الباحث القرآني

وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ إِبْراهِيمَ إِذْ قالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ ما تَعْبُدُونَ قالُوا نَعْبُدُ أَصْناماً فَنَظَلُّ لَها عاكِفِينَ. قال بعض العلماء: إنّما قالوا: فَنَظَلُّ لأنهم كانوا يعبدونها بالنهار دون الليل. قالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ قراءة العامة بفتح الياء أي: هل يسمعون دعاءكم، وقرأ قتادة يُسْمِعُونَكُمْ بضم الياء إِذْ تَدْعُونَ أَوْ يَنْفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ قالُوا بَلْ وَجَدْنا آباءَنا كَذلِكَ يَفْعَلُونَ. وفي هذه الآية بيان أنّ الدين إنما يثبت بالحجة وبطلان التقليد فيه. قالَ أَفَرَأَيْتُمْ ما كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ أَنْتُمْ وَآباؤُكُمُ الْأَقْدَمُونَ الأولون فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي وأنا منهم بريء، وإنما وحّد العدو لأن معنى الكلام: فإنّ كل معبود لكم عدوّ لي [[في زيادة: وأما الوجه في وصف الجماد بالعداوة فهو أنّ معنى الآية: فإنهم عدوّ لي.]] لو عبدتهم يوم القيامة، كما قال الله سبحانه وتعالى كَلَّا سَيَكْفُرُونَ بِعِبادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا [[سورة مريم: 82.]] . وقال الفرّاء: هو من المقلوب أراد فإنّي عدو لهم لأنّ من عاديته عاداك. ثم قال إِلَّا رَبَّ الْعالَمِينَ نصب بالاستثناء يعني فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي وغير معبود لي إِلَّا رَبَّ الْعالَمِينَ فإنّي أعبده، قاله الفرّاء، وقيل: هو بمعنى لكن، وقال الحسن [[في النسخة الثانية: الحسين.]] بن الفضل: يعني الأمر عند رب العالمين. ثم وصفه فقال الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ أخبر أن الهادي على الحقيقة هو الخالق لا هادي غيره. قال أهل اللسان: الَّذِي خَلَقَنِي في الدنيا على فطرته فَهُوَ يَهْدِينِ في الآخرة إلى جنته. وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ يعني يرزقني ويربيني. وقال أبو العباس بن عطاء: يعني يطعمني أيّ طعام شاء، ويسقيني أيّ شراب شاء. قال محمد بن كثير العبدي: صحبت سفيان الثوري بمكة دهرا فكان يستف من السبت الى السبت كفّا من رمل. وسمعت أبا القاسم بن حبيب يقول: سمعت أبا الحسن محمد بن علي بن الشاه يقول: سمعت أبا عبد الله محمد بن علي بن حمدان يقول: سمعت الحجاج بن عبد الكريم يقول: خرجت من بلخ في طلب إبراهيم بن أدهم فرأيته بحمص في أتون يسجّرها فسلّمت عليه وسألته عن حاله، فردّ عليّ السلام وسألني عن حالي وحال أقربائه، فكنت معه يومه ذلك فقال: لعلّ نفسك تنازعك الى شيء من طعام؟ فقلت: نعم فأخذ رمادا وترابا فخلطهما وأكلهما ثمّ أقبل بوجهه عليّ وانشأ يقول: اخلط الترب بالرماد وكله ... وازجر النفس عن مقام السؤال فإذا شئت ان تقبّع بالذلّ ... فرم ما حوته أيدي الرجال فخرجت من عنده فمكثت أياما لم أدخل عليه فاشتدّ شوقي إليه، فدخلت عليه وكنت عنده فلم يتكلّم بشيء فقلت له: لم لا تكلّم؟ فقال: منع الخطاب لأنه سبب الردى ... والنطق فيه معادن الآفات فإذا نطقت فكن لربّك ذاكرا ... وإذا سكتّ فعدّ جسمك مات قال أبو بكر الوراق: يُطْعِمُنِي بلا طعام وَيَسْقِينِ بلا شراب، ومجازها: يشبعني ويرويني من غير علاقة، كقول النبي ﷺ‎: «إنّى أبيت يطعمني ربّي ويسقيني» [95] . يدلّ عليه حديث السقاء في عهد النبي ﷺ‎ حيث سمع النبي ﷺ‎ ثلاثة أيام يقرأ وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُها [[سورة هود: 6.]] فرمى بقربته، فأتاه آت في منامه بقدح من شراب الجنّة فسقاه. قال أنس: فعاش بعد ذلك نيّفا وعشرين سنة لم يأكل ولم يشرب على شهوته. وقال علي بن قادم: كان عبد الرّحمن بن أبي نعم لا يأكل في الشهر إلّا مرّة، فبلغ ذلك الحجاج فدعاه وأدخله بيتا وأغلق عليه بابه ثم فتحه بعد خمسة عشر يوما ولم يشكّ أنّه مات فوجده قائما يصلّي فقال: يا فاسق تصلّي بغير وضوء! فقال: إنّما يحتاج الى الوضوء من يأكل ويشرب، وأنا على الطهارة التي أدخلتني عليها هذا البيت. وسمعت أبا القاسم الحسن بن محمد النيسابوري يقول: سمعت أبا نصر منصور بن عبد الله الأصبهاني يقول: سمعت أبا سعيد الخزاز بمكة يقول: كنت بطرسوس جائعا، فاشتدّ بي الجوع فجلست على شاطئ النهر ووضعت رجلي في الماء فنوديت: أضجرت من جوعك؟ هاك شبع الأبد. قال: فعاش بعده سنين لم يشته طعاما ولا شرابا، وكان مع ذلك إذا أراد الاكل والشرب أمكنه. وبلغني أنّ امرأة أسرت من حلب الى الروم في أيام سيف الدولة علي بن حمدان، فهربت منهم ومشت مائتي فرسخ لم تطعم شيئا، فقدمت الى سيف الدولة فقال لها: كيف قويت على المشي وكيف عشت بلا طعام؟ فقالت: كنت كلّما جعت أو أعييت أقرأ قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ ثلاث مرّات فأشبع وأروى وأقوى. وسمعت أبا القاسم؟ يقول: سمعت أبا القاسم النصرآبادي يقول: سمعت أبا بكر الشبلي يقول: في الخبز لطيفة تشبعك لا الخبز، ولو شاء لأبقى فيك تلك اللطيفة حتى لا تحتاج الى الخبز. وقال ذو النون المصري: يطعمني طعام المحبّة ويسقيني شراب المحبّة. ثم أنشأ يقول: شراب المحبّة خير الشراب ... وكلّ شراب سواه سراب وسمعت ابن حبيب يقول: سمعت أبا عبد الله محمد بن عبيد الله الجرجاني يقول: سمعت الحسن بن علوية الدامغاني يقول [[في النسخة الثانية زيادة: قال أبو القاسم هو سمعت أبي يقول: سمعت علي بن محمد الورّاق يقول: سمعت عمّي يقول.]] : سمعت عمّي يقول: سمعت أبا يزيد البسطامي يقول: إنّ لله شرابا يقال له شراب المحبّة ادّخره لأفاضل عباده، فإذا شربوا سكروا، فإذا سكروا طاشوا، فإذا طاشوا طاروا، فإذا طاروا وصلوا، فإذا وصلوا اتصلوا، فهم فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ. وقال الجنيد: يحشر الناس كلّهم عراة إلّا من لبس لباس التقوى، وغراثا إلّا من أكل طعام المعرفة، وعطاشى إلّا من شرب شراب المحبّة. وَإِذا مَرِضْتُ أضاف إبراهيم (عليه السلام) المرض الى نفسه وإن كان من الله سبحانه لأنّ قومه كانوا يعدّونه عيبا فاستعمل حسن الأدب، نظيرها قصة الخضر حيث قال فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَها [[سورة الكهف: 79.]] وقال فَأَرادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغا أَشُدَّهُما [[سورة الكهف: 82.]] . فَهُوَ يَشْفِينِ يبرئني يحكى أنّ أبا بكر الورّاق مرّ بطبيب يعطي الناس الأدوية فوقف عليه وقال: أيفعل دواؤك هذا أمرين؟ قال: وما هما؟ فقال: ردّ قضاء قاض وجرّ شفاء شاف؟ فقال: لا قال: فليس [ذلك بشيء] . وقال جعفر الصادق: إِذا مَرِضْتُ بالذنوب شفاني بالتوبة [[تفسير القرطبي: 13/ 111.]] . سامر بن عبد الله [[في النسخة الثانية: قال أبو عبد الله.]] : إذا أمرضتني مقاساة الخلق شفاني بذكره والأنس به. وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ أدخل هاهنا (ثُمَّ) للقطع والتراخي. قال أهل اللسان والإشارة: يميتني بالعدل ويحييني بالفضل، يميتني بالمعصية ويحييني بالطاعة، يميتني بالفراق ويحييني بالتلاقي، يميتني بالخذلان ويحييني بالتوفيق، يميتني غنى ويحييني به، يميتني بالجهل ويحييني بالعلم. وَالَّذِي أَطْمَعُ أرجو أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ قراءة العامّة بالتوحيد. وأخبرني ابن فنجويه قال: حدّثنا ابن حنش قال: حدّثنا أبا القاسم بن الفضل قال: حدّثنا أبي قال: حدّثنا أحمد بن يزيد قال: حدّثنا روح عن أبي اليقظان قال: حدّثنا الحكم السلمي قال: سمعت الحسن يقرأ «والذي أطمع أن يغفر لي خطاياي يوم الدين» . قال: إنّها لم تكن خطيئة ولكن كانت خطايا. قال مجاهد ومقاتل: هي قوله إِنِّي سَقِيمٌ [[سورة الصافّات: 89.]] وقوله بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ [[سورة الأنبياء: 63.]] وقوله لسارة (هي أختي) زاد الحسن، وقوله للكواكب هذا رَبِّي [[سورة الأنعام: 76- 78.]] . أخبرني الحسين بن محمد بن الحسين قال: حدّثنا أحمد بن إبراهيم بن شاذان قال: حدّثنا عبيد الله بن ثابت الحريري قال: حدّثنا أبو سعيد الأشج قال: حدّثنا أبو خالد عن داود عن الشعبي عن عائشة رضي الله عنها قالت: يا رسول الله إنّ عبد الله بن جدعان كان يقري الضيف ويصل الرحم ويفكّ العاني، فهل ينفعه ذلك؟ قال: لا، لأنّه لم يقل يوما قطّ: اغفر لي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ. وهذا الكلام من إبراهيم (عليه السلام) احتجاج على قومه وإخبار أنّه لا يصلح للإلهية إلّا من فعل هذه الأفعال. رَبِّ هَبْ لِي حُكْماً وهو البيان على الشيء على ما توجبه الحكمة، وقال مقاتل: فهما وعلما، والكلبي: النبوّة. وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ بمن قبلي من النبيين في الدرجة والمنزلة. وقال ابن عباس: بأهل الجنة. وَاجْعَلْ لِي لِسانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ أي ذكرا جميلا وثناء حسنا وقبولا عاما في الأمم التي تجيء بعدي، فأعطاه الله سبحانه وتعالى ذلك، فكلّ أهل الأديان يتولّونه ويبنون عليه. قال القتيبي: ووضع اللسان موضع القول على الاستعارة لأن القول يكنى بها [[تفسير القرطبي: 13/ 113.]] ، والعرب تسمّي اللغة لسانا. وقال أعشى باهلة: إنّي أتتني لسان لا أسرّ بها ... من علو لا عجب منها ولا سخر [[لسان العرب: 4/ 352.]] وَاجْعَلْنِي مِنْ وَرَثَةِ جَنَّةِ النَّعِيمِ وَاغْفِرْ لِأَبِي إِنَّهُ كانَ مِنَ الضَّالِّينَ وقد بيّنا المعنى الذي من أجله استغفر إبراهيم (عليه السلام) لأبيه في سورة التوبة بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع. وَلا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب