الباحث القرآني

ثُمَّ أَرَى مُوسَى آيَةً عَلَى قُدْرَتِهِ، فَقَالَ: ﴿وَأَلْقِ عَصَاكَ فَلَمَّا رَآهَا تَهْتَزُّ﴾ تَتَحَرَّكُ، ﴿كَأَنَّهَا جَانٌّ﴾ وَهِيَ الْحَيَّةُ الصَّغِيرَةُ الَّتِي يَكْثُرُ اضْطِرَابُهَا، ﴿وَلَّى مُدْبِرًا﴾ هَرَبَ مِنَ الْخَوْفِ، ﴿وَلَمْ يُعَقِّبْ﴾ لَمْ يَرْجِعْ، يُقَالُ: عَقِبَ فُلَانٌ إِذَا رَجَعَ، وَكُلُّ رَاجِعٍ مُعَقِّبٌ. وَقَالَ قَتَادَةُ: وَلَمْ يَلْتَفِتْ، فَقَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: ﴿يَا مُوسَى لَا تَخَفْ إِنِّي لَا يَخَافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ﴾ يُرِيدُ إِذَا آمَّنْتُهُمْ لَا يَخَافُونَ، أَمَّا الْخَوْفُ الَّذِي هُوَ شَرْطُ الْإِيمَانِ فَلَا يُفَارِقُهُمْ، قَالَ النَّبِيُّ ﷺ: "أَنَا أَخْشَاكُمْ لِلَّهِ" [[قطعة من حديث رواه البخاري في النكاح، باب الترغيب في النكاح ٩ / ١٠٤، ومسلم في الصيام، باب بيان أن القبلة في الصوم ليست محرمة برقم (١١٠٨) ٢ / ٧٧٩ بلفظ "أما والله إني لأتقاكم لله، وأخشاكم له".]] . وَقَوْلُهُ: ﴿إِلَّا مَنْ ظَلَمَ ثُمَّ بَدَّلَ حُسْنًا بَعْدَ سُوءٍ فَإِنِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ وَاخْتُلِفَ فِي هَذَا الِاسْتِثْنَاءِ، قِيلَ: هَذَا إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ مُوسَى حِينَ قَتَلَ الْقِبْطِيَّ خَافَ مِنْ ذَلِكَ، ثُمَّ تَابَ فَقَالَ: رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي، فَغَفَرَ لَهُ. قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: قَالَ اللَّهُ تَعَالَى لِمُوسَى: إِنَّمَا أَخَفْتُكَ لِقَتْلِكَ النَّفْسَ. وَقَالَ: مَعْنَى الْآيَةِ: لَا يُخِيفُ اللَّهُ الْأَنْبِيَاءَ إِلَّا بِذَنْبٍ يُصِيبُهُ أَحَدُهُمْ، فَإِنْ أَصَابَهُ أَخَافَهُ حَتَّى يَتُوبَ، فَعَلَى هَذَا التَّأْوِيلِ يَكُونُ الِاسْتِثْنَاءُ صَحِيحًا وَتَنَاهَى الْخَبَرُ عَنِ الرُّسُلِ عِنْدَ قَوْلِهِ: ﴿إِلَّا مَنْ ظَلَمَ﴾ ثُمَّ ابْتَدَأَ الْخَبَرُ عَنْ حَالِ مَنْ ظَلَمَ مِنَ النَّاسِ كَافَّةً. وَفِي الْآيَةِ مَتْرُوكٌ اسْتُغْنِيَ عَنْ ذِكْرِهِ بِدَلَالَةِ الْكَلَامِ عَلَيْهِ، تَقْدِيرُهُ: فَمَنْ ظَلَمَ ثُمَّ بَدَّلَ حُسْنًا بَعْدَ سُوءٍ فَإِنِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ [[هذا القول هو الذي رجحه الطبري: ١٩ / ١٣٧.]] . وَقَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: لَيْسَ هَذَا بِاسْتِثْنَاءٍ مِنَ الْمُرْسَلِينَ لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ عَلَيْهِمُ الظُّلْمُ، بَلْ هُوَ اسْتِثْنَاءٌ مِنَ الْمَتْرُوكِ فِي الْكَلَامِ، مَعْنَاهُ: لَا يَخَافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ، إِنَّمَا الْخَوْفُ عَلَى غَيْرِهِمْ مِنَ الظَّالِمِينَ، إِلَّا مَنْ ظَلَمَ ثُمَّ تَابَ، وَهَذَا مِنَ الِاسْتِثْنَاءِ الْمُنْقَطِعِ، مَعْنَاهُ [[ساقط من "أ".]] لَكِنْ مَنْ ظَلَمَ مِنْ سَائِرِ النَّاسِ فَإِنَّهُ يَخَافُ، فَإِنْ تَابَ وَبَدَّلَ حُسْنًا بَعْدَ سُوءٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ، يَعْنِي يَغْفِرُ اللَّهُ لَهُ وَيُزِيلُ الْخَوْفَ عَنْهُ [[قال الحافظ ابن كثير رحمه الله معتمدا هذا القول (٣ / ٣٥٨) : "هذا استثناء منقطع، وفيه بشارة عظيمة للبشر، وذلك أن من كان على عمل سيئ ثم أقلع عنه ورجع وتاب وأناب، فإن الله يتوب عليه، كما قال: (وإني لغفار لمن تاب وآمن وعمل صالحا ثم اهتدى) ، وقال تعالى: (ومن يعمل سوءا أو يظلم نفسه..) الآية. والآيات في هذا كثيرة جدا". وكذلك رجحه أبو حيان في البحر المحيط.]] . وَقَالَ بَعْضُ النَّحْوِيِّينَ: "إِلَّا" هَاهُنَا بِمَعْنَى: "وَلَا" [[في الطبري والنحاس وغيرهما: (بمعنى الواو) .]] يَعْنِي: لَا يَخَافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ وَلَا مَنْ ظَلَمَ ثُمَّ بَدَّلَ حَسَنًا بَعْدَ سُوءٍ، يَقُولُ: لَا يَخَافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ وَلَا الْمُذْنِبُونَ التَّائِبُونَ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ﴾ [البقرة: ١٥٠] ، يَعْنِي: وَلَا الَّذِينَ ظَلَمُوا [[وهذا القول حكاه الفراء عن بعض النحويين ولم يرضه، وقال النحاس: "وذا ليس بجيد في العربية"، وقال أبو حيان: "وهذا ليس بشيء؛ لأن معنى "إلا" مباين لمعنى "الواو" مباينة كثيرة، إذ الواو للإدخال و"إلا" للإخراج، فلا يمكن وقوع أحدهما موضع الآخر". انظر: معاني القرآن للنحاس: ٥ / ١١٧، البحر المحيط: ٧ / ٥٧، زاد المسير: ٦ / ١٥٧.]]
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب