(وَقَالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ) قال الحسن ومقاتل والسدي: كان قبطياً وهو ابن عم فرعون، وهو الذي نجا مع موسى، وهو المراد بقوله (وَجَاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعَى) وقيل: كان من بني إسرائيل ولم يكن من آل فرعون وهو خلاف ما في الآية وقد تمحل لذلك بأن في الآية تقديماً وتأخيراً، والتقدير وقال رجل من بني إسرائيل يكتم إيمانه من آل فرعون، قال القشيري: ومن جعله إسرائيلياً ففيه بعد لأنه يقال: كتمه أمر كذا ولا يقال كتم منه كما قال سبحانه:
(ولا يكتمون الله حديثاً) وأيضاًً ما كان فرعون يحتمل من بني إسرائيل مثل هذا القول وقد اختلف في اسم هذا الرجل فقيل: حبيب، وقيل: شمعون، وهو الأصح كما في مبهمات القرآن وقيل: حزقيل وبه قال ابن عباس وأكثر العلماء، وقال وهب كان اسمه جبريل، وقيل غير ذلك قال ابن عباس: لم يكن في آل فرعون مؤمن غيره وغير امرأة فرعون، وغير المؤمن الذي أنذر موسى، الذي قال: (إن الملأ يأتمرون بك ليقتلوك) قال ابن المنذر: أخبرت أنه حزقيل، وعن أبي إسحق قال: اسمه حبيب، قرأ الجمهور رجل بضم الجيم وقرىء بسكونها وهي لغة تميم ونجد، والأولى هي الفصيحة، وقرىء بكسر الجيم.
(أتقتلون رجلاً) الاستفهام للإنكار (أن يقول) أي لأن يقول أو كراهة أن يقول، وقال الزمخشري: أي وقت أن يقول، ورد ذلك لنص النحاة على خلافه، وقال الإمام تاج الدين ابن مكتوم: أجاز ابن جني ذلك والأول أولى (ربي الله) وهو ربكم أيضاًً لا ربه وحده، وهو إشارة إلى التوحيد، وهذا إنكار منه عظيم، كأنه قيل: أترتكبون الفعلة الشنعاء التي هي قتل نفس محرمة من غير روية وتأمل في أمره واطلاع على سبب يوجب قتله؟ وما لكم علة في ارتكابه إلا كلمة الحق وهو قوله ربي الله.
(وقد جاءكم بالبينات من ربكم) أي والحال أن قد جاءكم بالمعجزات الواضحات. والدلالات الظاهرات على نبوته، وصحة رسالته، والمعنى أنه لم يحضر لتصحيح قوله ببينة واحدة ولكن ببينات من عند من نسبت إليه الربوبية، وهو استدراج لهم إلى الاعتراف به.
أخرج البخاري وغيره من طريق عروة قال: قيل لعبد الله بن عمرو ابن العاص " أخبرنا بأشد شيء صنعه المشركون برسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " بينا رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي بفناء الكعبة، إذ أقبل عقبة بن أبي معيط فأخذ بمنكب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولوى ثوبه في عنقه، فخنقه خناقاً شديداً فأقبل أبو بكر فأخذ بمنكبيه ودفعه عن النبي صلى الله عليه وسلم ثم قال (أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ وَقَدْ جَاءَكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ مِنْ رَبِّكُمْ)؟
وأخرج البزار وأبو نعيم في فضائل الصحابة عن علي ابن أبي طالب أنه قال: يا أيها الناس أخبروني من أشجع الناس؟ قالوا: أنت، قال: أما إني ما بارزت أحداً إلا انتصفت منه ولكن أخبروني عن أشجع الناس؟ قالوا: لا نعلم فمن؟ قال: أبو بكر، رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وأخذته قريش فهذا يجنبه وهذا يتلتله وهم يقولون: أنت الذي جعلت الآلهة إلهاً واحداً قال فوالله ما دنا منا أحد إلا أبو بكر يضرب هذا، يجىء هذا ويتلتل هذا، وهو يقول ويلكم أتقتلون رجلاً أن يقول ربي الله؟ ثم دفع بردة كانت عليه فبكى حتى اخضلت لحيته، ثم قال أنشدكم أمؤمن آل فرعون خير؟ أم أبو بكر؟ فسكت القوم فقال ألا تجيبون؟ فوالله لساعة من أبي بكر خير من مثل مؤمن من آل فرعون ذاك رجل يكتم إيمانه وهذا رجل أعلن إيمانه ".
ثم تلطف الرجل المؤمن لهم في الدفع عن موسى واحتج عليهم بطريق التقسيم فقال:
(وإن يك كاذباً فعليه كذبه) أي ضرر كذبه (وإن يك صادقاً يصبكم بعض الذي يعدكم) هذا كلام صادر عن غاية الإنصاف، وعدم التعصب ولذلك قدم من شقي الترديد كونه كاذباً، وإنما خوفهم به اقتصاراً على ما هو أظهر احتمالاً عندهم، ولم يكن قوله هذا لشك منه فإنه كان مؤمناً كما وصفه الله، ولا يشك المؤمن.
والمعنى إذا لم يصبكم كله فلا أقل من أن يصيبكم بعضه، لا سيما إن تعرضتم له بسوء. وقال أبو عبيدة وأبو الهيثم. بعض هنا بمعنى كل، أي يصيبكم كل الذي يعدكم، والبعض قد يستعمل في لغة العرب بمعنى الكل، قال النسفي: وتفسير البعض بالكل مزيف انتهى نعم ولا ضرورة تلجىء إلى حمل ما في الآية على ذلك لأنه أراد التنزل معهم وإيهامهم أنه لا يعتقد صحة نبوته كما يفيده قوله (يكتم إيمانه).
قال أهل المعاني وهذا على المظاهرة في الحجاج، كأنه قال لهم: أقل ما يكون في صدقه أن يصيبكم بعض الذي يعدكم، وفي بعض ذلك هلاككم، فكأن الحاصل بالبعض هو الحاصل بالكل. وقال الليث: بعض ههنا صلة يريد بصيبكم الذي يعدكم، وقيل يصيبكم هذا العذاب الذي يقوله في الدنيا، وهو بعض ما يتوعدكم به من العذاب. وقيل إنه وعدهم بالثواب والعقاب فإذا كفروا أصابهم العذاب، وهو بعض ما وعدهم به وحذفت النون من يكن في الموضعين تخفيفاً لكثرة الاستعمال كما قال سيبويه.
(إن الله لا يهدي من هو مسرف كذاب) هذا من تمام كلام الرجل المؤمن، وهو احتجاج آخر ذو وجهين، أحدهما أنه لو كان موسى مسرفاً كذاباً لما هداه الله إلى البينات، ولا أيده بالمعجزات، وثانيهما أنه إذا كان كذلك خذله الله وأهلكه، فلا حاجة لكم إلى قتله، والمسرف المقيم على المعاصي المستكثر منها، والكذاب المفتري.
{"ayah":"وَقَالَ رَجُلࣱ مُّؤۡمِنࣱ مِّنۡ ءَالِ فِرۡعَوۡنَ یَكۡتُمُ إِیمَـٰنَهُۥۤ أَتَقۡتُلُونَ رَجُلًا أَن یَقُولَ رَبِّیَ ٱللَّهُ وَقَدۡ جَاۤءَكُم بِٱلۡبَیِّنَـٰتِ مِن رَّبِّكُمۡۖ وَإِن یَكُ كَـٰذِبࣰا فَعَلَیۡهِ كَذِبُهُۥۖ وَإِن یَكُ صَادِقࣰا یُصِبۡكُم بَعۡضُ ٱلَّذِی یَعِدُكُمۡۖ إِنَّ ٱللَّهَ لَا یَهۡدِی مَنۡ هُوَ مُسۡرِفࣱ كَذَّابࣱ"}