الباحث القرآني

﴿ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ﴾ خَالَفُوا اللَّهَ، ﴿وَرَسُولَهُ وَمَنْ يُشَاقِقِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ﴾ ﴿ذَلِكُمْ﴾ أَيْ: هَذَا الْعَذَابُ وَالضَّرْبُ الَّذِي عَجَّلْتُهُ لَكُمْ أَيُّهَا الْكَفَّارُ بِبَدْرٍ، ﴿فَذُوقُوهُ﴾ عَاجِلًا ﴿وَأَنَّ لِلْكَافِرِينَ﴾ أَيْ: وَاعْلَمُوا وَأَيْقِنُوا أَنَّ لِلْكَافِرِينَ أَجَلًا فِي الْمَعَادِ، ﴿عَذَابَ النَّارِ﴾ رَوَى عِكْرِمَةُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قِيلَ لِرَسُولِ اللَّهِ ﷺ حِينَ فَرَغَ مِنْ بَدْرٍ: عَلَيْكَ بِالْعِيرِ لَيْسَ دُونَهَا شَيْءٌ، فَنَادَاهُ الْعَبَّاسُ وَهُوَ أَسِيرٌ فِي وَثَاقِهِ: لَا يَصْلُحُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: لِمَهْ؟ قَالَ: لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى وَعَدَكَ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ وَقَدْ أَعْطَاكَ مَا وَعَدَكَ [[أخرجه الترمذي في تفسير سورة الأنفال: ٨ / ٤٧١ - ٤٧٢ وقال: هذا حديث حسن، والإمام أحمد في المسند: ١ / ٣١٤. وعزاه السيوطي: للفريابي، وابن أبي شيبة، وعبد بن حميد، وأبي يعلى، وابن جرير وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والطبراني، وأبي الشيخ وابن مردويه. (الدر المنثور: ٤ / ٢٨) .]] . قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفًا﴾ أَيْ مُجْتَمِعِينَ مُتَزَاحِمِينِ بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ، وَالتَّزَاحُفُ: التَّدَانِي فِي الْقِتَالِ: وَالزَّحْفُ مُصْدَرٌ؛ لِذَلِكَ لَمْ يُجْمَعْ، كَقَوْلِهِمْ: قَوْمٌ عَدْلٌ وَرِضَا. قَالَ: اللَّيْثُ: الزَّحْفُ جَمَاعَةٌ يزحفون إلى عدولهم بِمَرَّةٍ، فَهُمُ الزَّحْفُ وَالْجَمْعُ: الزُّحُوفُ. ﴿فَلَا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبَارَ﴾ يَقُولُ: فَلَا تُوَلُّوهُمْ ظُهُورَكُمْ، أَيْ تَنْهَزِمُوا فَإِنَّ الْمُنْهَزِمَ يُوَلِّي دُبُرَهُ. ﴿وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ﴾ ظَهْرَهُ، ﴿إِلَّا مُتَحَرِّفًا لِقِتَالٍ﴾ أَيْ مُنْعَطِفًا يَرَى مِنْ نَفْسِهِ الِانْهِزَامَ، وَقَصْدُهُ طَلَبُ الْغِرَّةِ وَهُوَ يُرِيدُ الْكَرَّةَ، ﴿أَوْ مُتَحَيِّزًا إِلَى فِئَةٍ﴾ أَيْ: مُنْضَمًّا صَائِرًا إِلَى جَمَاعَةٍ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ [يُرِيدُ] [[في "أ": (يريدون) .]] الْعَوْدَ إِلَى الْقِتَالِ. وَمَعْنَى الْآيَةِ النَّهْيُ عَنِ الِانْهِزَامِ مِنَ الْكُفَّارِ وَالتَّوَلِّي عَنْهُمْ، إِلَّا عَلَى نِيَّةِ التَّحَرُّفِ لِلْقِتَالِ وَالِانْضِمَامِ إِلَى جَمَاعَةٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ لِيَسْتَعِينَ بِهِمْ وَيَعُودُونَ إِلَى الْقِتَالِ، فَمَنْ وَلَّى ظَهْرَهُ لَا عَلَى هَذِهِ النِّيَّةِ لَحِقَهُ الْوَعِيدُ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: ﴿فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ﴾ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ فَقَالَ أَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيُّ: هَذَا فِي أَهْلِ بَدْرٍ خَاصَّةً، مَا كَانَ يَجُوزُ لَهُمُ الِانْهِزَامُ لِأَنَّ النَّبِيَّ ﷺ كَانَ مَعَهُمْ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ فِئَةٌ يَتَحَيَّزُونَ إِلَيْهَا دُونَ النَّبِيِّ ﷺ، وَلَوِ انْحَازُوا لَانْحَازُوا إِلَى الْمُشْرِكِينَ، فَأَمَّا بَعْدَ ذَلِكَ فَإِنَّ الْمُسْلِمِينَ بَعْضُهُمْ فِئَةٌ لِبَعْضٍ [[أخرجه الطبري في التفسير: ١٣ / ٤٣٧، ورواه مختصرا أبو داود في الجهاد، باب التولي يوم الزحف: ٣ / ٤٣٩، والحاكم: ٢ / ٣٢٧، وقال: هذا حديث صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه. وعزاه السيوطي: لعبد بن حميد، والنسائي، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والنحاس في الناسخ والمنسوخ، وأبي الشيخ وابن مردويه، (الدر المنثور: ٤ / ٣٦) .]] فَيَكُونُ الْفَارُّ مُتَحَيِّزًا إِلَى فِئَةٍ فَلَا يَكُونُ فِرَارُهُ كَبِيرَةً، وَهُوَ قَوْلُ الْحَسَنِ وَقَتَادَةَ وَالضَّحَّاكِ. قَالَ يَزِيدُ بْنُ أَبِي حَبِيبٍ [[أخرجه الطبري: ١٣ / ٤٣٨.]] أَوْجَبَ اللَّهُ النَّارَ لِمَنْ فَرَّ يَوْمَ بَدْرٍ، فَلَمَّا كَانَ يَوْمُ أُحُدٍ بَعْدَ ذَلِكَ قَالَ: "إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ" [آل عمران: ١٥٥] ، ثُمَّ كَانَ يَوْمُ حُنَيْنٍ بَعْدَهُ فَقَالَ: "ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ" (التَّوْبَةِ ٠ ٢٥) "ثُمَّ يَتُوبُ اللَّهُ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ عَلَى مَنْ يَشَاءُ" [التوبة: ٢٧] . وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ: كُنَّا فِي جَيْشٍ بَعَثَنَا رَسُولُ اللَّهِ ﷺ فَحَاصَ النَّاسُ حَيْصَةً فَانْهَزَمْنَا، فَقُلْنَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ نَحْنُ [الْفَرَّارُونَ] [[في "أ" (الفارُّون) .]] قَالَ: "بَلْ أَنْتُمُ الْكَرَّارُونَ، أَنَا فِئَةُ الْمُسْلِمِينَ" [[أخرجه الترمذي في الجهاد، باب ما جاء في الفرار من الزحف: ٥ / ٣٧٨ وقال: هذا حديث حسن غريب لا نعرفه إلا من حديث يزيد بن أبي زياد، وأبو داود في الجهاد، باب التولي يوم الزحف: ٣ / ٤٣٨، وسعيد بن منصور في السنن: ٢ / ٢٠٩ - ٢١٠، والشافعي في المسند: ٢ / ١١٦، والحميدي في المسند: ٢ / ٣٠٢، ومعنى حاصوا حيصة أي: جالوا جولة يغلبون الفرار.]] . وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ سِيرِينَ: لَمَّا قُتِلَ أَبُو عُبَيْدَةَ جَاءَ الْخَبَرُ إِلَى عُمَرَ فَقَالَ: لَوِ انْحَازَ إِلَيَّ كُنْتُ لَهُ فِئَةً فَأَنَا فِئَةُ كُلِّ مُسْلِمٍ [[أخرجه الطبري في التفسير: ١٣ / ٤٣٩، ٤٤٠، وفيه: أن عمر لما بلغه قتل أبي عبيد قال:. . .]] . وَقَالَ بَعْضُهُمْ: حُكْمُ الْآيَةِ عَامٌّ فِي حَقِّ كُلِّ مَنْ وَلَّى مُنْهَزِمًا. جَاءَ فِي الْحَدِيثِ: "مِنَ الْكَبَائِرِ الْفِرَارُ مِنَ الزَّحْفِ" [[عزاه السيوطي لابن أبي شيبة (الدر المنثور: ٤ / ٣٨) ، وقد ورد في أحاديث كثيرة عدّ الفرار من الزحف كبيرة من الكبائر.]] . وَقَالَ عَطَاءُ بْنُ أَبِي رَبَاحٍ: هَذِهِ الْآيَةُ مَنْسُوخَةٌ بِقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ: "الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ" [الأنفال: ٦٦] فَلَيْسَ لِقَوْمٍ أَنْ يَفِرُّوا مِنْ [مِثْلِهِمْ] [[في "ب": مثليهم.]] فَنُسِخَتْ تِلْكَ إِلَّا فِي هَذِهِ الْعِدَّةِ [[أخرجه الطبري: ١٣ / ٤٣٩.]] وَعَلَى هَذَا أَكْثَرُ أَهْلِ الْعِلْمِ أَنَّ الْمُسْلِمِينَ إِذَا كَانُوا عَلَى الشَّطْرِ مِنْ عَدُوِّهِمْ لَا يَجُوزُ لَهُمْ أَنْ يَفِرُّوا أَوْ يُوَلُّوا ظُهُورَهُمْ إِلَّا مُتَحَرِّفًا لِقَتَّالٍ أَوْ مُتَحَيِّزًا إِلَى فِئَةٍ، وَإِنْ كَانُوا أَقَلَّ مِنْ ذَلِكَ جَازَ لَهُمْ أَنْ يُوَلُّوا ظُهُورَهُمْ وَيَنْحَازُوا عَنْهُمْ [[انظر: أحكام القرآن لابن العربي: ٢ / ٨٤٣ - ٨٤٤، أحكام القرآن للجصاص: ٤ / ٢٢٦ - ٢٢٨، شرح السير الكبير للسرخسي: ١ / ١٢٣ - ١٢٥، وراجع: منهج الإسلام في الحرب والسلام، تأليف عثمان جمعة ص (١٥٠ - ١٥٤) .]] قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ:"مَنْ فَرَّ مِنْ ثَلَاثَةٍ فَلَمْ يَفِرَ، وَمِنِ اثْنَيْنِ فَقَدْ فَرَّ" [[أخرجه الطبري: ١٣ / ٤٤٠، والشافعي: ٢ / ١١٦، وسعيد بن منصور في السنن: ٢ / ٢٠٩، وقال الهيثمي: رواه الطبراني مرفوعا ورجاله ثقات. (مجمع الزوائد: ٥ / ٣٢٨) . وننقل هنا ترجيح الطبري رحمه الله في أن الآية محكمة غير منسوخة حيث قال في التفسير: ١٣ / ٤٤٠ - ٤٤١: "وأولى التأولين في هذه الآية بالصواب عندي، قول من قال: حكمها محكم، وأنها نزلت في أهل بدر، وحكمها ثابت في جميع المؤمنين، وأن الله حرم على المؤمنين إذا لقوا العدو، أن يولوهم الدبر منهزمين إلا لتحرف لقتال، أو لتحيز إلى فئة من المؤمنين حيث كانت من أرض الإسلام، وأن من ولاهم الدبر بعد الزحف لقتال منهزما بغير نية إحدى الخلتين اللتين أباح الله التولية بهما، فقد استوجب من الله وعيده، إلا أن يتفضل عليه بعفوه. وإنما قلنا: هي محكمة غير منسوخة، لما قد بينا في غير موضع من كتابنا هذا وغيره-: أنه لا يجوز أن يحكم لحكم آية بنسخ، وله في غير النسخ وجه، إلا بحجة يجب التسليم لها، من خبر يقطع العذر، أو حجة عقل. ولا حجة من هذين المعنيين تدل على نسخ حكم قول الله عز وجل: (ومن يولهم يومئذ دبره إلا متحرفا لقتال أو متحيزا إلى فئة) .]] .
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب