الباحث القرآني

سُورَةُ الْأَنْفَالِ مَدَنِيَّةٌ وَهِيَ خَمْسٌ وَسَبْعُونَ آيَةً قِيلَ: إِلَّا سَبْعَ آيَاتٍ مِنْ قَوْلِهِ: «وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا» إِلَى آخِرِ سَبْعِ آيَاتٍ فَإِنَّهَا نَزَلَتْ بِمَكَّةَ وَالْأَصَحُّ أَنَّهَا نَزَلَتْ بِالْمَدِينَةِ، وَإِنْ كَانَتِ الْوَاقِعَةُ بِمَكَّةَ. * * * ﴿يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفَالِ﴾ الْآيَةَ، قَالَ أَهْلُ التَّفْسِيرِ: سَبَبُ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ هُوَ أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ قَالَ يَوْمَ بَدْرٍ: "مَنْ أَتَى مَكَانَ كَذَا فَلَهُ مِنَ النَّفْلِ كَذَا وَمَنْ قَتَلَ قَتِيلًا فَلَهُ كَذَا وَمَنْ أَسَرَ أَسِيرًا فَلَهُ كَذَا"، فَلَمَّا الْتَقَوْا تَسَارَعَ إِلَيْهِ الشُّبَّانُ وَأَقَامَ الشُّيُوخُ وَوُجُوهُ النَّاسِ عِنْدَ الرَّايَاتِ، فَلَمَّا فَتَحَ اللَّهُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ جَاءُوا يَطْلُبُونَ مَا جَعَلَ لَهُمُ النَّبِيُّ ﷺ، فَقَالَ الْأَشْيَاخُ: كُنَّا رِدْءًا لَكُمْ وَلَوِ انْهَزَمْتُمْ لَانْحَزْتُمْ إِلَيْنَا، فَلَا تَذْهَبُوا بِالْغَنَائِمِ دُونَنَا، وَقَامَ أَبُو الْيَسَرِ بْنُ عَمْرٍو الْأَنْصَارِيُّ أَخُو بَنِي سَلَمَةَ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّكَ وَعَدْتَ أَنَّ مَنْ قَتَلَ قَتِيلًا فَلَهُ كَذَا وَمَنْ أَسَرَ أَسِيرًا فَلَهُ كَذَا وَإِنَّا قَدْ قَتَلْنَا مِنْهُمْ سَبْعِينَ وَأَسَرْنَا مِنْهُمْ سَبْعِينَ، فَقَامَ سَعْدُ بْنُ مُعَاذٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَقَالَ: وَاللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا مَنَعَنَا أَنْ نَطْلُبَ مَا طَلَبَ هَؤُلَاءِ زَهَادَةً فِي الأجر ولا جبن عَنِ الْعَدُوِّ، وَلَكِنْ كَرِهْنَا أَنْ نُعَرِّيَ مَصَافَّكَ [فَيَعْطِفُ عَلَيْهِ] [[في "ب": (فتعطف علينا) .]] خَيْلٌ من المشركين ١٤٣/ب فَيُصِيبُوكَ، فَأَعْرَضَ عَنْهُمَا رَسُولُ اللَّهِ ﷺ. وَقَالَ سَعِيدٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ النَّاسَ كَثِيرٌ وَالْغَنِيمَةَ دُونَ ذَلِكَ، فَإِنْ تُعْطَ هَؤُلَاءِ [الَّذِينَ] [[في "ب": (الذي) .]] ذَكَرْتَ لَا يَبْقَى لِأَصْحَابِكَ كَبِيرُ شَيْءٍ، فَنَزَلَتْ: "يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفَالِ" [[جاء هذا السبب في نزول الآية، في جملة أحاديث جمع بينها المصنف، رحمه الله، وهي عند الطبري من طرق، بسند صحيح إلى ابن عباس رضي الله عنهما. انظر: تفسير الطبري: ١٣ / ٣٦٧-٣٦٩، المستدرك: ٢ / ٣٢٦-٣٢٧، السنن الكبرى للبيهقي: ٦ / ٣١٥. وانظر: الدر المنثور: ٤ / ٦، تفسير ابن كثير: ٢ / ٢٨٣-٢٨٤.]] . وَقَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: أَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ بِمَا فِي الْعَسْكَرِ فَجُمِعَ فَاخْتَلَفَ الْمُسْلِمُونَ فِيهِ، فَقَالَ مَنْ جَمَعَهُ: هُوَ لَنَا، قَدْ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ نَفَّلَ كُلَّ امْرِئٍ مَا أَصَابَ، وَقَالَ الَّذِينَ كَانُوا يُقَاتِلُونَ الْعَدُوَّ: لَوْلَا نَحْنُ مَا أَصَبْتُمُوهُ، وَقَالَ الَّذِينَ كَانُوا يَحْرُسُونَ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ: لَقَدْ رَأَيْنَا أَنْ نَقْتُلَ الْعَدُوَّ وَأَنْ نَأْخُذَ الْمَتَاعَ وَلَكِنَّا خِفْنَا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ كَرَّةَ الْعَدُوِّ، وَقُمْنَا دُونَهُ فَمَا أَنْتُمْ بِأَحَقَّ بِهِ مِنَّا [[سيرة ابن هشام: ١ / ٦٤١-٦٤٢ (طبع الحلبي) .]] . وَرَوَى مَكْحُولٌ عَنْ أَبِي أُمَامَةَ الْبَاهِلِيِّ قَالَ: سَأَلْتُ عُبَادَةَ بْنَ الصَّامِتِ عَنِ الْأَنْفَالِ، قَالَ: فِينَا مَعْشَرَ أَصْحَابِ بَدْرٍ نَزَلَتْ، حِينَ اخْتَلَفْنَا فِي النَّفْلِ وَسَاءَتْ فِيهِ أَخْلَاقُنَا، فَنَزَعَهُ اللَّهُ مِنْ أَيْدِينَا، فَجَعَلَهُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ، فَقَسَمَهُ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ بَيْنَنَا عَنْ بَوَاءٍ -يَقُولُ عَلَى السَّوَاءِ -وَكَانَ فِي ذَلِكَ تَقْوَى اللَّهِ وَطَاعَةُ رَسُولِهِ وَصَلَاحُ ذَاتِ الْبَيْنِ [[انظر: تفسير الطبري: ١٣ / ٣٧٠-٣٧١، والمستدرك: ٢ / ٣٢٦، والبيهقي: ٦ / ٢٩٢، المسند للإمام أحمد: ٥ / ٣٢٢، سيرة ابن هشام: ١ / ٦٤٢. وقال الهيثمي بعدما عزاه للإمام أحمد: "ورجال الطريقين ثقات". وانظر تعليق الشيخ محمود شاكر على تفسير الطبري في الموضع السابق، وابن كثير: ٢ / ٢٨٤.]] . وَقَالَ سَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: لَمَّا كَانَ يَوْمُ بَدْرٍ قُتِلَ أَخِي عُمَيْرٌ، وَقَتَلْتُ سَعِيدَ بْنَ الْعَاصِ بْنِ أُمَيَّةَ، وَأَخَذْتُ سَيْفَهُ، وَكَانَ يُسَمَّى ذَا الْكَثِيفَةِ، فَأَعْجَبَنِي فَجِئْتُ بِهِ إِلَى النَّبِيِّ ﷺ، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ قَدْ شَفَى صَدْرِي مِنَ الْمُشْرِكِينَ فَهَبْ لِي هَذَا السَّيْفِ. فَقَالَ: لَيْسَ هَذَا لِي وَلَا لَكَ، اذْهَبْ فَاطْرَحْهُ فِي الْقَبَضِ، فَطَرَحْتُهُ وَرَجَعْتُ، وَبِي مَا لَا يَعْلَمُهُ إِلَّا اللَّهُ مِنْ قَتْلِ أَخِي وَأَخْذِ سِلَاحِي، وَقُلْتُ: عَسَى أَنْ يُعْطَى هَذَا السَّيْفَ مَنْ لَمْ يُبْلِ بَلَائِي فَمَا جَاوَزْتُ إِلَّا قَلِيلًا حَتَّى جَاءَنِي الرَّسُولُ، وَقَدْ أَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: "يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفَالِ"، الْآيَةَ. فَخِفْتُ أَنْ يَكُونَ قَدْ نَزَلَ فِيَّ شَيْءٌ، فَلَمَّا انْتَهَيْتُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ قَالَ: "يَا سَعْدُ إِنَّكَ سَأَلْتَنِي السَّيْفَ وَلَيْسَ لِي، وَإِنَّهُ قَدْ صَارَ لِي الْآنَ فَاذْهَبْ فَخُذْهُ فَهُوَ لَكَ" [[الطبري: ١٣ / ٣٧٣ من طرق عدة، وأخرجه الإمام أحمد، وأبو داود، وأبو عبيد في الأموال، وصححه الحاكم: ٢ / ١٣٢ ووافقه الذهبي. انظر: تعليق محمود شاكر على الطبري. والقَبَضُ،: - بالتحريك - بمعنى المقبوض، وهو ما جمع من الغنيمة قبل أن تُقْسم.]] . وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَلْحَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: كَانَتِ الْمَغَانِمُ لِرَسُولِ اللَّهِ ﷺ خَاصَّةً لَيْسَ لِأَحَدٍ فِيهَا شَيْءٌ، وَمَا أَصَابَ سَرَايَا الْمُسْلِمِينَ مِنْ شَيْءٍ أَتَوْهُ بِهِ فَمَنْ حَبَسَ مِنْهُ إِبْرَةً أَوْ سِلْكًا فَهُوَ غُلُولٌ [[الطبري: ١٣ / ٣٧٨، والبيهقي: ٦ / ٢٩٣ مطولا، وعزاه السيوطي أيضا لابن المنذر، وابن أبي حاتم، وابن مردويه: الدر المنثور: ٤ / ٨. وإسناده منقطع لأن علي بن أبي طلحة لم يسمع تفسير من ابن عباس.]] . قَوْلُهُ: ﴿يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفَالِ﴾ أَيْ: عَنْ حُكْمِ الْأَنْفَالِ وَعِلْمِهَا، وَهُوَ سُؤَالُ اسْتِخْبَارٍ لَا سُؤَالُ طَلَبٍ، وَقِيلَ: هُوَ سُؤَالُ طَلَبٍ. قَالَهُ الضَّحَّاكُ وَعِكْرِمَةُ. وَقَوْلُهُ: ﴿عَنِ الْأَنْفَالِ﴾ أَيْ: مِنَ الْأَنْفَالِ، عَنْ بِمَعْنَى مِنْ. وَقِيلَ: عَنْ صِلَةٌ أَيْ: يَسْأَلُونَكَ الْأَنْفَالَ، وَهَكَذَا قِرَاءَةُ ابْنِ مَسْعُودٍ بِحَذْفِ عَنْ. وَالْأَنْفَالُ: الْغَنَائِمُ، وَاحِدُهَا: نَفَلٌ، وَأَصْلُهُ الزِّيَادَةُ، يُقَالُ: نَفَلْتُكَ وَأَنْفَلْتُكَ، أَيْ: زِدْتُكَ، سُمِّيَتِ الْغَنَائِمُ أَنْفَالًا لِأَنَّهَا زِيَادَةٌ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى لِهَذِهِ الْأُمَّةِ عَلَى الْخُصُوصِ. وَأَكْثَرُ الْمُفَسِّرِينَ عَلَى أَنَّ الْآيَةَ فِي غَنَائِمَ بَدْرٍ. وَقَالَ عَطَاءٌ: هِيَ مَا شَذَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ إِلَى الْمُسْلِمِينَ بِغَيْرِ قِتَالٍ، مِنْ عَبْدٍ أَوْ أَمَةٍ وَمَتَاعٍ فَهُوَ لِلنَّبِيِّ ﷺ يَصْنَعُ بِهِ مَا شَاءَ. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿قُلِ الْأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ﴾ [يَقْسِمُهَا كَمَا شَاءَ] [[في "ب": (يقسمانها كما شاءا) .]] وَاخْتَلَفُوا فِيهِ، فَقَالَ مُجَاهِدٌ وَعِكْرِمَةُ وَالسُّدِّيُّ: هَذِهِ الْآيَةُ مَنْسُوخَةٌ بِقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ: "وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ" الْآيَةَ. كَانَتِ الْغَنَائِمُ يَوْمَئِذٍ لِلنَّبِيِّ ﷺ فَنَسَخَهَا اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ بِالْخُمُسِ [[انظر: الناسخ والمنسوخ، لأبي القاسم هبة بن سلامة، ص (٤٨-٤٩) ، وهو مروي عن مجاهد وعكرمة. انظر: الطبري: ١٣ / ٣٨٠-٣٨١.]] . وَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ: هِيَ ثَابِتَةٌ غَيْرُ مَنْسُوخَةٍ، وَمَعْنَى الْآيَةِ: قُلِ الْأَنْفَالُ لِلَّهِ مَعَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَلِلرَّسُولِ يَضَعُهَا حَيْثُ أَمَرَهُ اللَّهُ تَعَالَى، أَيْ: الْحُكْمُ فِيهَا لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ، وَقَدْ بَيَّنَ اللَّهُ مَصَارِفَهَا فِي قَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ: "وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ" الْآيَةَ [[أخرجه الطبري: ١٣ / ٣٨١، ورجح أنها محكمة غير منسوخة فقال: "والصواب من القول في ذلك أن يقال: إن الله جل ثناؤه أخبر أنه جعل الأنفال لنبيه ﷺ، ينفّل من شاء، فنفّل القاتل السَّلَبَ وجعل للجيش في البدأة (ابتداء سفر الغزو) الربع، وفي الرجعة الثلث بعد الخمس. ونفّل قوما بعد سهمانهم بعيرا بعيرا في بعض المغازي. فجعل الله تعالى ذكره حكم الأنفال إلى نبيه ﷺ، ينفل على ما يرى مما فيه صلاح المسلمين، وعلى من بعده من الأئمة أن يستنوا بسنته في ذلك. وليس في الآية دليل على أن حكمها منسوخ، لاحتمالها ما ذكرت من المعنى الذي وصفت، وغير جائز أن يحكم بحكم قد نزل به القرآن أنه منسوخ، إلا بحجة يجب التسليم لها، فقد دللنا في غير موضع من كتبنا أن لا منسوخ إلا ما أبطل حكمه حادث حكم بخلافه، ينفيه من كل معانيه، أو يأتي خبر يوجب الحجة أن أحدهما ناسخ للآخر".]] . ﴿فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ﴾ أَيْ: اتَّقُوا اللَّهَ بِطَاعَتِهِ وَأَصْلِحُوا الْحَالَ بَيْنَكُمْ بِتَرْكِ الْمُنَازَعَةِ وَالْمُخَالَفَةِ، وَتَسْلِيمِ أَمْرِ الْغَنِيمَةِ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ ﷺ. ﴿وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ﴾
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب