الباحث القرآني

مِنَ الَّذِينَ هَادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَيَقُولُونَ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ وَرَاعِنَا لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْنًا فِي الدِّينِ وَلَوْ أَنَّهُمْ قَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَاسْمَعْ وَانْظُرْنَا لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَقْوَمَ وَلَكِنْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلاً (46) (من الذين هادوا) قوم (يحرّفون الكلم عن مواضعه) وقال الفراء التقدير من الذين هادوا من يحرفون كقوله (وما منّا إلا له مقام معلوم) أي من له مقام، وأنكره المبرد والزجاج وقيل بيان لقوله (الذين أوتوا نصيباً من الكتاب) والتحريف الإمالة والإزالة أي يميلونه ويزيلونه عن مواضعه ويجعلون مكانه غيره، أو المراد أنهم يتأولونه على غير تأويله، وإليه ذهبت طائفة من الفقهاء والمحدثين. وقال ابن عباس: يحرفون حدود الله في التوراة، وقال مجاهد: تبديل اليهود التوراة، وذمهم الله عز وجل بذلك لأنهم يفعلونه عناداً وبغياً وإيثاراً لعرض الدنيا. قال الحافظ ابن القيم رحمه الله في إغاثة اللهفان: وقد اختلف في التوراة التي بأيديهم هل هي مبدلة أم التبديل وقع في التأويل دون التنزيل؟ على ثلاثة أقوال قالت طائفة: كلها أو أكثرها مبدّل، وغلا بعضهم حتى قال يجوز الاستجمار بها، وقالت طائفة من أئمة الحديث والفقه والكلام إنما وقع التبديل في التأويل. قال البخاري في صحيحه يحرفون يزيلون، وليس أحد يزيل لفظ كتاب من كتب الله ولكنهم يتأولونه على غير تأويله، وهو اختيار الرازي أيضاً، وسمعت شيخنا يقول: وقع النزاع بين الفضلاء فأجاز هذا المذهب ووهى غيره، فأنكر عليه فأظهر خمسة عشر نقلا به. ومن حجة هؤلاء أن التوراة قد طبقت مشارق الأرض ومغاربها وانتشرت جنوباً وشمالاً، ولا يعلم عدد نسخها إلا الله فيمتنع التواطؤ على التبديل والتغيير في جميع تلك النسخ حتى لا تبقى في الأرض نسخة إلا مبدلة، وهذا مما يحيله العقل، قالوا: وقد قال الله لنبيه (قل فأتوا بالتوراة فاتلوها إن كنتم صادقين) قالوا: وقد اتفقوا على ترك فريضة الرجم ولم يمكنهم تغييرها من التوراة ولذا لما قرؤها على النبي صلى الله عليه وآله وسلم وضع القارىء يده على آية الرجم، فقال له عبد الله بن سلام ارفع يدك فرفعها فإذا هي تلوح تحتها. وتوسطت طائفة فقالوا: قد زيد فيها وغير أشياء يسيرة جداً، واختاره شيخنا في الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح، قال وهذا كما في التوراة عقدهم أن الله سبحانه قال لإبراهيم: اذبح ابنك بكرك أو وحيدك إسحق. قلت والزيادة باطلة من وجوه عشرة الأول: أن بكره ووحيده اسمعيل باتفاق الملل الثلاث. الثاني: أنه سبحانه أمر إبراهيم أن ينقل هاجر وابنها اسمعيل عن سارة ويسكنها في برية مكة لئلا تغار سارة فأمره بإبعاد السرية وولدها عنها فكيف يؤمر بعد هذا بذبح ابن سارة وابقاء ابن السرية، وهذا مما لا تقتضيه الحكمة. الثالث: أن قصة الذبح كانت بمكة قطعاً ولذا جعل الله سبحانه ذبح الهدايا والقرابين بمكة تذكيراً للأئمة بما كان من إبراهيم وولده هنالك. الرابع: أن الله بشر سارة أم إسحق بإسحق ومن ورائه يعقوب فبشرها بهما جميعاً فكيف يأمر بعد ذلك بذبح إسحق وقد بشر أبويه بولد ولده. الخامس: أن الله لما ذكر قصة الذبح وتسليمه نفسه لله وإقدام إبراهيم على ذبحه وفرغ من قصته قال بعدها وبشرناها بإسحق نبياً من الصالحين، فشكر الله له استسلامه وبذل ولده له، وجعل من آياته على ذلك أن آتاه إسحق فنجى إسمعيل من الذبح وزاد عليه إسحق. السادس: أن إبراهيم عليه السلام سأل ربه الولد فأجاب دعاءه وبشره به فلما بلغ معه السعي أمره بذبحه قال تعالى (وقال إني ذاهب إلى ربي سيهدين. رب هب لي من الصالحين. فبشرناه بغلام حليم) فهذا دليل أن هذا الولد إنما بشر به بعد دعائه وسؤاله ربه أن يهب له ولداً وهذا المبشر به هو المأمور بذبحه قطعاً بنص القرآن، وأما إسحق فإنه بشر به من غير دعوة منه بل على كبر السن وكون مثله لا يولد له، وإنما كانت البشارة به لامرأته سارة، ولذا تعجبت من حصول الولد منها. السابع: أن إبراهيم لم يقدم بإسحق إلى مكة البتّة، ولم يفرق بينه وبين أمه، وكيف يأمره الله أن يذهب بابن امرأته فيذبحه بموضع ضرّتها وفي بلدها ويدع ابن ضرتها. الثامن: أن الله لما اتخذ إبراهيم خليلاً، والخلّة تتضمن أن يكون قلبه كله متعلقاً بربه ليس فيه سعة لغيره، فلما سأل الولد وهب له إسمعيل فتعلّق به شعبة من قلبه، فأراد خليله أن تخلص تلك الشعبة له فامتحنه بذبح ولده، فلما امتثل خلصت تلك الخلة فنسخ الأمر بذبحه لحصول الغرض وهو العزم وتوطين النفس على الامتثال، ومن المعلوم أن هذا إنما يكون في أول الأولاد لا في آخرها، فلما حصل هذا المقصود مع الولد الأول لم يحتج إلى مثله مع الولد الآخر، فإنه لو زاحمت محبة الولد الآخر الخلة لأمر بذبحه، فلو كان المأمور بذبحه هو الولد الآخر لكان قد أقره في الأول على مزاحمة الخلة به مدة طويلة، ثم أمره بما يزيل المزاحم بعد ذلك وهو خلاف مقتضى الحكمة فليتأمل. التاسع: أن إبراهيم إنما رزق إسحق على الكبر، وإسمعيل رزقه في عنفوان شبابه، والعادة أن القلب أعلق بالأول. العاشر: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يفتخر بأنه ابن الذبيحين يعني أباه عبد الله وجده إسمعيل، والمقصود أن هذه اللفظة مما زاده في التوراة انتهى ملخصاً. قال الخفاجي: في العناية في تفسير الفاتحة وأما الإنجيل ففيه تبديل وتحريف في بعض ألفاظه ومعانيه وهو مختلف النسخ، والأناجيل أربعة كما فصله بعضهم في كتاب عقده لذلك سماه المفيد في التوحيد انتهى. (ويقولون سمعنا) قولك (وعصينا) أمرك (واسمع) حال كونك (غير مسمع) كلاماً أصلاً بصمم أو موت وهو يحتمل أن يكون دعاء على النبي صلى الله عليه وآله وسلم، والمعنى اسمع لا سمعت أو غير مسمع كلاماً ترضاه. ويحتمل أن يكون المعنى اسمع منا غير مسمع جواباً كانوا يخاطبون به النبي - صلى الله عليه وسلم - استهزاء به مظهرين له إرادة المعنى الأخير، وهم مضمرون في أنفسهم المعنى الأول، وقال ابن عباس: غير مقبول. وقد تقدم الكلام في (وراعنا) أي يريدون بذلك نسبته إلى الرعونة وقيل معناه ارعنا سمعك، ومثل ذلك لا يخاطب به الأنبياء، وهي كلمة سب بلغتهم. ومعنى (ليّاً بألسنتهم) أنهم يلوونها عن الحق أي يميلونها إلى ما في قلوبهم، وأصل الليّ الفتل أي فتلاً بها وصرفاً للكلام عن نهجه إلى نسبة السب حيث وضعوا (غير مسمع) موضع لا سمعت مكروهاً، وأجروا راعنا المشابهة لراعنا مجرى انظرنا أو فتلاً بها وضماً لما يظهرونه من الدعاء والتوقير إلى ما يضمرونه من السب والتحقير [[في " مشكل القرآن " 291: هؤلاء قوم من اليهود كانوا يقولون للنبي - صلى الله عليه وسلم - إذا حدثهم وأمرهم: سمعنا، ويقولون في أنفسهم: عصينا، وإن أرادوا أن يكلموه بشيء قالوا له: اسمع يا أبا القاسم، ويقولون في أنفسهم: لا سمعت، ويقولون له: راعنا، ويوهمونه في ظاهر اللفظ أنهم يريدون: انتظرنا، حتى نكلمك بما نريد، كما تقول العرب: أعرني سمعك وراعني، أي: انتظرني وترفق بي وتلوم علي، هذا ونحوه، وإنما يريد سبه بالرعونة في لغتهم، فقال الله سبحانه: (من الذين هادوا يحرفون الكلم عن مواضعه) ويقولون كذا وكذا، ويقولون: (راعنا لياً بألسنتهم) أي: قلباً للكلام بها، (وطعناً في الدين ولو أنهم قالوا سمعنا وأطعنا) مكان قولهم: سمعنا وعصينا، وقالوا: واسمع، مكان قولهم: لا سمعت، وانظرنا، مكان قولهم: راعنا لكان خيراً لهم وأقوم.]]. (وطعناً) أي قدحاً (في الدّين) بقولهم لو كان نبياً لعلم أنا نسبه، فأطلع الله سبحانه نبيه - صلى الله عليه وسلم - على ذلك (ولو أنهم قالوا سمعنا) قولك (وأطعنا) أمرك (واسمع) ما نقول (وانظرنا) أي أفهمنا لا تعجل علينا أي لو قالوا هذا مكان قولهم سمعنا وعصينا وراعنا بلسان المقال أو الحال (لكان خيراً لهم) مما قالوه (وأقوم) أي أعدل وأولى من قولهم الأول وهو قولهم سمعنا وعصينا واسمع غير مسمع وراعنا لما في هذا من المخالفة وسوء الأدب واحتمال الذم في راعنا. (ولكن) لم يسلكوا ذلك المسلك الحسن، ولم يأتوا بما هو خير لهم وأقوم، بل استمروا على كفرهم ولهذا (لعنهم الله بكفرهم) أي خذلهم وأبعدهم بسبب كفرهم (فلا يؤمنون) بعد ذلك (إلا) إيماناً (قليلاً) وهو الإيمان ببعض الكتب دون بعض، وببعض الرسل دون بعض، وقيل هو اعترافهم بأن الله خلقهم ورزقهم وقيل إلا نفر قليل كعبد الله بن سلام، وعبّر الزمخشري وابن عطية عن هذا القليل بالعدم يعني أنهم لا يؤمنون ألبتة.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب