الباحث القرآني

وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرى مرة أخرى، فسمّاها نزلة على الاستعارة، وذلك أنّ جبريل رآه النبيّ ﷺ‎ على صورته التي خلق عليها مرتين: مرة بالأفق الأعلى في الأرض، ومرة عند سدرة المنتهى في السماء، وهذا قول عائشة وأكثر العلماء وهو الاختيار، لأنه قرن الرؤية بالمكان فقال عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهى، ولأنه قال: نَزْلَةً أُخْرى وتقديرها: ولقد رآه نازلا نزلة أخرى، ووصف الله سبحانه بالمكان والنزول الذي هو الانتقال محال ولأنه قال: نَزْلَةً أُخْرى ولم يرو في الحديث أنّه ﷺ‎ رأى ربّه عزّ وجل قبل ليلة المعراج فيراه تلك الليلة مرة أخرى، يدل عليها ما أخبرني عقيل بن محمد أنّ أبا الفرج أخبرهم عن محمد بن جرير عن محمد بن المثنى قال: حدّثنا عبد الوهاب الثقفي. قال: حدّثنا داود بن عامر عن مسروق أن عائشة رضي الله عنها قالت: من زعم أنّ محمدا رأى ربّه فقد أعظم الفرية على الله. قال: وكنت متكئا فجلست فقلت: يا أم المؤمنين، أنظريني ولا تعجلي، أرأيت قول الله سبحانه وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرى وَلَقَدْ رَآهُ بِالْأُفُقِ الْمُبِينِ. قالت: إنّما هو جبريل رآه على صورته التي خلق عليها مرتين: مرة حين هبط من السماء إلى الأرض سادّا أعظم حلقة ما بين السماء إلى الأرض، ومرة عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهى. قالت: وأنا أوّل من سأل النبي «عن هذه الآية فقال: «هو جبريل» [124] . عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهى (عند) صلة من قوله: رَآهُ والسدرة: شجرة النبق، وقيل لها سدرة المنتهى لأنه إليها ينتهي علم كل عالم. وقال هلال بن سياف: سأل ابن عباس كعبا عن سِدْرَةِ الْمُنْتَهى وأنا حاضر فقال كعب: إنها سدرة في أصل العرش على رؤوس حملة العرش، وإليها ينتهي علم الخلائق، وما خلفها غيب لا يعلمه إلّا الله سبحانه. وقال ابن مسعود: سمّيت بذلك لأنّه ينتهى إليها ما يهبط من فوقها وما يصعد من تحتها من أمر الله سبحانه وتعالى إذا انتهى من يصعد إليها من الأرض قبض منها، وقيل: لأنّه ينتهى إليها ما عرج من أرواح المؤمنين، وقيل: لأنّه ينتهي إليها كل من مات على سنّة رسول الله ومنهاجه. روى الربيع عن أبي العالية عن أبي هريرة قال: لمّا أسري بالنبي «انتهى إلى السدرة، فقيل له: هذه السدرة ينتهي إليها كل أحد خلا من أمتك على سنتك، فإذا هي شجرة يخرج من أصلها أَنْهارٌ مِنْ ماءٍ غَيْرِ آسِنٍ إلى قوله: مُصَفًّى، وهي شجرة يسير الراكب في ظلّها سبعين عاما لا يقطعها، والورقة منها مغطّية الأمة كلها. وأخبرني ابن فنجويه، قال: حدّثنا بن شيبة، قال: حدّثنا التنوخي قال: حدّثنا عبيد بن يعيش، قال: حدّثنا يونس بن بكير، قال: أخبرنا محمد بن إسحاق عن يحيى بن عباد بن عبد الله ابن الزبير عن أبيه عن جدته أسماء بنت أبي بكر قال: سمعت النبي «يذكر سدرة المنتهى قال: «يسير الراكب في ظلّ الفنن منها مائة عام، ويستظلّ في الفنن منها مائة راكب. فيها فراش من ذهب، كأنّ ثمارها القلال» [125] [[سنن الترمذي: 4/ 86 بتفاوت يسير]] . وقال مقاتل: هي شجرة لو أنّ ورقة منها وضعت في الأرض لأضاءت لأهل الأرض، تحمل الحليّ والحلل والثمار من جميع الألوان، ولو أنّ رجلا ركب حقّة فطاف على ساقها ما بلغ المكان الذي ركب منه حتى يقتله الهرم، وهي طوى التي ذكرها الله سبحانه في سورة الرعد، وقد تقصيت وصفها في قصة المسرى. عِنْدَها جَنَّةُ الْمَأْوى إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ ما يَغْشى قال ابن مسعود وأصحابه: فراش من ذهب، وهي رواية الضحاك عن ابن عباس، ورفعه إلى النبي ﷺ‎. قال الحسن: غشيها نور ربّ العزة فاستنارت، وقيل: الملائكة، ويروى أنّ رسول الله ﷺ‎ قال: «رأيت على كلّ ورقة من ورقها ملكا قائما يسبّح الله عزّ وجل» [[جامع البيان للطبري: 27/ 75.]] [126] ، وروى الربيع عن أبي هريرة أو غيره قال: لمّا أسري بالنبي ﷺ‎ انتهى إلى السدرة، قال: فغشيها نور الخلائق وغشيها الملائكة من حب الله مثل الغربان حين يقعن على الشجر. قال: فكلّمه عند ذلك وقال له: سل. وفي الحديث أن النبي ﷺ‎ قال: «فغشيها [[في المصدر: يغشاها.]] رفرف من طير خضر» [127] [[تفسير القرطبي: 17/ 97.]] . قال السدي: من الطيور فوقها، وروى أنس عن النبي ﷺ‎ أنّه قال: «انتهيت إلى السدرة وأنا لأعرف أنّها سدرة، أعرف ورقها وثمرها، وإذا ينعها مثل الجرار، وإذا ورقها مثل آذان الفيلة. فلمّا [[في المخطوط: فما.]] غشيها من أمر الله ما غشيها تحولت ياقوتا وزمردا حتى ما يستطيع أحد يصفها، عِنْدَها جَنَّةُ الْمَأْوى» [128] [[راجع جامع البيان للطبري: 27/ 72071 فالحديث ليس واحدا.]] . قال ابن عباس: هي يمين العرش، وهي منزلة الشهداء، نظيره فَلَهُمْ جَنَّاتُ الْمَأْوى وأخبرنا الحسن بن محمد قال: حدّثنا أبو عبد الله عمر بن أحمد بن محمد بن الحرث القضباني. قال: حدّثنا علي بن العباس المقانعي، قال: حدّثنا ميمون بن الأصبع، قال: حدّثنا يحيى بن صالح الوحاطي قال: حدّثنا محمد بن سليمان بن حمزة البصري، قال: حدّثنا عبد الله بن أبي قيس، قال سمعت عبد الله بن الزبير يقرأ هذه الآية عِنْدَها جَنَّهُ بالهاء الْمَأْوى يعني جنّه المبيت، وأخبرني ابن فنجويه قال: حدّثنا طلحة بن محمد وعبيد الله بن أحمد قالا: حدّثنا أبو بكر بن مجاهد، قال: حدّثني أبو صدقة قال: حدّثنا أبو الأسباط قال: حدّثنا عبد الرّحمن عن علي بن القاسم الكندي عن موسى بن عبيدة، قال: سمعت محمد بن كعب القرظي يقرأ جَنَّهُ الْمَأْوى وقال مجاهد: يريد أجنّه، والهاء في هذه القراءة كناية عن النبي ﷺ‎. قال أبو حاتم: وهي قراءة علي وأنس يعني ستره، وقال الأخفش: أدركه. ما زاغَ الْبَصَرُ وَما طَغى أي: ما جاور ما أمر به، ولا مال عمّا قصد له. لَقَدْ رَأى مِنْ آياتِ رَبِّهِ الْكُبْرى أي الآية الكبرى. قال ابن مسعود: رأى رفرفا أخضر من الجنة قد سدّ الأفق، وقال الضحاك: سدرة المنتهى، وقال عبد الرّحمن بن يزيد ومقاتل بن حيان: رأى جبريل في صورته التي تكون في السماوات، وقيل: المعراج، وما أري تلك الليلة في مسراه في عوده وبدئه. دليله قوله سبحانه لِنُرِيَكَ مِنْ آياتِنَا الْكُبْرى ... أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ قراءة العامة بتخفيف التاء، وهي من (الله) ألحقت بها التاء فاثبت. كما قيل: عمر للذكر، ثم قيل: للأنثى عمرة، وكما قيل عباس وعباسة، وكذلك سمّى المشركون أوثانهم بأسماء الله فقالوا: من الله (اللات) ، ومن العزيز (العزّى) . قال قتادة: أمّا اللات فكانت بالطائف. ابن زيد: اللات بيت بنخلة كانت قريش تعبده [[تفسير الطبري: 27/ 77 مورد الآية، وفي تفسير القرطبي (17/ 100) بيت كان ببطن نخلة.]] . وقرأ ابن عباس ومجاهد وأبو صالح اللاتَّ بتشديد التاء، وقالوا: كان رجلا يلتّ [[لتّ الشيء: دقه وفتّه وسحقه، ولتّ السويق: تلّه بشيء من الماء أو خلطه بالسمن (عن المنجد) .]] السويق للحاج، فلما مات عكفوا على قبره فعبدوه، وروى السدي عن أبي صالح أنّه كان بالطائف، وكان يقوم على آلهتهم ويلتّ لهم السويق، فلمّا مات عبدوه. وقال مجاهد: كان رجلا في رأس جبل له غنم يسلى منها السمن، ويأخذ منها الأقط، ويجمع رسلها ثم يتخذ منها [حيسا] [[يسلى: يجمع، والاقط: لبن مجفف يابس، والحيس طعام من التمر والأقط والسمن.]] فيطعم الحاج، وكان ببطن نخلة، فلما مات عبدوه، وهو اللات، وقال الكلبي: كان رجلا من ثقيف يقال له: (صرمة) بن غنم كان يسلأ السمن فيضعها على صخرة ثم تأتيه العرب فتلتّ به سيوفهم، فلمّا مات الرجل [أخذت] [[كلمة غير مقروءة في المخطوط.]] ثقيف الصخرة الى منازلها فعبدتها فمدرة الطائف على وضع اللات. وَالْعُزَّى اختلفوا فيها فقال مجاهد: هي شجرة لغطفان يعبدونها، وهي التي بعث إليها رسول الله خالد بن الوليد فقطعها، وجعل خالد يضربها بالفأس ويقول: يا عز كفرانك لا سبحانك ... إني رأيت الله قد أهانك [[الصحاح: 3/ 886.]] فخرجت منها شيطانة، ناشرة شعرها داعية ويلها، واضعة يدها على رأسها، ويقال: إن خالدا رجع إلى النبي ﷺ‎ فقال قد قطعتها، فقال: «ما رأيت؟» ، قال: لم أر شيئا، قال ﷺ‎: «ما قطعت» . فعاودها ومعه المعول فقلعها واجتثّ أصلها، فخرجت جمنهاج امرأة عريانة فقتلها، ثم رجع إلى النبي ﷺ‎ فأخبره بذلك فقال: «تلك العزى ولن تعبد أبدا» [[تفسير القرطبي: 17/ 100.]] [129] . وقال الضحاك: وهي صنم لغطفان وضعها لهم سعد بن ظالم الغطفاني، وذلك أنّه قدم مكة فرأى الصفا والمروة، ورأى أهل مكة يطوفون بينهما، فعاد إلى [بطن نخلة] [[كلمة غير مقروءة في المخطوط.]] وقال لقومه: إنّ لأهل مكة الصفا والمروة وليست لكم، ولهم اله يعبدونه وليس لكم، قالوا: فما تأمرنا؟ قال: أنا أصنع لكم كذلك، فأخذ حجرا من الصفا وحجرا من المروة فنقلهما إلى بطن نخلة، فوضع الذي من الصفا، فقال: هذا الصفا، ثم وضع الذي أخذ من المروة، فقال: هذه المروة، ثم أخذ ثلاثة أحجار فاسندها إلى شجرة وقال: هذا ربّكم، فجعلوا يطوفون بين الحجرين وعبدون الحجارة حتى افتتح رسول الله مكة فأمر برفع الحجارة، وبعث خالد بن الوليد إلى العزى فقطعهما ، وقال ابن زيد: هي بيت بالطائف كانت تعبده ثقيف. وَمَناةَ قرأ ابن كثير بالمد، ومثله روى الشموني عن أبي بكر عن عاصم وأنشد: ألا هل أتى التيم بن عبد مناءة ... على الشنئ فيما بيننا ابن تميم [[لسان العرب: 14/ 434.]] والباقون بالقصر. قال قتادة: هي حجارة كانت تعبد. ابن زيد: بيت كان بالمشلل يعبده بنو كعب. الضحاك: مناة صنم لهذيل وخزاعة يعبدها أهل مكة، وقيل: إن اشتقاقه من ناء النجم ينوء نوءا، وقال بعضهم: اللات والعزى ومناة أصنام من حجارة كانت في جوف الكعبة يعبدونها [[راجع زاد المسير: 7/ 232.]] . واختلف القراء في الوقف على اللات ومناة، فوقف بعضهم عليهما بالهاء وبعضهم بالتاء، وقال بعضهم: كل شيء في القرآن مكتوب بالتاء فإنه يوقف عليه بالتاء نحو بِنِعْمَةِ رَبِّكَ وشَجَرَةُ الزَّقُّومِ ونحوهما، وما كان منها مكتوبا بالهاء فالوقف عليه بالهاء، وقال بعضهم: الاختيار في كل ما لم يضف ان يكون بالهاء، نحو رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي وشَجَرَةً تَخْرُجُ وما كان مضافا فجائز بالهاء والتاء، فالتاء للإضافة والهاء لأنه تفرد دون التاء. وأما قوله سبحانه الثَّالِثَةَ الْأُخْرى قال: العرب لا تقول للثالثة أخرى وأنّما الأخرى نعت للثانية، واختلفوا في وجهها فقال الخليل: إنّما قال ذلك لوفاق رؤوس الآي كقوله: مَآرِبُ أُخْرى ولم يقل: أخر، وقال الحسين بن الفضل: في الآية تقديم وتأخير، مجازها: أفرأيتم اللات والعزى الاخرى ومناة الثالثة، ومعنى الآية: أَفَرَأَيْتُمُ أيها الزاعمون أن اللَّاتَ وَالْعُزَّى وَمَناةَ بنات الله. أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثى تِلْكَ إِذاً قِسْمَةٌ ضِيزى روى القواس والبزي عن ابن كثير بالهمز. الباقون بغير همز، وقال ابن عباس وقتادة: يعني قسمة جائرة حيث جعلتم لربّكم من الولد ما تكرهون لأنفسكم. مجاهد ومقاتل: عوجا. الحسن: غير معتدلة. ابن سيرين: غير مستوية أن يكون لهم الذكور ولله الإناث. الضحاك: ناقصة. سفيان منقوصة. ابن زيد: مخالفة. قال الكسائي: يقال فيه: ضاز يضيز ضيزا. ضاز يضوز ضوزا. ضاز يضاز ضأزا إذا ظلم ونقص. قال الشاعر: ضازت بنو أسد بحكمهم ... إذ يجعلون الرأس كالذّنب [[تفسير القرطبي: 17/ 102.]] وأنشد الأخفش: فإن تنأ عنا ننتقصك وإن تغب ... فسهمك مضئوز وأنفك راغم [[جامع البيان للطبري: 27/ 79.]] وتقدير ضِيزى من الكلام فعلى بضم الفاء لأنها صفة من الصفات، والصفات لا تكون إلّا (فعلى) بضم الفاء، نحو: حبلى وأنثى ويسرى، أو (فعلى) بفتح الفاء نحو: غضبى وسكرى وعطشى، وليس في كلام العرب (فعلى) بكسر الفاء في النعوت، إنّما يكون في الأسماء نحو: دفرى، وذكرى وشعري. قال المؤرخ: كرهوا ضم الضاد وخافوا انقلاب الياء واوا وهو من بنات الياء فكسروا الضاد لهذه العلّة، كما قالوا في جمع أبيض: بيض، والأصل بوض مثل: حمر وصفر، وأما من قال: ضاز يضوز فالاسم منه ضوزى مثل شورى. إِنْ هِيَ يعني هذه الأوثان إِلَّا أَسْماءٌ سَمَّيْتُمُوها أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ ما أَنْزَلَ اللَّهُ بِها مِنْ سُلْطانٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ قرأ العامة بالياء، وقرأ عيسى بالتاء إِلَّا الظَّنَّ في قولهم: إنّها آلهة وإنّها شفعاؤهم وَما تَهْوَى الْأَنْفُسُ وَلَقَدْ جاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدى لبيان أنّها ليست بآلهة وأن العبادة لا تصلح إلّا لله الواحد القهار.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب