(لَيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ وَلَا عَلَى الْمَرْضَى وَلَا عَلَى الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ مَا يُنْفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ)
ولما ذكر سبحانه المعذرين ذكر بعدهم أهل الأعذار الصحيحة المسقطة للغزو، وبدأ بالعذر في أصل الخلقة فقال: (ليس على الضعفاء) وهم أرباب الزمانة والهرم والعمى والعرج ونحو ذلك كالشيوخ والصبيان والنساء ومن خلق في أصل الخلقة ضعيفاً نحيفاً، والضعفاء جمع ضعيف، وهو الصحيح في بدنه العاجز عن الغزو.
ئم ذكر العذر العارض فقال: (ولا على المرضى) المراد بالمرض كل ما يصدق عليه اسم المرض لغة أو شرعاً، وقيل أنه يدخل في المرضى الأعمى والأعرج ونحوهما. ثم ذكر العذر الراجع إلى المال لا إلى البدن فقال: (ولا على الذين لا يجدون ما ينفقون حرج) أي ليست لهم أموال ينفقونها فيما يحتاجون إليه من التجهز للجهاد لفقرهم، كجهينة ومزينة وبني عذرة، فنفى سبحانه عن هؤلاء الثلاثة الحرج، وأبان أن الجهاد مع هذه الأعذار ساقط عنهم غير واجب عليهم مقيداً بقوله: (إذا نصحوا لله ورسوله) في حال قعودهم بالطاعة وعدم الأرجاف والتثبيط، وأصل النصح إخلاص العمل من الغش ومنه التوبة النصوح.
قال نفطويه: نصح الشيء إذا خلص ونصح له القول أي أخلصه له، والنصح لله الإيمان به والعمل بشريعته وترك ما يخالفها كائناً ما كان، ويدخل تحته دخولاً أولياً نصح عباده ومحبة المجاهدين في سبيله وبذل النصيحة لهم في أمر الجهاد وترك المعاونة لأعدائهم بوجه من الوجوه، ونصيحة الرسول صلى الله عليه وسلم التصديق بنبوته وبما جاء به، وطاعته في كل ما يأمر به أو ينهي عنه وموالاة من والاه ومعاداة من عاداه، ومحبته وتعظيم سنته وإحياؤها بعد موته بما تبلغ إليه القدرة.
وقد ثبت في الحديث أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: " الدين النصيحة " ثلاثاً، قالوا لمن؟ " قال لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم " [[مسلم 55.]]. وفي الخازن: النصح أن يقيموا في البلد ويحترزوا عن إفشاء الأراجيف وإثارة الفتن ويسمعوا في إيصال الخير إلى أهل الجهاد ويقوموا بمصالح بيوتهم.
(ما على المحسنين من سبيل) جملة مقررة لمضمون ما سبق، أى ليس على المعذورين الناصحين طريق عقاب ومؤاخذة، ومن مزيدة للتأكيد، وعلى هذا فيكون لفظ المحسنين موضوعاً في موضع الضمير الراجع إلى المذكورين سابقاً، وأتى بالظاهر للدلالة على انتظامهم بنصحهم في سلك المحسنين، أو يكون المراد ما على جنس المحسنين من سبيل، وهؤلاء المذكورون سابقاً من جملتهم، فتكون الجملة تعليلية، وقولهم لا سبيل عليه معناه لا حرج ولا عتاب، وأنه بمعنى لا عاتب يمر عليه فضلاً عن العتاب، وإذا تعدى بإلى كقوله:
ألا ليت شعري هل إلى أم سالم ... سبيل فأما الصبر عنها فلا صبر
فبمعنى الوصول كما قال:
هل من سبيل إلى خمر فأشربها ... أم من سبيل إلى نصر بن حجاج
ونحوه، فتنبه لمواطن استعماله فإنه من مهمات الفصاحة (والله غفور رحيم) لهم أو للمسيء فكيف للمحسن، والجملة تذييلية.
وفي معنى هذه الآية قوله تعالى (لا يكلف الله نفساً إلا وسعها) وقوله (ليس على الأعمى حرج ولا على الأعرج حرج ولا على المريض حرج).
وإسقاط التكليف عن هؤلاء المعذورين لا يستلزم عدم ثبوت ثواب الغزو لهم الذي عذر الله عنه مع رغبتهم إليه لولا حبسهم العذر عنه، ومنه حديث أنس عند أبي داود وأحمد، وأصله في الصحيحين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " لقد تركتم بعدكم قوماً ما سرتم من مسير ولا أنفقتم من نفقة ولا قطعتم وادياً إلا وهم فيه " قالوا يا رسول الله وكيف يكونون معنا وهم بالمدينة؟ فقال " حبسهم العذر " [[البخاري كتاب الجهاد باب 35.]].
وأخرجه أحمد ومسلم من حديث جابر [[مسلم 1911.]] عن قتادة قال: أنزلت هذه الآية في عائد بن عمر المزني، وقال الضحاك: عذرهم وجعل لهم من العذر ما جعل للمجاهدين.
قال الرازي: ليس في الآية أنه يحرم عليهم الخروج، لأن الواحد لو خرج ليعين المجاهدين بمقدار القدرة إما بحفظ متاعهم أو بتكثير سوادهم، بشرط أن لا يجعل نفسه كلاًّ ووبالاً عليهم لكان ذلك طاعة مقبولة.
{"ayah":"لَّیۡسَ عَلَى ٱلضُّعَفَاۤءِ وَلَا عَلَى ٱلۡمَرۡضَىٰ وَلَا عَلَى ٱلَّذِینَ لَا یَجِدُونَ مَا یُنفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُوا۟ لِلَّهِ وَرَسُولِهِۦۚ مَا عَلَى ٱلۡمُحۡسِنِینَ مِن سَبِیلࣲۚ وَٱللَّهُ غَفُورࣱ رَّحِیمࣱ"}