قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: ﴿أَتَوَاصَوْا بِهِ﴾ ، أَيْ: أَوْصَى أَوَّلُهُمْ آخِرَهُمْ وَبَعْضُهُمْ بعضًا بالتكذيب وتواطؤا عَلَيْهِ؟ وَالْأَلْفُ فِيهِ لِلتَّوْبِيخِ، ﴿بَلْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ﴾ ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: حَمَلَهُمُ الطُّغْيَانُ فِيمَا أَعْطَيْتُهُمْ وَوَسَّعْتُ عَلَيْهِمْ عَلَى تَكْذِيبِكَ، ﴿فَتَوَلَّ عَنْهُمْ﴾ ، فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ، ﴿فَمَا أَنْتَ بِمَلُومٍ﴾ ، لَا لَوْمَ عَلَيْكَ فَقَدْ أَدَّيْتَ الرِّسَالَةَ وَمَا قَصَّرْتَ فِيمَا أُمِرْتَ بِهِ.
قَالَ الْمُفَسِّرُونَ: لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ حَزِنَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ وَاشْتَدَّ ذَلِكَ عَلَى أَصْحَابِهِ، وَظَنُّوا أَنَّ الْوَحْيَ قَدِ انْقَطَعَ، وَأَنَّ الْعَذَابَ قَدْ حَضَرَ إِذْ أَمَرَ النَّبِيُّ ﷺ أَنْ يَتَوَلَّى عَنْهُمْ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: ﴿وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ﴾ ، فَطَابْتُ أَنْفُسُهُمْ [[أخرجه إسحاق بن راهويه في مسنده عن مجاهد، وسكت عنه البوصيري وقال: "رواه أحمد بن منيع بسند رواته ثقات"، وأخرجه الطبري عن قتادة. انظر: المطالب العالية: ٣ / ٣٧٨ مع حاشية المحقق، تفسير الطبري: ٢٧ / ١١.]] .
قَالَ مُقَاتِلٌ: مَعْنَاهُ عِظْ بِالْقُرْآنِ كُفَّارَ مَكَّةَ، فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ مَنْ [سَبَقَ] [[ساقط من "أ".]] فِي عِلْمِ اللَّهِ أَنْ يُؤْمِنَ مِنْهُمْ. وَقَالَ الْكَلْبِيُّ: عِظْ بِالْقُرْآنِ مَنْ آمَنَ مِنْ قَوْمِكَ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُهُمْ.
﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ﴾ ، قَالَ الْكَلْبِيُّ وَالضَّحَّاكُ وَسُفْيَانُ: هَذَا خَاصٌّ لِأَهْلِ طَاعَتِهِ مِنَ الْفَرِيقَيْنِ، يَدُلُّ عَلَيْهِ قِرَاءَةُ ابْنِ عَبَّاسٍ: "وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ -مِنَ الْمُؤْمِنِينَ -إِلَّا لِيَعْبُدُونِ"، ثُمَّ قَالَ فِي أُخْرَى: "وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ"، [الأعراف: ٧٩] .
وَقَالَ بَعْضُهُمْ: وَمَا خَلَقْتُ السُّعَدَاءَ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِلَّا لِعِبَادَتِي وَالْأَشْقِيَاءَ مِنْهُمْ إِلَّا لِمَعْصِيَتِي، وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ، قَالَ: هُوَ عَلَى مَا جُبِلُوا عَلَيْهِ مِنَ الشَّقَاوَةِ وَالسَّعَادَةِ.
وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ: "إِلَّا لِيَعْبُدُونِ" أَيْ إِلَّا لِآمُرَهُمْ أَنْ يَعْبُدُونِي وَأَدْعُوَهُمْ إِلَى عِبَادَتِي، يُؤَيِّدُهُ قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: "وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا". [التوبة: ٣١] .
وَقَالَ مُجَاهِدٌ: إِلَّا لِيَعْرِفُونِي. وَهَذَا أَحْسَنُ لِأَنَّهُ لَوْ لَمْ يَخْلُقْهُمْ لَمْ يُعْرَفْ وُجُودُهُ وَتَوْحِيدُهُ، دَلِيلُهُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ﴾ [الزخرف: ٨٧] .
وَقِيلَ: مَعْنَاهُ إِلَّا لِيَخْضَعُوا إِلَيَّ وَيَتَذَلَّلُوا، وَمَعْنَى الْعِبَادَةِ فِي اللُّغَةِ: التَّذَلُّلُ وَالِانْقِيَادُ، فَكُلُّ مَخْلُوقٌ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ خَاضِعٌ لِقَضَاءِ اللَّهِ، مُتَذَلِّلٌ لِمَشِيئَتِهِ لَا يَمْلِكُ أَحَدٌ لِنَفْسِهِ خُرُوجًا عَمَّا خُلِقَ عَلَيْهِ.
وَقِيلَ: "إِلَّا لِيَعْبُدُونِ" إِلَّا لِيُوَحِّدُونِي، فَأَمَّا الْمُؤْمِنُ فَيُوَحِّدُهُ فِي الشِّدَّةِ وَالرَّخَاءِ، وَأَمَّا الْكَافِرُ فَيُوَحِّدُهُ فِي الشِّدَّةِ وَالْبَلَاءِ دُونَ النِّعْمَةِ وَالرَّخَاءِ، بَيَانُهُ قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: "فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ". [العنكبوت: ٦٥] .
{"ayahs_start":53,"ayahs":["أَتَوَاصَوۡا۟ بِهِۦۚ بَلۡ هُمۡ قَوۡمࣱ طَاغُونَ","فَتَوَلَّ عَنۡهُمۡ فَمَاۤ أَنتَ بِمَلُومࣲ","وَذَكِّرۡ فَإِنَّ ٱلذِّكۡرَىٰ تَنفَعُ ٱلۡمُؤۡمِنِینَ","وَمَا خَلَقۡتُ ٱلۡجِنَّ وَٱلۡإِنسَ إِلَّا لِیَعۡبُدُونِ"],"ayah":"أَتَوَاصَوۡا۟ بِهِۦۚ بَلۡ هُمۡ قَوۡمࣱ طَاغُونَ"}