الباحث القرآني

(وإن طلقتموهن من قبل أن تمسوهن وقد فرضتم لهن فريضة). ومطلقة مدخول بها غير مفروض لها وهي المذكورة في قوله تعالى (فما استمتعتم به منهن فآتوهن أجورهن) والمراد بالفريضة هنا تسمية المهر، وفيها وجهان أظهرهما أنها مفعول به والتقدير شيئاً مفروضاً، والثاني أن تكون منصوبة على المصدر بمعنى فرضاً، واستجود أبو البقاء الوجه الأول. (ومتعوهن) أي أعطوهن شيئاً يكون متاعاً لهن، وظاهر الأمر الوجوب، وبه قال علي وابن عمر والحسن البصري وسعيد بن جبير وأبو قلابة والزهري وقتادة والضحاك. ومن أدلة الوجوب قوله تعالى (يا أيها الذين آمنوا إذا نكحتم المؤمنات ثم طلقتموهن من قبل أن تمسوهن فما لكم عليهم من عدة تعتدونها فمتعوهن وسرحوهن سراحاً جميلاً). وقال مالك وأبو عبيد والقاضي شريح وغيرهم: إن المتعة للمطلقة المذكورة مندوبة لا واجبة لقوله تعالى (حقاً على المحسنين) ولو كانت واجبة لأطلقها على الخلق أجمعين، ويجاب عنه بأن ذلك لا ينافي الوجوب بل هو تأكيد له كما في قوله في الآية الأخرى (حقاً على المتقين) أي أن الوفاء بذلك والقيام به شأن أهل التقوى، وكل مسلم يجب عليه أن يتقي الله سبحانه. وقد وقع الخلاف أيضاً هل المتعة مشروعة لغير هذه المطلقة قبل المسيس والفرض أم ليست بمشروعة إلا لها فقط، فقيل: إنها مشروعة لكل مطلقة، وإليه ذهب ابن عباس وابن عمر وعطاء وجابر بن زيد وسعيد بن جبير وأبو العالية والحسن البصري والشافعي في أحد قوليه وأحمد وإسحق، ولكنهم اختلفوا هل هي واجبة في غير المطلقة قبل البناء والفرض أم مندوبة فقط. واستدلّوا بقوله تعالى (وللمطلقات متاع بالمعروف حقاً على المتقين) وبقوله تعالى (يا أيها النبي قل لأزواجك إن كنتن تردن الحياة الدنيا وزينتها فتعالين أمتعكن وأسرحكن سراحاً جميلاً) والآية الأولى عامة لكل مطلقة والثانية في أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - وقد كنّ مفروضاً لهن مدخولاً بهن. وقال سعيد بن المسيب: إنها تجب للمطلقة إذا طلقت قبل المسيس وإن كانت مفروضاً لها لقوله تعالى (يا أيها الذين آمنوا إذا نكحتم المؤمنأت ثم طلقتموهن من قبل أن تمسوهن فما لكم عليهن من عدة تعتدونها فمتعوهن) قال هذه الآية التي في الأحزاب نسخت التي في البقرة. وذهب جماعة من أهل العلم إلى أن المتعة مختصة بالمطلقة قبل البناء والتسمية لأن المدخول بها تستحق جميع المسمى أو مهر المثل، وغير المدخولة التي قد فرض لها زوجها فريضة أي سمى لها مهراً وطلقها قبل الدخول تستحق نصف المسمى، ومن القائلين بهذا ابن عمر ومجاهد. وقد وقع الإجماع على أن المطلقة قبل الدخول أو الفرض لا تستحق إلا المتعة إذا كانت حرة، وأما إذا كانت أمة فذهب الجمهور إلى أنها لها المتعة، وقال الأوزاعي والثوري: لا متعة لها لأنها تكون لسيدها ولا تستحق مالاً في مقابل تأذي مملوكته لأن الله سبحانه إنما شرع المتعة للمطلقة قبل الدخول والفرض لكونها تتأذى بالطلاق قبل ذلك. وقد اختلفوا في المتعة المشروعة هل هي مقدرة بقدر أم لا، فقال مالك والشافعي في الجديد: لا حد لها معروف بل ما يقع عليه اسم المتعة، وقال أبو حنيفة: أنه إذا تنازع الزوجان في قدر المتعة وجب لها نصف مهر مثلها ولا ينقص من خمسة دراهم، لأن أقل المهر عشرة دراهم، وللسلف فيها أقوال سيأتي ذكرها إن شاء الله تعالى. وقوله (على الموسع قدره وعلى المقتر قدره) يدل على أن الاعتبار في ذلك بحال الزوج، فالمتعة من الغني فوق المتعة من الفقير، والموسع هو الذي اتسعت حاله، وقرىء الموسّع بالتشديد، وقرىء قدره بسكون الدال فيهما، وبفتح الدال فيهما، قال الأخفش وغيره: هما لغتان فصيحتان، وهكذا في قوله تعالى (فسالت أودية بقدرها) وقوله (وما قدروا الله حق قدره). والمقتر المقل، والتقدير على الموسع منكم أو على موسعكم قدره أي قدر إمكانه وطاقته، وكذا يقال في الثاني، والآية تفيد أنه لا نظر إلى قدر الزوجة، وقيل هذا ضعيف في مذهب الشافعي، بل ينظر الحاكم باجتهاد إلى حالهما جميعاً على أظهر الوجوه. (متاعاً) مصدر مؤكد أي متعوهن متاعاً (بالمعروف) ما عرف في الشرع والعادة الموافقة له. وقوله (حقاً على المحسنين) وصف لقوله متاعاً أو مصدر لفعل محذوف أي حق ذلك حقاً، يقال حققت عليه القضاء وأحققت أي أوجبت، قال ابن عباس: المس النكاح والفريضة الصداق، وأمر الله أن يمتعها على قدر عسره وشره، فإن كان موسراً متعها بخادم وإن كان معسراً متعها بثلاثة أثواب ونحو ذلك، وعنه قال متعة الطلاق أعلاها الخادم ودون ذلك الورق ودون ذلك الكسوة، وعن ابن عمر: أدق ما يكون من المتعة ثلاثون درهماً، وعن الحسن بن علي أنه متع بعشرين ألفاً وزقاق من عسل، وعن شريح أنه متع بخمسمائة درهم، وعن الحسن بن علي أيضاً أنه متع بعشرة آلاف وعن ابن سيرين أنه كان يمتع بالخادم والنفقة والكسوة. وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَلَا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (237) (وإن طلقتموهن من قبل أن تمسوهن وقد فرضتم لهن فريضة فنصف ما فرضتم) فيه دليل على أن المتعة لا تجب لهذه المطلقة لوقوعها في مقابلة المطلقة قبل البناء والفرض التي تستحق المتعة، أي فالواجب عليكم نصف ما سميتم لهنّ من المهر، وهذا مجمع عليه. وقد وقع الاتفاق أيضاً على أن المرأة التي لم يدخل بها زوجها ومات وقد فرض لها مهراً تستحقه كاملاً بالموت ولها الميراث وعليها العدة. واختلفوا في الخلوة هل تقوم مقام الدخول وتستحق المرأة بها كمال المهر كما تستحقه بالدخول أم لا؟ فذهب إلى الأول مالك والشافعي في القديم والكوفيون والخلفاء الراشدون وجمهور أهل العلم وتجب أيضاً عندهم العدة، وقال الشافعي في الجديد: لا يجب إلا نصف المهر، وهو ظاهر الآية لما تقدم من أن المسيس هو الجماع، ولا يجب عنده العدة وإليه ذهب جماعة من السلف. (إلا أن يعفون) أي المطلقات ومعناه يتركن ويصفحن وهو استثناء مفرغ من أعم العام، وقيل منقطع ومعناه يتركن النصف الذي يجب لهنّ على الأزواج، وروى عن محمد بن كعب القرظي أنه قال: (إلا أن يعفون) يعني الرجال وهو ضعيف لفظاً ومعنى. (أو يعفو الذي بيده عقدة النكاح) معطوف على محل قوله (إلا أن يعفون) لأن الأول مبني وهذا معرب قيل هو الزوج، وبه قال جبير بن مطعم وسعيد بن المسيب وشريح وسعيد بن جبير ومجاهد والشعبي وعكرمة ونافع وابن سيرين والضحاك ومحمد بن كعب القرظي وجابر بن زيد وأبو مجلز والربيع بن أنس وإياس بن معاوية ومكحول ومقاتل بن حيان، وهو الجديد من قولي الشافعي، وبه قال أبو حنيفة وأصحابه والثوري وابن شبرمة والأوزاعي، ورجحه ابن جرير. وفي هذا القول قوة وضعف. أما قوته فلكون الذي بيده عقدة النكاح حقيقة هو الزوج لأنه الذي إليه رفعه بالطلاق، وأما ضعفه فلكون العفو منه غير معقول، وما قالوا به من أن المراد بعفوه أن يعطيها المهر كاملاً غير ظاهر، لأن العفو لا يطلق على الزيادة، وقيل المراد بقوله (أو يعفو الذي بيده عقدة النكاح) هو الولي، وبه قال النخعي وعلقمة والحسن وطاوس وعطاء وأبو الزناد وزيد بن أسلم وربيعة والزهري والأسود بن يزيد والشعبي وقتادة ومالك والشافعي في قوله القديم. وفيه قوة وضعف. أما قوته فلكون معنى العفو فيه معقولاً، وأما ضعفه فلكون عقدة النكاح بيد الزوج لا بيده. ومما يزيد هذا القول ضعفاً أنه ليس للولي أن يعفو عن الزوج مما لا يملكه. وقد حكى القرطبي الإجماع على أن الولي لا يملك شيئاً من مالها، والمهر مالها، فالراجح ما قاله الأولون لوجهين: الأول أن الزوج هو الذي بيده عقدة النكاح حقيقة. الثاني: أن عفوه بإكمال المهر هو صادر عن المالك المطلق التصرف بخلاف الولي، وتسمية الزيادة عفواً وإن كان خلاف الظاهر لكن لما كان الغالب أنهم يسوقون المهر كاملاً عند العقد كان العفو معقولاً، لأنه تركه لها ولم يسترجع النصف منه. ولا يحتاج في هذا إلى أن يقال: إنه من باب المشاكلة كما في الكشاف لأنه عفو حقيقي أي ترك لما يستحق المطالبة به إلا أن يقال إنه مشاكلة أو تغليب في توفية المهر قبل أن يسوقه الزوج. (وأن تَعْفُوَآ أقرب للتقوى) قيل هو خطاب للرجال والنساء تغليباً أي وعفو بعضكم أيها الرجال والنساء أقرب للتقوى أي من عدم العفو الذي فيه التنصيف، والمراد بالتقوى الألفة وطيب النفس من الجانبين، وعليه قراءة الجمهور بالتاء الفوقية، وقرأ الشعبي وأبو نهيك بالياء التحتية فيكون الخطاب مع الرجال فقط، وفي هذا دليل على ما رجحناه من أن الذي بيده عقدة النكاح هو الزوج، لأن عفو الولي عن شيء لا يملكه ليس هو أقرب للتقوى، بل أقرب إلى الظلم والجور، والمعنى وليعف الزوج فيترك حقه الذي ساق من المهر إليها قبل الطلاق فهو أقرب للتقوى. (ولا تنسوا الفضل بينكم) المعنى أن الزوجين لا ينسيان التفضل من كل واحد منهما على الآخر، ومن جملة ذلك أن تتفضل المرأة بالعفو عن النصف ويتفضل الرجل عليها بإكمال المهر، وهو إرشاد للرجال والنساء من الأزواج إلى ترك التقصي على بعضهم بعضاً والمسامحة فيما يستغرقه أحدهما على الآخر للوصلة التي قد وقعت بينهما من إفضاء البعض إلى البعض، وهي صلة لا تشبهها وصلة، فمن رعاية حقها ومعرفتها حق معرفتها الحرص منهما على التسامح. (إن الله بما تعملون بصير) فيه من ترغيب المحسن وترهيب غيره ما لا يخفى.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب