الباحث القرآني

وَاللَّهُ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً يعني المطر فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها جدوبها ودروسها إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ بسمع القلوب ولا بسمع الآذان. وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعامِ لَعِبْرَةً لعظة نُسْقِيكُمْ. قرأ أهل المدينة وابن عامر ونافع وعاصم بفتح النون. وقرأ الباقون بضمه. واختاره أبو عبيد قال: لأنه شراب دائم. وحكى عن الكسائي أن العرب تقول: أسقيته نهرا وأسقيته لبنا إذا جعلت له سقيا دائما، فإذا أراد أنهم أعطوه شربة قالوا: سقيناه [[بغير ألف، راجع المصدر السابق: 14/ 172.]] . وقال غيره: هما لغتان يدل عليه قول لبيد في صفة السقاية: سقى قومي بني مجد وأسقى ... نميرا والقبائل من هلال [[الصحاح: 2/ 53.]] فجمع بين اللغتين. مِمَّا فِي بُطُونِهِ ولم يقل بطونها والأنعام جميع، قال المبرد: كناية إلى النعم والنعم والأنعام واحد ولفظ النعم، واستشهد لذلك برجز بعض الأعراب. إذا رأيت أنجما من الأسد ... جبهته أو الخراة والكند بال سهيل في الفضيح ففسد ... وطاب ألبان اللقاح فبرد [[لسان العرب: 2/ 29، تفسير الطبري: 14/ 173.]] ولم يقل فبردت لأنه رد إلى [اللبن أو الخراة] [[هكذا في الأصل.]] . قال أبو عبيدة والأخفش: النعم يذكر ويؤنث فمن أنّث فلمعنى الجمع، ومن ذكر فلحكم اللفظ، ولأنه لا واحد له من لفظه. وقال الشاعر يذكره: أكل عام نعم تحوونه ... يلقحه قوم وتنتجونه إن له نخيل فلا يحمونه [[المصدر السابق ولسان العرب: 12/ 585، دون ذكر البيت الثاني.]] . وقال الكسائي: ردّ الكناية إلى المراد في بطون ما ذكر. وقال بعضهم: أراد بطون هذا الشيء، كقول الله: فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بازِغَةً قالَ هذا رَبِّي [[سورة الأنعام: 78.]] وقوله: وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ بِهَدِيَّةٍ [[سورة النمل: 35.]] الآية فَلَمَّا جاءَ سُلَيْمانَ [[سورة النمل: 36.]] ولم يقل: جاءت. وقال: الصلتان العبدي. إن السماحة والمروة ضمّنا ... قبرا بمرو على الطريق الواضح [[تفسير الطبري: 14/ 174.]] وقال الآخر: وعفراء أدنى الناس مني مودة ... وعفراء عني المعرض المتواني [[تاريخ دمشق: 40/ 220.]] وقال الآخر: إذا الناس ناس والبلاد بغبطة ... وإذ أم عمّار صديق مساعف [[تفسير الطبري: 14/ 175.]] كل ذلك على معنى هذا الشخص وهذا الشيء. وقال المؤرج: الكناية مردودة إلى البعض والجزء، كأنه قال: نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهِ اللبن، إذ ليس لكلّها لبن وإنما يسقى من ذوات اللبن، فاللبن فيه مضمر. مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وهو ما في الكرش فإذا أخرج منه لا يسمى فرثا وَدَمٍ لَبَناً خالِصاً خلص من الفرث والدم ولم يختلط بهما سائِغاً لِلشَّارِبِينَ جاهزا هنيئا يجرى في الحلق ولا يغص شاربه، وقيل: إنه لم يغص أحد باللبن قط. قال ابن عبّاس: إذا أكلت الدابة العلف واستقرّ في كرشها لحينه، وكان أسفله فرث وأوسطه لبن وأعلاه دم الكبد [فما كان] على هذه الأصناف الثلاثة يقسم فيجري الدم في العروق، ويجري اللبن في الضرع، ويبقى الفرث كما هو. وَمِنْ ثَمَراتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنابِ يعني ذلكم أيضا عبرة فيما نسقيكم ونرزقكم من ثمرات النخيل والأعناب تَتَّخِذُونَ مِنْهُ الكناية في قوله: مِنْهُ عائدة إلى المذكورين. سَكَراً وَرِزْقاً حَسَناً. قال قوم: السكر: الخمر، والرزق الحسن: الخل والعنب والتمر والزبيب، قالوا: وهذا قول تحريم الخمر، وإلى هذا القول ذهب ابن مسعود وابن عمرو وسعيد بن جبير وأيوب وإبراهيم والحسن ومجاهد وعبد الرحمن بن أبي ليلى والكلبي، وهي رواية عمرو بن سفيان البصري عن ابن عبّاس قال: السكر: ما حرم من ثمرتها، والرزق الحسن: ما حل من ثمرتهما. أما السكر فخمور هذه الأعاجم، وأما الرزق الحسن فما تنتبذون وما تخلّلون وما تأكلون. قال: ونزلت هذه الآية ولم يحرم الخمر يومئذ، وإنما نزل تحريمها بعد ذلك في سورة المائدة. وقال الشعبي: السكر: ما شربت، والرزق الحسن: ما أكلت. وروى العوفي عن ابن عبّاس: أن الحبشة يسمّون الخل السكر. وقال بعضهم: السكر: النبيذ المسكر وهو نقيع التمر والزبيب إذا اشتد، والمطبوخ من العصير وهو قول الضحاك والشعبي برواية مجالد وأبي روق وقول النخعي ورواية الوالبي عن ابن عبّاس، وقيل: هو نبيذ التمر. قال النبي ﷺ‎: «الخمر ما اتخذ من العنب، والسكر من التمر، والبتع من العسل، والمزر من الذرة [والبيرا] [[كذا في المخطوط وهي غير موجودة في المصدر.]] من الحنطة، وأنا أنهاكم عن كل مسكر» [6] [[مسند أبي يعلي: 13/ 216 بتفاوت.]] . وقال أبو عبيدة: السكر: الطعم، يقال: هذا سكر لك، أي طعم لك. وأنشد: جعلت عيب الأكرمين سكرا [[جامع البيان للطبري: 14/ 182.]] إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ وَأَوْحى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أي ألقى [على مسامعها] أو قذف في أنفسها ففهمته، والنحل: زنابير العسل، وأحدها نحلة أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ يبنون، وقال ابن زيد: هو الكرم. ثُمَّ كُلِي مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ ليس معنى الكل العموم وهو كقوله: وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ [[سورة النمل: 23.]] وقوله: تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّها [[سورة الأحقاف: 25.]] . فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ فادخلي طرق ربك ذُلُلًا. قال بعضهم: الذلل يعني الطرق، ويقول هي مذللة للنحل. قال مجاهد: [لا يتوعر عليها مكان سلكته] . قال آخرون: الذلل نعت [النحل] [[في تفسير الطبري (14/ 184) : نعت السبل، ونسبه لمجاهد ثم ذكر على قول: الذلل من نعت النحل، وصوّب الأول]] . قال قتادة وغيره: يعني مطيعة منقادة. يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِها شَرابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُهُ أبيض وأحمر وأصفر فِيهِ شِفاءٌ لِلنَّاسِ. يروى أن رجلا أتى النبي ﷺ‎ فقال: إن أخي يشتكي بطنه، فقال: «اسقه عسلا» فذهب ثمّ رجع فقال: سقيته فلم يغن عنه شيئا. فقال عليه الصلاة والسلام: «اذهب واسقه عسلا فقد صدق الله وكذب بطن أخيك» [7] [[صحيح مسلم: 7/ 26 وسنن الترمذي: 3/ 276.]] فسقاه فكأنما نشط من عقال، [رواه] عطية عن أبي المتوكل عن أبي سعيد الخدري. وقال مجاهد: فِيهِ شِفاءٌ لِلنَّاسِ أي في القرآن. والقول الأوّل أولى بالصواب وأليق بظاهر الكتاب. روى وكيع عن سفيان عن أبي إسحاق عن أبي الأحوص عن عبد الله قال: العسل شفاء من كل داء، والقرآن شفاء ما فِي الصُّدُورِ. الأعمش عن خيثم عن الأسود قال: قال عبد الله: عليكم بالشفائين: العسل والقرآن. إِنَّ فِي ذلِكَ أي فيما ذكرنا لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ فيعتبرون وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ ثُمَّ يَتَوَفَّاكُمْ صبيانا وشبابا وكهولا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلى أَرْذَلِ الْعُمُرِ أي أردؤه، يقال منه: (ذل الرجل وفسل، يرذل رذالة ورذولة ورذلته أنا) [[تفسير الطبري: 14/ 186.]] . قال ابن عبّاس: يعني إلى أسفل العمر. مقاتل: وابن زيد: يعني الهرم. قتادة: أرذل العمر سبعون سنة. وروى الأصبغ بن نباتة عن علي (رضي الله عنه) قال: أرذل العمر خمس وسبعون سنة. لِكَيْ لا يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ شَيْئاً أي لا يعقل من بعد عقله الأوّل شيئا. إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ قَدِيرٌ نظيرها في سورة الحج [[سورة الحج: 5.]] . وَاللَّهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلى بَعْضٍ فِي الرِّزْقِ فَمَا الَّذِينَ فُضِّلُوا في الرزق بِرَادِّي رِزْقِهِمْ عَلى ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ من العبيد حتّى يستووا هم وعبيدهم في ذلك، يقول الله جل ثناؤه: فهم لا يرضون أن يكونوا هم ومماليكهم فيما رزقناهم سواء وقد جعلوا عبيدي شركائي في ملكي وسلطاني. يلزم بهذا المثل الحجة على المشركين، وهذا مثل ضربه الله عزّ وجل، فما منكم من يشرك مملوكه في زوجته وقرابته وماله أفتعدلون بالله خلقه وعباده، فإن لم ترض لنفسك هذا فالله أحق أن ينزه من ذلك ولا تعدل به أحدا من عباده وخلقه [[انظر: تفسير الطبري: 14/ 188.]] . عبد الله بن عبّاس: نزلت هذه الآية في نصارى نجران حين قالوا: عيسى ابن الله، يقول: لا يرد المولى على ما ملكت يمينه مما رزق حتّى يكون [المولى والملوك] في المنال شرعا سواء فكيف ترضون لي ما لا ترضون لأنفسكم نظيرها في سورة الروم ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلًا مِنْ أَنْفُسِكُمْ [[سورة الروم: 28.]] [مثلا تعاينه] . قال أَفَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ بالاشراك به. قرأ عاصم: بالتاء على الخطاب، لقوله: وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَاللَّهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلى بَعْضٍ. وقرأ الباقون: بالياء لقوله: فَهُمْ فِيهِ سَواءٌ [[سورة النحل: 71.]] واختاره أبو عبيد وأبو حاتم: لقرب المخبر منه. وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً يعني أنه خلق من آدم زوجته حوّاء وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَزْواجِكُمْ بَنِينَ وَحَفَدَةً. ابن عبّاس والنخعي وابن جبير وأبو الأضحى: هم الأصهار أختان الرجل على بناته. روى شعبة عن عاصم: بن بهدلة قال: سمعت زر بن حبيش وكان رجلا غريبا أدرك الجاهلية قال: كنت أمسك على عبد الله المصحف فأتى على هذه الآية قال: هل تدري ما الحفدة، قلت: هم حشم الرجل. قال عبد الله: لا، ولكنهم الأختان. وهذه رواية الوالبي عن ابن عبّاس. وقال عكرمة والحسن والضحاك: هم الخدم. مجاهد وأبو مالك الأنصاري: هم الأعوان، وهي رواية أبي حمزة عن ابن عبّاس قال: من أعانك حفدك. وقال الشاعر: حفد الولائد حولهن وأسلمت ... بأكفهنّ أزمّة الإجمال [[لسان العرب: 3/ 153 وتفسير الطبري: 14/ 190.]] وقال عطاء: هم ولد الرجل يعينونه ويحفدونه ويرفدونه ويخدمونه. وقال قتادة: [مهنة يمتهنونكم] ويخدمونكم من أولادكم. الكلبي ومقاتل: البنين: الصغار، والحفدة: كبار الأولاد الذين يعينونه على عمله. مجاهد وسعيد بن جبير عن ابن عبّاس: إنهم ولد الولد. ابن زيد: هم بنو المرأة من الزوج الأوّل. وهي رواية العوفي عن ابن عبّاس: هم بنو امرأة الرجل الأوّل. وقال العتبي: أصل الحفد: مداركة الخطر والإسراع في المشي. فقيل: لكل من أسرع في الخدمة والعمل: حفدة، واحدهم حافد، ومنه يقال في دعاء الوتر: إليك نسعى ونحفد، أي نسرع إلى العمل بطاعتك. وأنشد ابن جرير [للراعي] : كلفت مجهولها نوقا يمانية ... إذا الحداة على أكسائها حفدوا [[تفسير الطبري: 14/ 193، لسان العرب: 1/ 138.]] وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ أَفَبِالْباطِلِ يُؤْمِنُونَ. قال ابن عبّاس: بالأصنام. وَبِنِعْمَتِ اللَّهِ هُمْ يَكْفُرُونَ يعني التوحيد الباطل فالشيطان أمرهم بنحر البحيرة والسائبة والوصيلة والحام وَبِنِعْمَتِ اللَّهِ بما أحلّ الله لهم هُمْ يَكْفُرُونَ يجحدون تحليله. وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَمْلِكُ لَهُمْ رِزْقاً مِنَ السَّماواتِ يعني المطر وَالْأَرْضِ يعني النبات. شَيْئاً، قال الأخفش: هو بدل من الرزق وهو في معنى: ما لا يملكون من الرزق شيئا قليلا ولا كثيرا. قال الفراء: نصب (شَيْئاً) بوقوع الرزق عليه. كما قال سبحانه: أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ كِفاتاً أَحْياءً وَأَمْواتاً [[سورة المرسلات: 25- 26.]] أي يكفت الأحياء والأموات. ومثله قوله تعالى: أَوْ إِطْعامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ يَتِيماً ذا مَقْرَبَةٍ [[سورة البلد: 14- 15.]] . وَلا يَسْتَطِيعُونَ ولا يقدرون على شيء، فَلا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثالَ يعني الأشباه والأشكال فيشبهوه بخلقه ويجعلون له شريكا فإنه واحد لا مثيل له إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ خطأ ما يضربون له من الأمثال وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ صواب ذلك من خطأه.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب