الباحث القرآني

قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: ﴿أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ﴾ وَذَلِكَ أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ اخْتَلَفُوا فَادَّعَى كُلُّ وَاحِدٍ أَنَّهُ عَلَى دِينِ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَاخْتَصَمُوا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ فَقَالَ النَّبِيُّ ﷺ: "كِلَا الْفَرِيقَيْنِ بَرِيءٌ مِنْ دِينِ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ" فَغَضِبُوا وَقَالُوا: لَا نَرْضَى بِقَضَائِكَ وَلَا نَأْخُذُ بِدِينِكَ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: ﴿أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ﴾ [[انظر: تفسير القرطبي: ٤ / ١٢٧، البحر المحيط لأبي حيان: ٢ / ٥١٤، أسباب النزول للواحدي ص (١٤٦) .]] قَرَأَ أَبُو جَعْفَرٍ وَأَهْلُ الْبَصْرَةِ وَحَفْصٌ عَنْ عَاصِمٍ ﴿يَبْغُونَ﴾ بِالْيَاءِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى ﴿وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ﴾ وَقَرَأَ الْآخَرُونَ بِالتَّاءِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى ﴿لَمَا آتَيْتُكُمْ﴾ ، ﴿وَلَهُ أَسْلَمَ﴾ خَضَعَ وَانْقَادَ، ﴿مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا﴾ فَالطَّوْعُ: الِانْقِيَادُ وَالِاتِّبَاعُ بِسُهُولَةٍ، وَالْكُرْهُ: مَا كَانَ بِمَشَقَّةٍ وَإِبَاءٍ مِنَ النَّفْسِ. وَاخْتَلَفُوا فِي قَوْلِهِ ﴿طَوْعًا وَكَرْهًا﴾ قَالَ الْحَسَنُ: أسلم أهل السموات طَوْعًا وَأَسْلَمَ مَنْ فِي الْأَرْضِ بَعْضُهُمْ طَوْعًا وَبَعْضُهُمْ كَرْهًا، خَوْفًا مِنَ السَّيْفِ وَالسَّبْيِ، وَقَالَ مُجَاهِدٌ: طَوْعًا الْمُؤْمِنُ، وَكَرْهَا ذَلِكَ الْكَافِرُ، بِدَلِيلِ: " وَلِلَّهِ يَسْجُدُ من في السموات وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَظِلَالُهُمْ بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ " [الرعد: ١٥] وَقِيلَ: هَذَا يَوْمُ الْمِيثَاقِ حِينَ قَالَ لَهُمْ: " أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى " [الأعراف: ١٧٢] فَقَالَ بَعْضُهُمْ: طَوْعًا وَبَعْضُهُمْ: كَرْهًا، وَقَالَ قَتَادَةُ: الْمُؤْمِنُ أَسْلَمَ طَوْعًا فَنَفَعَهُ، وَالْكَافِرُ أَسْلَمَ كَرْهًا فِي وَقْتِ الْبَأْسِ فَلَمْ يَنْفَعْهُ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: ﴿ فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا ﴾ [غافر: ٨٥] وَقَالَ الشَّعْبِيُّ: هُوَ اسْتِعَاذَتُهُمْ بِهِ عِنْدَ اضْطِرَارِهِمْ كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: ﴿ فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ ﴾ [العنكبوت: ٦٥] . وَقَالَ الْكَلْبِيُّ: طَوْعًا الَّذِي ﴿وُلِدَ﴾ [[ساقط من: أ.]] فِي الْإِسْلَامِ، وَكَرْهًا الَّذِينَ أُجْبِرُوا عَلَى الْإِسْلَامِ مِمَّنْ يُسْبَى مِنْهُمْ فَيُجَاءُ بِهِمْ فِي السَّلَاسِلِ، ﴿وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ﴾ قَرَأَ بِالْيَاءِ حَفْصٌ عَنْ عَاصِمٍ وَيَعْقُوبُ كَمَا قَرَأَ ﴿يَبْغُونَ﴾ بِالْيَاءِ وَقَرَأَ الْبَاقُونَ بِالتَّاءِ فِيهِمَا إِلَّا أَبَا عَمْرٍو فَإِنَّهُ قَرَأَ ﴿يَبْغُونَ﴾ بِالْيَاءِ وَ ﴿تُرْجَعُونَ﴾ بِالتَّاءِ، وَقَالَ: لِأَنَّ الْأَوَّلَ خَاصٌّ وَالثَّانِي عَامٌّ، لِأَنَّ مَرْجِعَ جَمِيعِ الْخَلْقِ إِلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿قُلْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَالنَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ﴾ ذَكَرَ الْمِلَلَ وَالْأَدْيَانَ وَاضْطِرَابَ النَّاسِ فِيهَا، ثُمَّ أَمَرَ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ أَنْ يَقُولَ: ﴿آمَنَّا بِاللَّهِ﴾ الْآيَةَ. قَوْلُهُ: ﴿وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ﴾ نَزَلَتْ فِي اثْنَيْ عَشَرَ رَجُلًا ارْتَدُّوا عَنِ الْإِسْلَامِ وَخَرَجُوا مِنَ الْمَدِينَةِ وَأَتَوْا مَكَّةَ كُفَّارًا، مِنْهُمُ الْحَارِثُ بْنُ سُوَيْدٍ الْأَنْصَارِيُّ، فَنَزَلَتْ فِيهِمْ ﴿وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ﴾ ﴿كَيْفَ يَهْدِي اللَّهُ قَوْمًا كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ﴾ لَفْظُهُ اسْتِفْهَامٌ وَمَعْنَاهُ جَحْدٌ، أَيْ: لَا يَهْدِي اللَّهُ، وَقِيلَ مَعْنَاهُ: كَيْفَ يَهْدِيهِمُ اللَّهُ فِي الْآخِرَةِ إِلَى الْجَنَّةِ وَالثَّوَابِ ﴿وَشَهِدُوا أَنَّ الرَّسُولَ حَقٌّ وَجَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ﴾ ﴿خَالِدِينَ فِيهَا لَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ﴾ وَذَلِكَ: أَنَّ الْحَارِثَ بْنَ سُوَيْدٍ لَمَّا لَحِقَ بِالْكُفَّارِ نَدِمَ، فَأَرْسَلَ إِلَى قَوْمِهِ: أَنْ سَلُوا رَسُولَ اللَّهِ ﷺ: هَلْ لِي مِنْ تَوْبَةٍ؟ فَفَعَلُوا ذَلِكَ فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: ﴿إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ ﴿إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ [[انظر: الطبري: ٦ / ٥٧٣، أسباب النزول ص (١٤٧) .]] لَمَّا كَانَ مِنْهُ، فَحَمَلَهَا إِلَيْهِ رَجُلٌ مِنْ قَوْمِهِ وَقَرَأَهَا عَلَيْهِ فَقَالَ الْحَارِثُ: إِنَّكَ -وَاللَّهِ -مَا عَلِمْتُ لَصَدُوقٌ وَإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ لَأَصْدَقُ مِنْكَ وَإِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ لَأَصْدَقُ الثَّلَاثَةِ، فَرَجَعَ الْحَارِثُ إِلَى الْمَدِينَةِ وَأَسْلَمَ وَحَسُنَ إِسْلَامُهُ. قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: ﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا﴾ قَالَ قَتَادَةُ وَالْحَسَنُ: نَزَلَتْ فِي الْيَهُودِ كَفَرُوا بِعِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ وَالْإِنْجِيلِ بَعْدَ إِيمَانِهِمْ بِأَنْبِيَائِهِمْ، ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا بِكُفْرِهِمْ [[ساقط من: ب وانظر: أسباب النزول للواحدي ص (١٤٨) ، الطبري: ٦ / ٥٧٨ - ٥٧٩، الدر المنثور: ٢ / ٢٥٨.]] بِمُحَمَّدٍ ﷺ وَالْقُرْآنِ. وَقَالَ أَبُو الْعَالِيَةِ: نَزَلَتْ فِي الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى كَفَرُوا بِمُحَمَّدٍ ﷺ لَمَّا رَأَوْهُ بَعْدَ إِيمَانِهِمْ بِنَعْتِهِ وَصِفَتِهِ فِي كُتُبِهِمْ ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا يَعْنِي: ذُنُوبًا فِي حَالِ كُفْرِهِمْ. قَالَ مُجَاهِدٌ: نَزَلَتْ فِي جَمِيعِ الْكُفَّارِ أَشْرَكُوا بَعْدَ إِقْرَارِهِمْ بِأَنَّ اللَّهَ خَالِقُهُمْ، ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا أَيْ: أَقَامُوا عَلَى كُفْرِهِمْ حَتَّى هَلَكُوا عَلَيْهِ [[انظر: الدر المنثور: ٢ / ٢٥٨ - ٢٥٩، أسباب النزول ص (١٤٨) .]] . قَالَ الْحَسَنُ: ازْدَادُوا كُفْرًا كُلَّمَا نَزَلَتْ آيَةٌ كَفَرُوا بِهَا، فَازْدَادُوا كُفْرًا وَقِيلَ: ازْدَادُوا كُفْرًا بِقَوْلِهِمْ: نَتَرَبَّصُ بِمُحَمَّدٍ رَيْبَ الْمَنُونِ. قَالَ الْكَلْبِيُّ: نَزَلَتْ فِي الْأَحَدَ عَشَرَ مِنْ أَصْحَابِ الْحَارِثِ بْنِ سُوَيْدٍ، لَمَّا رَجَعَ الْحَارِثُ إِلَى الْإِسْلَامِ أَقَامُوا هُمْ عَلَى الْكُفْرِ بِمَكَّةَ وَقَالُوا: نُقِيمُ عَلَى الْكُفْرِ مَا بَدَا لَنَا فَمَتَى أَرَدْنَا الرَّجْعَةَ يَنْزِلُ فِينَا مَا نَزَلَ فِي الْحَارِثِ، فَلَمَّا افْتَتَحَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ مَكَّةَ فَمَنْ دَخَلَ مِنْهُمْ فِي الْإِسْلَامِ قُبِلَتْ تَوْبَتُهُ وَنَزَلَ فِيمَنْ مَاتَ مِنْهُمْ كَافِرًا ﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ﴾ الْآيَةَ. فَإِنْ قِيلَ: قَدْ وَعَدَ اللَّهُ قَبُولَ تَوْبَةِ مَنْ تَابَ، فَمَا مَعْنَى قَوْلِهِ: ﴿لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الضَّالُّونَ﴾ قِيلَ: لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ إِذَا (رَجَعُوا فِي حَالِ الْمُعَايَنَةِ) [[في ب: إذا وقعوا في الحشرجة.]] كَمَا قَالَ: " وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ " سُورَةُ النِّسَاءِ الْآيَةُ (١٨) . وَقِيلَ هَذَا فِي أَصْحَابِ الْحَارِثِ بْنِ سُوَيْدٍ حَيْثُ أَمْسَكُوا عَنِ الْإِسْلَامِ، وَقَالُوا: نَتَرَبَّصُ بِمُحَمَّدٍ فَإِنْ سَاعَدَهُ الزَّمَانُ نَرْجِعُ إِلَى دِينِهِ، لَنْ يُقْبَلَ مِنْهُمْ ذَلِكَ لِأَنَّهُمْ مُتَرَبِّصُونَ غَيْرُ مُحَقِّقِينَ، وَأُولَئِكَ هُمُ الضَّالُّونَ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب