئُ.
وقَرَأ مَن عَداهُ بِالتَّشْدِيدِ مِن نَبَّأ يُنْبِئُ.
والمَعْنى: أتُخْبِرُونَ اللَّهَ أنَّ لَهُ شُرَكاءَ في مُلَكِهِ يُعْبَدُونَ كَما يُعْبَدُ، أوْ أتُخْبِرُونَهُ أنَّ لَكم شُفَعاءَ بِغَيْرِ إذْنِهِ، واللَّهُ سُبْحانَهُ لا يَعْلَمُ لِنَفْسِهِ شَرِيكًا، ولا شَفِيعًا بِغَيْرِ إذْنِهِ، مِن جَمِيعِ مَخْلُوقاتِهِ الَّذِينَ هم في سَماواتِهِ وفي أرْضِهِ ؟ وهَذا الكَلامُ حاصِلُهُ عَدَمُ وُجُودِ مَن هو كَذَلِكَ أصْلًا، وفي هَذا مِنَ التَّهَكُّمِ بِالكُفّارِ ما لا يَخْفى، ثُمَّ نَزَّهَ اللَّهُ سُبْحانَهُ نَفْسَهُ عَنْ إشْراكِهِمْ، وهو يُحْتَمَلُ أنْ يَكُونَ ابْتِداءَ كَلامٍ غَيْرِ داخِلٍ في الكَلامِ الَّذِي أمَرَ اللَّهُ سُبْحانَهُ رَسُولَهُ أنْ يُجِيبَ بِهِ عَلَيْهِمْ، ويُحْتَمَلُ أنْ يَكُونَ مِن تَمامِ ما أُمِرَ النَّبِيُّ - صَلّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وسَلَّمَ - أنْ يَقُولَهُ لَهم جَوابًا عَلَيْهِمْ.
قَرَأ حَمْزَةُ والكِسائِيُّ ﴿عَمّا يُشْرِكُونَ﴾ بِالتَّحْتِيَّةِ.
وقَرَأ الباقُونَ بِالفَوْقِيَّةِ، واخْتارَ القِراءَةَ الأُولى أبُو عُبَيْدٍ.
قَوْلُهُ: ﴿وما كانَ النّاسُ إلّا أُمَّةً واحِدَةً فاخْتَلَفُوا﴾ قَدْ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُهُ في البَقَرَةِ.
والمَعْنى: أنَّ النّاسَ ما كانُوا جَمِيعًا إلّا أُمَّةً واحِدَةً مُوَحِّدَةً لِلَّهِ سُبْحانَهُ مُؤْمِنَةً بِهِ، فَصارَ البَعْضُ كافِرًا وبَقِيَ البَعْضُ الآخَرُ مُؤْمِنًا، فَخالَفَ بَعْضُهم بَعْضًا.
وقالَ الزَّجّاجُ: هُمُ العَرَبُ كانُوا عَلى الشِّرْكِ.
وقالَ: كُلُّ مَوْلُودٍ يُولَدُ عَلى الفِطْرَةِ، فاخْتَلَفُوا عِنْدَ البُلُوغِ، والأوَّلُ أظْهَرُ.
ولَيْسَ المُرادُ أنَّ كُلَّ طائِفَةٍ أحْدَثَتْ مِلَّةً مِن مِلَلِ الكُفْرِ مُخالَفَةً لِلْأُخْرى، بَلِ المُرادُ كَفَرَ البَعْضُ وبَقِيَ البَعْضُ عَلى التَّوْحِيدِ كَما قَدَّمْنا ﴿ولَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِن رَبِّكَ﴾ وهي أنَّهُ سُبْحانَهُ لا يَقْضِي بَيْنَهم فِيما اخْتَلَفُوا فِيهِ إلّا يَوْمَ القِيامَةِ ﴿لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ﴾ في الدُّنْيا فِيما هم ﴿فِيهِ يَخْتَلِفُونَ﴾ لَكِنَّهُ قَدِ امْتَنَعَ ذَلِكَ بِالكَلِمَةِ الَّتِي لا تَتَخَلَّفُ، وقِيلَ: مَعْنى ﴿لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ﴾ بِإقامَةِ السّاعَةِ عَلَيْهِمْ، وقِيلَ: لَفُرِغَ مِن هَلاكِهِمْ، وقِيلَ: الكَلِمَةُ إنَّ اللَّهَ أمْهَلَ هَذِهِ الأُمَّةَ فَلا يُهْلِكُهم بِالعَذابِ في الدُّنْيا؛ وقِيلَ: الكَلِمَةُ أنَّهُ لا يَأْخُذُ أحَدًا إلّا بِحُجَّةٍ، وهي إرْسالُ الرُّسُلِ كَما قالَ تَعالى: ﴿وما كُنّا مُعَذِّبِينَ حَتّى نَبْعَثَ رَسُولًا﴾ [الإسراء: ١٥]، وقِيلَ: الكَلِمَةُ قَوْلُهُ: سَبَقَتْ رَحْمَتِي غَضَبِي.
وقَرَأ عِيسى بْنُ عُمَرَ " لَقَضى " بِالبِناءِ لِلْفاعِلِ.
وقَرَأ مَن عَداهُ بِالبِناءِ لِلْمَفْعُولِ.
(p-٦١٧)وقَدْ أخْرَجَ ابْنُ أبِي حاتِمٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ قالَ: قالَ النَّضْرُ: إذا كانَ يَوْمُ القِيامَةِ شَفَعَتْ لِيَ اللّاتُ والعُزّى، فَأنْزَلَ اللَّهُ: ﴿فَمَن أظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلى اللَّهِ كَذِبًا أوْ كَذَّبَ بِآياتِهِ إنَّهُ لا يُفْلِحُ المُجْرِمُونَ﴾ ﴿ويَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ ما لا يَضُرُّهم ولا يَنْفَعُهم﴾ الآيَةَ.
وأخْرَجَ أبُو الشَّيْخِ، عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ، في قَوْلِهِ: ﴿وما كانَ النّاسُ إلّا أُمَّةً واحِدَةً فاخْتَلَفُوا﴾ قالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: كانُوا عَلى هُدًى.
ورُوِيَ أنَّهُ قَرَأ هَكَذا.
وأخْرَجَ ابْنُ أبِي شَيْبَةَ، وابْنُ جَرِيرٍ، وابْنُ المُنْذِرِ، وابْنُ أبِي حاتِمٍ، وأبُو الشَّيْخِ، عَنْ مُجاهِدٍ في قَوْلِهِ: ﴿وما كانَ النّاسُ إلّا أُمَّةً واحِدَةً﴾ قالَ: آدَمَ وحْدَهُ ﴿فاخْتَلَفُوا﴾ قالَ: حِينَ قَتْلَ أحَدُ ابْنَيْ آدَمَ أخاهُ.
وأخْرَجَ ابْنُ أبِي حاتِمٍ، عَنِ السُّدِّيِّ، في الآيَةِ قالَ: كانَ النّاسُ أهْلَ دِينٍ واحِدٍ عَلى دِينِ آدَمَ فَكَفَرُوا، فَلَوْلا أنَّ رَبَّكَ أجَّلَهم إلى يَوْمِ القِيامَةِ لَقُضِيَ بَيْنَهم.
{"ayahs_start":17,"ayahs":["فَمَنۡ أَظۡلَمُ مِمَّنِ ٱفۡتَرَىٰ عَلَى ٱللَّهِ كَذِبًا أَوۡ كَذَّبَ بِـَٔایَـٰتِهِۦۤۚ إِنَّهُۥ لَا یُفۡلِحُ ٱلۡمُجۡرِمُونَ","وَیَعۡبُدُونَ مِن دُونِ ٱللَّهِ مَا لَا یَضُرُّهُمۡ وَلَا یَنفَعُهُمۡ وَیَقُولُونَ هَـٰۤؤُلَاۤءِ شُفَعَـٰۤؤُنَا عِندَ ٱللَّهِۚ قُلۡ أَتُنَبِّـُٔونَ ٱللَّهَ بِمَا لَا یَعۡلَمُ فِی ٱلسَّمَـٰوَ ٰتِ وَلَا فِی ٱلۡأَرۡضِۚ سُبۡحَـٰنَهُۥ وَتَعَـٰلَىٰ عَمَّا یُشۡرِكُونَ","وَمَا كَانَ ٱلنَّاسُ إِلَّاۤ أُمَّةࣰ وَ ٰحِدَةࣰ فَٱخۡتَلَفُوا۟ۚ وَلَوۡلَا كَلِمَةࣱ سَبَقَتۡ مِن رَّبِّكَ لَقُضِیَ بَیۡنَهُمۡ فِیمَا فِیهِ یَخۡتَلِفُونَ"],"ayah":"وَمَا كَانَ ٱلنَّاسُ إِلَّاۤ أُمَّةࣰ وَ ٰحِدَةࣰ فَٱخۡتَلَفُوا۟ۚ وَلَوۡلَا كَلِمَةࣱ سَبَقَتۡ مِن رَّبِّكَ لَقُضِیَ بَیۡنَهُمۡ فِیمَا فِیهِ یَخۡتَلِفُونَ"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق