(قل إنما أعظكم بواحدة) أي أحذركم وأنذركم سوء عاقبة ما أنتم فيه وأوصيكم بخصلة واحدة وهي:
(أن تقوموا لله مثنى وفرادى) فهذا تفسير للخصلة الواحدة أو بدل منها أي هي قيامكم وتشميركم في طلب الحق بالفكرة الصادقة، متفرقين اثنين اثنين، وواحداً واحداً لأن الاجتماع يشوش الفكر ويعمي البصر، ويمنع من الرؤية ويقل الإنصاف فيه، ويكثر الاعتساف، ويثور عجاج التعصب، ولا يسمع إلا نصرة المذهب، وليس المراد القيام على الرجلين والنهوض والانتصاب على القدمين، بل المراد القيام بطلب الحق والاعتناء والاشتغال بالتدبر، وإصداق الفكر فيه كما يقال: قام فلان بأمر كذا، وقيل: المراد بواحدة هي لا إله إلا الله، كذا قال مجاهد، والسدي. وقيل: القرآن لأنه يجمع المواعظ كلها والأولى ما ذكرناه، وقال الزجاج: المعنى لأن تقوموا، وقال السدي. معنى مثنى وفرادى منفرداً برأيه ومشاوراً لغيره.
وقال القتيبي: مناظراً مع عشيرته، ومتفكراً في نفسه، وقيل: المثنى عمل النهار، والفرادى عمل الليل، قاله الماوردي. وما أبرد هذا القول، وأقل جداوه ونصبهما على الحال، وقدم المثنى لأن طلب الحقائق من متعاضدين في النظر أجدى من فكرة واحدة، فإن انقدح الحق بين الاثنين فكر كل واحد منهما بعد ذلك فيزداد بصيرة قال الشاعر:
إذا اجتمعوا جاءوا بكل غريبة ... فيزداد بعض القوم من بعضهم علماً
(ثم تتفكروا) في أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - وما جاء به من الكتاب فإنكم عند ذلك تعلمون أن (ما بصاحبكم من جنة) وذلك لأنهم كانوا يقولون: إن محمداً مجنون فقال الله سبحانه: قل لهم: اعتبروا أمري بواحدة وهي أن تقوموا لله، وفي ذاته مجتمعين، فيقول الرجل لصاحبه: هلم فلنصادق هل رأينا بهذا الرجل من جنة؟ أي جنون وجربنا عليه كذباً، ثم ينفرد كل واحد عن صاحبه فيتفكر، وينظر فإن في ذلك ما يدل على أن محمداً - صلى الله عليه وسلم - صادق وأنه رسول من
عند الله، وأنه ليس بكاذب ولا ساحر ولا مجنون.
قال محمد بن كعب في الآية: يقوم الرجل مع الرجل أو وحده فيفكر ما بصاحبه من جنة، وقال قتادة: يقول: إنه ليس مجنون، وقيل مستأنفة من جهة الله سبحانه مسوقة على طريقة النظر والتأمل بأن هذا الأمر عظيم والدعوى الكبيرة لا يعرض نفسه له إلا مجنون لا يبالي بما يقال فيه وما ينسب إليه من الكذب، وقد علموا أنه أرجح الناس عقلاً، وأوزنهم حلماً وأحدَّهم ذهناً، وأرضاهم رأياً وأصدقهم قولاً، وأزكاهم نفساً، وأجمعهم لما يحمد عليه الرجال، ويمدحون به فوجب أن يصدقوه في دعواه، لا سيما مع انضمام المعجزة الواضحة، وإجماعهم على أنه لم يكن ممن يفتري الكذب، ولا قد جربوا عليه كذباً مدة عمره، وعمرهم. وقيل: ثم تتفكروا أي شيء به من آثار الجنون واختار أبو حاتم وابن الأنباري الوقف على قوله (ثم تتفكروا) وعلى هذا تكون جملة ما بصاحبكم من جنة مستأنفة كما قدمنا. وقيل ليس بوقف لأن المعنى ثم تتفكروا هل جربتم عليه كذباً؟ أو رأيتم منه جنة؟ أو في أحواله من فساد.
(إن هو إلا نذير لكم بين يدي عذاب شديد) أي ما هو إلا نذير لكم بين يدي الساعة أي قدامها وهو عذاب الآخرة وهو كقوله - صلى الله عليه وسلم - بعثت بين يدي الساعة ثم أمره سبحانه أن يخبرهم أنه لم يكن له غرض في الدنيا ولا رغبة فيها، حتى تنقطع عندهم الشكوك ويرتفع الريب فقال:
{"ayah":"۞ قُلۡ إِنَّمَاۤ أَعِظُكُم بِوَ ٰحِدَةٍۖ أَن تَقُومُوا۟ لِلَّهِ مَثۡنَىٰ وَفُرَ ٰدَىٰ ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا۟ۚ مَا بِصَاحِبِكُم مِّن جِنَّةٍۚ إِنۡ هُوَ إِلَّا نَذِیرࣱ لَّكُم بَیۡنَ یَدَیۡ عَذَابࣲ شَدِیدࣲ"}