الباحث القرآني

(والذين يرمون) استعار الرمي للشتم بفاحشة الزنا لكونه جناية بالقول ويسمى هذا الشتم بهذه الفاحشة الخاصة قذفاً، أي يشتمون (المحصنات) أي النساء العفيفات بالزنا، وكذا المحصنين، وإنما خصهن بالذكر لأن قذفهن أشنع، والعار فيهن أعظم، ويلحق الرجال بالنساء في هذا الحكم بلا خلاف بين علماء هذه الأمة، وقد جمع الشوكاني في ذلك رسالة رد بها على بعض المتأخرين من علماء القرن الحادي عشر لما نازع في ذلك. وقيل إن الآية تعم الرجال والنساء، والتقدير الأنفس المحصنات، ويؤيد هذا قوله في آية أخرى: (والمحصنات من النساء)، فإن البيان بكونهن من النساء يشعر بأن لفظ المحصنات يشمل غير النساء وإلا لم يكن للبيان كثير معنى؛ وقيل أراد بالمحصنات الفروج؛ كما قال: (والتي أحصنت فرجها)، فتتناول الآية الرجال والنساء؛ وقيل إن لفظ المحصنات وإن كان للنساء لكنه هاهنا يشمل النساء والرجال تغليباً، وفيه أن تغليب النساء على الرجال غير معروف في لغة العرب، وقد مضى في سورة النساء ذكر الإحصان وما يحتمله من المعاني؛ وللعلماء في الشروط المعتبرة في المقذوف والقاذف أبحاث مطولة مستوفاة في كتب الفقه، منها ما هو مأخوذ من دليل ومنها ما هو مجرد رأي بحت. قرئ المحصنات بفتح الصاد وكسرها، وذهب الجمهور من العلماء أنه لا حد على من قذف كافراً أو كافرة. وقال الزهري وسعيد بن المسيب وابن أبي ليلى: يجب عليه الحد. وذهب الجمهور أيضاً إلى أن العبد يجلد أربعين جلدة. (وقالوا) أي قال المؤمنون عند سماع الإفك (هذا إفك مبين) أي كذب بين ظاهر مكشوف لا حقيقة له، وقوله: (لولا جاءوا عليه) من تمام ما يقوله المؤمنون، أي هلا جاء الخائضون في الإفك (بأربعة شهداء) يشهدون على ما قالوا. (فإذا لم يأتوا بالشهداء فأولئك) أي الخائضون في الإفك (عند الله) أي في حكمه وقضائه الأزلي، أو شرعه المؤسس على الدلائل الظاهرة المتقنة (هم الكاذبون) أي القاذفون الكاملون في الكذب، وهذا من باب الزواجر (ولولا فضل الله عليكم ورحمته في الدنيا والآخرة) هذا خطاب للسامعين، وفيه زجر عظيم (ولولا) هذه لامتناع الشيء لوجود غيره. والمعنى لولا أني قضيت عليك بالفضل في الدنيا بالنعم التي من جملتها الإمهال للتوبة، والرحمة في الآخرة بالعفو. (لمسّكم فيما أفضتم) أي بسبب ما أفضتم (فيه) من حديث الإفك، والإبهام لتهويل أمره، يقال: أفاض في الحديث واندفع، وخاض بمعنى (عذاب عظيم) أي لعاجلتكم بالعقاب على ما خضتم فيه من حديث الإفك: وقيل المعنى لولا فضل الله عليكم لمسكم العذاب في الدنيا والآخرة معاً، ولكن برحمته ستر عليكم في الدنيا ويرحم في الآخرة من أتاه تائباً. (إذ تلقونه بألسنتكم) من التلقي، والأصل تتلقونه. قال مقاتل ومجاهد: المعنى يرويه بعضكم عن بعض. قال الكلبي: وذلك أن الرجل منهم يلقى الرجل فيقول بلغني كذا وكذا ويتلقونه تلقياً. قال الزجاج: معناه يلقيه بعضكم إلى بعض، وقرئ الإلقاء ومعناها واضح، وقرئ بفتح التاء وكسر اللام وضم القاف، وهي مأخودة من قول العرب: ألق [[الصحيح ولق يلق ولقاً وهي في الصحاح في مادة الواو، وفي القاموس في باب القاف فصل الواو ففاؤها واو وليس ألفاً. " المطيعي "]] الرجل يَلَق ولقا إذا كذب، قال ابن سيده: جاءوا بالمتعدي شاهداً على غير المتعدي. قال ابن عطية: وعندي أراد يلقون فيه، فحذف حرف الجر فاتصل الضمير. وقال الخليل وأبو عمر: وأصل الولق الإسراع يقال جاءت الإبل تلق أي تسرع، وعن ابن جرير مثله وزاد الولق هو الإسراع بالشيء بعد الشيء كعدد في إثر عدد وكلام في إثر كلام، وقرئ تألقونه من الألق وهو الكذب؛ وقرئ يلقونه وهو مضارع ولق بكسر اللام والتلقي والتلقف والتلقن معان متقاربة خلا أن في الأول معنى الاستقبال، وفي الثاني معنى الخطف، والأخذ بسرعة، وفي الثالث معنى الحذق والمهارة؛ وقال الراغب: في التلقن الحذق في التناول، وفي التلقف الاحتيال فيه. (وتقولون بأفواهكم ما ليس لكم به علم) معناه أن قولهم هذا مختص بالأفواه من غير أن يكون واقعاً في الخارج معتقداً في القلوب، وقيل إن ذكر الأفواه للتأكيد كما في قوله: يطير بجناحيه ونحوه. (وتحسبونه) أي الحديث الذي وقع الخوض فيه والإذاعة له (هيناً) أي شيئاً يسيراً لا يلحقكم فيه إثم (هو عند الله عظيم) ذنبه وعقابه والجملة في محل الحال؛ قيل جزع بعضهم عند الموت فقيل له في ذلك فقال أخاف ذنباً لم يكن مني على بال وهو عند الله عظيم. (ولولا إذ سمعتموه قلتم ما يكون لنا أن نتكلم بهذا) هذا عتاب لجميع المؤمنين أي هلا إذ سمعتم حديث الإفك قلتم تكذيباً للخائضين فيه المفترين له بمجرد أول السماع: ما ينبغي لنا ولا يمكننا أن نتكلم بهذا الحديث، ولا يصدر ذلك منا بوجه من الوجوه (سبحانك هذا بهتان عظيم) التعجب من أولئك الذين جاؤا بالإفك وأصله التنزيه لله سبحانه ثم كثر حتى استعمل في كل متعجب منه، والبهتان هو أن يقال في الإنسان ما ليس فيه أي هذا كذب عظيم لكونه قيل في أم المؤمنين رضي الله تعالى عنها وصدوره مستحيل شرعاً من مثلها، ثم وعظ سبحانه الذين خاضوا في الإفك فقال: (يعظكم الله أن تعودوا لمثله أبداً) أي ينصحكم أو يحرج الله عليكم، قاله ابن عباس أو يحرم عليكم أو ينهاكم كراهة أن تعودوا أو من أن تعودوا أو في أن تعودوا لمثل هذا القذف؛ أو استماع حديثه مدة حياتكم (إن كنتم مؤمنين) عائد إلى جميع الجمل التي قبله وتارة إلى بعضها لا تقوم به حجة ولا يصلح للاستدلال فإنه قد يكون ذلك لدليل، كما وقع هنا من الإجماع واتفاق الأئمة الأربعة على عدم رجوع هذا الاستثناء إلى جملة الجلد، فالقاذف يجلد عند الجميع سواء تاب أو لم يتب ومما يؤيد ما قررناه ويقويه أن المانع عن قبول الشهادة وهو الفسق المتسبب عن القذف قد زال فلم يبق ما يوجب الرد للشهادة. واختلف العلماء في صورة توبة القاذف، فقال عمر بن الخطاب والشعبي والضحاك وأهل المدينة: إن توبته لا تكون إلا بأن يكذب نفسه في ذلك القذف الذي وقع منه، وأقيم عليه الحد بسببه، وقالت فرقة منهم مالك وغيره: إن توبته تكون بأن يحسن حاله ويصلح عمله ويندم على ما فرط منه ويستغفر الله من ذلك ويعزم على ترك العود إلى مثله وإن لم يكذب نفسه ولا رجع عن قوله، وقد أجمعت الأمة على أن التوبة تمحو الذنب ولو كان كفراً فتمحو ما هو دون الكفر بالأولى وحكى هذا الإجماع القرطبي. قال أبو عبيد: الاستثناء يرجع إلى الجمل السابقة وليس من رمي غيره بالزنا بأعظم جرماً من مرتكب الزنا، والزاني إذا تاب قبلت شهادته لأن التائب من الذنب كمن لا ذنب له، وإذا قبل الله التوبة من العبد كان العباد بالقبول أولى، مع أن مثل هذا الاستثناء موجود في مواضع من القرآن، منها قوله (إنما جزاء الذين يحاربون الله) إلى قوله:
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب