(يقولون لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل) القائل لهذه المقالة هو عبد الله بن أبيّ رأس المنافقين، وعنى بالأعز نفسه ومن معه، وبالأذل رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن معه، والمراد بالرجوع رجوعهم من تلك الغزوة، وإنما أسند القول إلى المنافقين مع كون القائل فرداً من أفرادهم وهو ابن أبيّ لكونه رئيسهم، وصاحب أمرهم، وهم راضون بما يقوله السامعون له مطيعون.
أخرج البخاري ومسلم وغيرهما.
" عن جابر بن عبد الله قال: كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في غزاة، قال سفيان: يرون أنها غزوة بني المصطلق فكسع رجل من المهاجرين رجلاً من الأنصار، فقال المهاجري: يا للمهاجرين، وقال الأنصاري: يا للأنصار، فسمع ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فقال: ما بال دعوة الجاهلية؟ قالوا: رجل من المهاجرين كسع رجلاً من الأنصار، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: دعوها فإنها منتنة، فسمع ذلك عبد الله بن أبيّ فقال: أوقد فعلوها؟ والله لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل، فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم، فقام عمر فقال: يا رسول الله دعني أضرب عنق هذا المنافق، فقال النبي صلى الله عليه وسلم دعه لا يتحدث الناس أن محمداً يقتل أصحابه، زاد الترمذي فقال له ابنه عبد الله بن عبد الله: والله لا تنقلب حتى تقرَّ أنك الذليل ورسول الله العزيز ففعل " [[رواه البخاري ومسلم.]] وكانت تلك الغزوة في السنة الرابعة، وقيل في السادسة، ثم رد الله سبحانه على قائل تلك المقالة فقال:
(ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين) الجملة حالية أي قالوا ما ذكر، والحال أن كل من له نوع بصيرة يعلم أن القوة والغلبة لله وحده، ولمن أفاضها عليه من رسله، وصالحي عباده، وعزة الله قهره وغلبته لأعدائه، وعزة رسوله إظهار دينه على الأديان كلها، وعزة المؤمنين نصر الله إياهم على أعدائهم، عن بعض الصالحات وكانت في هيئة رثة ألست على الإسلام وهو العز الذي لا ذل معه، والغنى الذي لا فقر معه؟ وعن الحسن بن علي أن رجلاً قال له: إن الناس يزعمون أن فيك تيهاً، قال: ليس بتيه ولكنه عزة، وتلا هذه الآية اللهم كما جعلت العزة للمؤمنين على المنافقين، فاجعل العزة للعادلين من عبادك، وأنزل الذلة على الجائرين الظالمين.
(ولكن المنافقين لا يعلمون) بما فيه النفع فيفعلونه، وبما فيه الضر فيجتنبونه، بل هم كالأنعام لفرط جهلهم، ومزيد حيرتهم، والطبع على قلوبهم، ختم هذه الآية بلا يعلمون، وما قبلها بلا يفقهون. لأن الأول متصل بقوله: (ولله خزائن السموات والأرض)، وفي معرفتها غموض يحتاج إلى فطنة وفقه، فناسب نفي الفقه عنهم، والثاني متصل بقوله: (ولله العزة) الخ وفي معرفتها غموض زائد يحتاج إلى علم فناسب نفي العلم عنهم، فالمعنى لا يعلمون أن الله معز أولياءه ومذل أعداءه، قال الكرخي: والحاصل أنه لما أثبت المنافقون لفريقهم إخراج المؤمنين من المدينة أثبت الله تعالى في الرد عليهم صفة العزة لغير فريقهم، وهو الله ورسوله والمؤمنون.
وفي شرح جمع الجوامع: ومن قوادح العلة القول بالموجب بفتح الجيم، وهو تسليم الدليل مع بقاء النزاع بأن يظهر المعترض عدم استلزام الدليل لمحل النزاع، وشاهده: (ولله العزة ولرسوله) في جواب (ليخرجن الأعز منها الأذل) ولما ذكر سبحانه قبائح المنافقين، رجع إلى خطاب المؤمنين مرغباً لهم في ذكره فقال:
{"ayah":"یَقُولُونَ لَىِٕن رَّجَعۡنَاۤ إِلَى ٱلۡمَدِینَةِ لَیُخۡرِجَنَّ ٱلۡأَعَزُّ مِنۡهَا ٱلۡأَذَلَّۚ وَلِلَّهِ ٱلۡعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِۦ وَلِلۡمُؤۡمِنِینَ وَلَـٰكِنَّ ٱلۡمُنَـٰفِقِینَ لَا یَعۡلَمُونَ"}