الباحث القرآني

وَلَقَدْ آتَيْناكَ سَبْعاً مِنَ الْمَثانِي اختلفوا فيه. روى عبد الوهاب عن ابن مسعود عن أبي نصر عن رجل من عبد القيس يقال له جابر أو جويبر عن ابن مسعود أن عمر قال: السبع المثاني هي فاتحة الكتاب. روى إسماعيل السدي عن عبد خير عن علي (رضي الله عنه) وَلَقَدْ آتَيْناكَ سَبْعاً مِنَ الْمَثانِي قال: فاتحة الكتاب [179] . عن ابن سيرين أن ابن مسعود قال في السبع المثاني: فاتحة الكتاب، وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ سائر القرآن. وعن عبد الرحمن عن أحمد الطابقي قال: أتيت أبا هريرة وهو في المسجد فقرأت عليه فاتحة القرآن. فقال أبو هريرة: هذه السبع المثاني. شعبة عن قتادة في قوله: وَلَقَدْ آتَيْناكَ سَبْعاً مِنَ الْمَثانِي، قال: هي فاتحة الكتاب. وسمعت الكلبي يقول: هي أمّ الكتاب. ابن جريج عن عطاء في قوله تعالى سَبْعاً مِنَ الْمَثانِي قال: هي أم القرآن والآية السابعة بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ. وهذا قول الحسن وأبي العالية وسعيد بن جبير وإبراهيم وابن أبي مليكة وعبد الله بن عبيد ابن عمرو ومجاهد والضحاك والربيع بن أنس وصالح الحنفي قاضي مرو. ويدل عليه ما روى أبو سعيد المقبري عن أبي هريرة قال: قال رسول الله ﷺ‎: «الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ سبع آيات إحداهن بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ وهي السبع المثاني وهي أم القرآن وهي فاتحة الكتاب» [180] [[تفسير الطبري: 1/ 73.]] . وروى ابن أبي ذئب عن سعيد المقبري عن أبي هريرة عن النبي ﷺ‎ قال: «الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ هي السبع المثاني والقرآن العظيم» [181] . وروى حفص بن عاصم عن أبي سعيد المعلّى عن أبيّ بن كعب قال: كنت أصلي فناداني رسول الله ﷺ‎ فلم أجبه، فلمّا صلّيت أتيته، فقال: «ما منعك أن تجيبني» ؟ قلت: كنت أصلي، قال: «أو لم يقل الله: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ [[سورة الأنفال: 24.]] [182] الآية. ثمّ قال: «لأعلمنك أعظم سورة في القرآن قبل أن نخرج من المسجد» فأخذ بيدي فلما أراد أن يخرج من المسجد قلت: يا رسول الله إنك قلت لأعلمنك أعظم سورة في القرآن. قال: «نعم، الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ هي السبع المثاني والقرآن العظيم الذي أوتيت» [[مسند أبي داود الطيالسي: 178 والسنن الكبرى: 6/ 375.]] . وعن أبي هريرة قال: قرأ أبي بن كعب على رسول الله ﷺ‎ أمّ القرآن. فقال: «والذي نفسي بيده ما أنزل الله في التوراة ولا في الإنجيل ولا في الزبور ولا في القرآن مثلها، إنها السبع المثاني والقرآن العظيم الذي أوتيت» [183] [[المصدر السابق.]] . عن ابن جريج قال: أخبرني أبي أنّ سعيد بن جبير أخبره فقال له: وَلَقَدْ آتَيْناكَ سَبْعاً مِنَ الْمَثانِي، قال: هي أم القرآن، قال: هي، وقرأ عليّ سعيد بن جبير بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ حتّى ختمها، ثمّ قال: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الآية السابعة. قال سعيد بن جبير: لأبي: وقرأ عليّ ابن عبّاس كما قرأتها عليك، ثمّ قال: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ الآية السابعة: قال ابن عبّاس: قد ادخرها الله لكم فما أخرجها لأحد قبلكم. فقلت: هذه إختيار الصحاح إن السبع المثاني هي فاتحة الكتاب، وأن الله تعالى امتن على رسوله ﷺ‎ بهذه السورة كما امتن عليه بجميع القرآن، وقيل: نزلت هذه السورة في [خيبر] . وفي هذا دليل على إن الصلاة لا تجوز إلّا بها ويؤيد ما قلنا ما روى الزهري عن محمّد بن الربيع عن عبادة بن الصامت قال: قال رسول الله ﷺ‎: «فاتحة الكتاب عوض من كل القرآن، والقرآن كلّه ليس منه عوض» [184] . واختلف العلماء في حديث آيات هذه السورة مثاني، فقال ابن عبّاس والحسن وقتادة والربيع: لأنها تثنى في كل صلاة وفي كل ركعة. وقال بعضهم: سمّيت مثاني لأنها مقسومة بين الله وبين العبد قسمين اثنين، بيانه والذي يدل عليه ما روى أبو السائب مولى هشام بن زهرة عن أبي هريرة قال: قال رسول الله ﷺ‎: «من صلى صلاة لم يقرأ فيها بأم القرآن فهي خداج هي خداج غير تمام» [185] [[مسند أحمد: 2/ 285.]] . قال أبو السائب لأبي هريرة: إني أحيانا أكون وراء الامام. قال: فغمز أبو هريرة ذراعي، وقال: يا فارسي اقرأها في نفسك إني سمعت رسول الله ﷺ‎ يقول: «قال الله قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين فنصفها لي، ونصفها لعبدي، ولعبدي ما سأل» . وقال رسول الله ﷺ‎: «اقرؤا، يقول: العبد: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ، فيقول الله: حمدني عبدي، ويقول العبد: الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ، فيقول الله: أثنى عليّ عبدي، فيقول العبد: مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ، فيقول الله: مجّدني عبدي، يقول العبد: إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ، قال: هذه الآية بيني وبين عبدي، يقول العبد: اهْدِنَا الصِّراطَ إلى آخره، يقول الله: فهذا لعبدي ولعبدي ما سأل» [186] [[الدرّ المنثور: 1/ 6، الجامع الصغير: 2/ 237.]] . ويقال: سمّيت (مثاني) لأنها منقسمة إلى قسمين: نصفها ثناء ونصفها دعاء، ونصفها حق الربوبية ونصفها حق العبودية، وقيل: لأن ملائكة السماوات يصلّون الصلوات بها، كما أن أهل الأرض يصلّون بها. وقيل: لأن حروفها وكلماتها مثنّاة، ومثل الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ، إِيَّاكَ وإِيَّاكَ، الصِّراطَ ... صِراطَ، عَلَيْهِمْ ... عَلَيْهِمْ، غَيْرِ ... غير، في قراءة عمر. وقال الحسين بن الفضل وغيره: لأنها تقرأ مرّتين كل مرّة معها سبعون ألف ملك، مره بمكة من أوائل ما نزل من القرآن، ومرة بالمدينة، والسبب هو أن سبع قوافل وافت من بصرى وأذرعات ليهود بني قريضة والنضير في يوم واحد وفيها أنواع من البز وأوعية [وأفاوية] الطيب والجواهر وأمتعة البحر، فقال المسلمون: لو كانت هذه الأموال لنا لتقوينا بها ولأنفقناها في سبيل الله فأنزل الله تعالى هذه السورة [[أسباب النزول للواحدي: 187.]] . وقال: لقد أعطيتكم سبع آيات هي خير لكم من هذه السبع القوافل، ودليل هذه التأويل قوله في عقبها: وَلا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ الآية. وقيل: لأنها متصدرة بالحمد، والحمد كل كلمة تكلم بها آدم حين عطس وهي آخر كلام أهل الجنة من ذريته، قال الله: وَآخِرُ دَعْواهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ [[سورة يونس: 10.]] . وقيل: لأن الله استثناها وادّخرها لهذه الأمة فما أعطاها غيرهم، كما روينا في خبر سعيد ابن جبير عن ابن عبّاس. وقال أبو زيد اللخمي: لأنها تثني أهل الدعارة والشرارة عن الفسق والبطالة من قول العرب ثنيت عنائي، قال الله: أَلا إِنَّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ [[سورة هود: 5.]] . وقيل: لأن أولها ثناء على الله عزّ وجلّ. وقال قوم: إن السبع المثاني هو السبع الطوال، وهي: سورة البقرة، وآل عمران، والنساء، والمائدة، والأنعام، والأعراف، والأنفال، والتوبة معا. وقال بعضهم: يونس، وعليه أكثر المفسرين. روى سفيان عن منصور عن مجاهد عن ابن عبّاس في قوله تعالى: وَلَقَدْ آتَيْناكَ سَبْعاً مِنَ الْمَثانِي، قال: السبع الطوال. سعيد بن جبير عن ابن عبّاس في قوله تعالى: وَلَقَدْ آتَيْناكَ سَبْعاً مِنَ الْمَثانِي قال: هو السبع الطوال. وهو قول عمر، ورواية أبي بشر وجعفر بن المغيرة ومسلم البطين عن سعيد بن جبير، ورواية ليث وابن أبي نجيح عن مجاهد، ورواية عبيد بن سليمان عن الضحاك. يدل عليه ما روى أبو أسماء الرحبي عن ثوبان أن رسول الله ﷺ‎ قال: «إن الله أعطاني السبع الطوال مكان التوراة، وأعطاني المبين مكان الإنجيل، وأعطاني الطواسين مكان الزبور وفضلني ربي بالمفصّل» [187] [[تفسير القرطبي: 13/ 87 وفيه: وفضلني بالحواميم والمفصل ما قرأهنّ نبي قبلي.]] . وروى الأعمش عن مسلم البطين عن سعيد بن جبير عن ابن عبّاس قال: أوتي رسول الله ﷺ‎ السبع المثاني الطوال، وأعطي موسى ستا فلما ألقى الألواح رفعت اثنان وبقي أربع. روى عروة عن عائشة أن النبي ﷺ‎ قال: «من أخذ السبع الأول فهو حبر» [188] [[مسند أحمد: 6/ 82.]] . قال ابن عبّاس: وإنما سميت السبع الطوال مثاني لأن الفرائض والحدود والأمثال والخبر والعبر تثبت فيه. طاوس وأبو مالك: القرآن كلّه مثاني، وهي رواية العوفي عن ابن عبّاس قال: ألم تسمع إلى قول الله تعالى: اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتاباً مُتَشابِهاً مَثانِيَ [[سورة الزمر: 23.]] وسمّي القرآن مثاني لأن القصص ثبتت فيه. وعلى هذا القول المراد بالسبع سبعة أسباع القرآن. ويكون فيه إضمار تقديره: وهي للقرآن العظيم. فاحتج بقول الشاعر: الى الملك القرم وابن الهمام ... وليث الكتيبة في المزدحم [[تفسير الطبري: 2/ 137، تفسير القرطبي: 1/ 385.]] مجازة: الملك القرم ابن الهمام ليث الكتيبة في المزدحم. وروى عتاب بن بشر عن حنيف عن زياد بن أبي مريم في قوله: سَبْعاً مِنَ الْمَثانِي قال: أعطيتك سبعة أجزاء وهي سبع معان في القرآن: مرّ، وانه، وبشّر، وأنذر، واضرب الأمثال وأعدد النعم، وآتيتك نبأ القرآن [[تفسير الطبري: 14/ 76.]] . لا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ يا محمّد إِلى ما مَتَّعْنا بِهِ أَزْواجاً أصنافا مِنْهُمْ من الكفار متمنيا إياها. نهى رسوله عن الرغبة في الدنيا. وقال أنس: مرّت برسول الله ﷺ‎ إبل أيام الربيع وقد حبست في أبعارها وأبوالها. فغطى رسول الله ﷺ‎ عينه بكمّه وقال: «بهذا أمرني ربي» [189] ثمّ تلا هذه الآية. وَاخْفِضْ جَناحَكَ ليّن جانبك لِلْمُؤْمِنِينَ وارفق بهم. والجناحان من ابن آدم جانباه، ومنه قوله: وَاضْمُمْ يَدَكَ إِلى جَناحِكَ أي جنبك وناحيتك. وَقُلْ إِنِّي أَنَا النَّذِيرُ الْمُبِينُ كَما أَنْزَلْنا، قال الفراء: مجازه: أنذركم عذابا عَلَى الْمُقْتَسِمِينَ. فأختلفوا فيهم. فروى الأعمش عن أبي ظبيان قال: سمعت ابن عبّاس يقول في قوله: كَما أَنْزَلْنا عَلَى الْمُقْتَسِمِينَ، قال: هم اليهود والنصارى. الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ جزّءوه فجعلوه أعضاء فآمنوا ببعضه وكفروا ببعضه. وقال عكرمة: سمّوا مقتسمين لأنّهم كانوا يستهزؤن فيقول بعضهم: هذه السورة لي. وقال بعضهم: هذه لي، فيقول أحدهم: لي سورة البقرة، ويقول الآخر: لي سورة آل عمران. وقال مجاهد: هم اليهود والنصارى، قسّموا كتابهم ففرّقوه وبدّدوه. وقال مقاتل: كانوا ستة عشر رجلا بعثهم الوليد بن المغيرة أيام الموسم فاقتسموا عقاب مكة وطرقها وقعدوا على أبوابها وأنقابها وإذا جاء الحجاج، قال فريق منهم: لا تغتروا بخارج منّا يدعي النبوة فإنه مجنون. وقالت طائفة أخرى: على طريق آخر أنه كاهن. وقالت طائفة: عرّاف. وقالت طائفة شاعر، والوليد قاعد على باب المسجد نصبوه حكما، فإذا سئل عن رسول الله ﷺ‎ قال: صدق لوليك المقتسمين. وقال مقاتل بن حيان: هم قوم اقتسموا القرآن، فقال بعضهم: سحر، وقال بعضهم: سمر، وقال بعضهم: كذب. وقال بعضهم: شعر، وقال بعضهم: أساطير الأولين. وقال بعضهم: هم الذين تقاسموا صالح وأرادوا تبييته. وقرأ قول الله: وَكانَ فِي الْمَدِينَةِ تِسْعَةُ رَهْطٍ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلا يُصْلِحُونَ قالُوا تَقاسَمُوا بِاللَّهِ [[سورة النمل: 48. 49.]] الآية. الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ يعني عضوا كتاب الله ونبيه وأمره ونهيه أي كذبوا. وقوله: عِضِينَ، قال بعضهم: هو جمع عضو وهو مأخوذ من قولهم عضيت يعضيه إذا فرّقته. وقال رؤبة: وليس دين الله بالمعضى [[تفسير الطبري: 14/ 306.]] يعني: بالمفرّق. وقال آخر: وعضى بني عوف، فأما عدوهم ... فأرضي وأمّا العز منهم فغيرا [[تفسير الطبري: 14/ 87.]] يعني بقوله عضّني بني عوف: سبّاهم وقطعهم بلسانه. وقال آخرون: بل هو جمع عضة، يقال: عضه وعضين. مثل يره ويرين، وكرة وكرين، وقلة وقلين، وعزة وعزين، وأصله عضهه ذهبت هاؤها الأصلية كما نقصوا الهاء من الشفة وأصلها شفهه ومن الشاة وأصلها شاهه يدلك على ذلك التصغير تقول: شفيهة وغويهة، ومعنى العضة: الكذب والبهتان، وفي الحديث: «لا يعضه بعضكم بعضا» [[مسند أبي داود الطيالسي: 79، الجامع الصغير: 2/ 757، ح 9974.]] . فَوَ رَبِّكَ لَنَسْئَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ يوم القيامة عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ في الدنيا. وروى أنس عن النبي ﷺ‎ في هذه الآية قال: «عن لا إله إلّا الله» [[مسند أبي يعلي: 7/ 112.]] . قال عبد الله: والذي لا إله غيره ما منكم من أحد إلّا سيخلو الله تعالى به يوم القيامة، [كما يخلو أحدكم بالقمر ليلة البدر] فيقول: يا ابن آدم ماذا غرك مني، يا ابن آدم ما عملت فيما علمت، يا ابن آدم ماذا أجبت المرسلين [[انظر: تفسير الطبري: 14/ 90، وتفسير القرطبي: 2/ 579.]] . واعترضت الملحدة بأبصار كليلة وأفهام عليلة على هذه الآية على قوله: فَيَوْمَئِذٍ لا يُسْئَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلا جَانٌّ [[سورة الرحمن: 39.]] وحكموا عليهما بالتناقض. والجواب عنه: ما روي عن علي بن أبي طلحة عن ابن عبّاس في قوله: لَنَسْئَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ وقوله: فَيَوْمَئِذٍ لا يُسْئَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلا جَانٌّ [[سورة الرحمن: 39.]] . قال: لا نسألهم هل عملتم كذا وكذا، لأنه أعلم بذلك منهم، ولكن يقول لهم: لم عملتم كذا وكذا؟ واعتمد قطرب هذا القول، وقال: السؤال على ضربين: سؤال استعلام واستخبار، وسؤال توبيخ وتقرير. فقوله: فَيَوْمَئِذٍ لا يُسْئَلُ عَنْ ذَنْبِهِ يعني استعلاما واستخبارا، لأنه كان عالما بهم قبل أن يخلقهم. وقوله: لَنَسْئَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ يعني تقريعا وتقريرا ليريهم القدرة في تعذيبنا إياهم. وقال عكرمة: سألت مولاي عبد الله بن عبّاس عن الآيتين، فقال: إن يوم القيامة يوم طويل وفيه مواقف، يسألون في بعض المواقف ولا يسألون في بعضها. ونظيره قوله: هذا يَوْمُ لا يَنْطِقُونَ [[سورة الأنفال: 48.]] وقال في آية أخرى: ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ [[سورة الزمر: 31.]] . وقال بعضهم: فَيَوْمَئِذٍ لا يُسْئَلُ إذا كان المذنب مكرها مضطرا، ولَنَسْئَلَنَّهُمْ إذا كانوا مختارين، وقيل: لا يسأل إذا كان الذنب في حال الصبى أو الجنون أو النوم، بيانه قوله ﷺ‎: «رفع القلم عن ثلاث» [[مسند أحمد: 1/ 116.]] [190] وقولهم: لَنَسْئَلَنَّهُمْ، إذا كان عملهم خارجا من هذه الأحوال، وقيل: لا يسأل إذا كان الذنب في حال الكفر. وقوله: لَنَسْئَلَنَّهُمْ يعني المؤمنين، بيانه قوله: قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ ما قَدْ سَلَفَ [[سورة الأنفال: 48.]] وقوله ﷺ‎: «إن الإسلام يجبّ ما قبله» [191] [[مجمع الزوائد: 9/ 351.]] . فَاصْدَعْ. قال ابن عبّاس: أظهر. الوالبي عنه: فاقض. عطية عنه: افعل. الضحاك: اعلم، الأخفش: افرق، المؤرّج: افصل، سيبويه: اقض. بِما تُؤْمَرُ يعني بأمرنا (ما) المصدر. وأصل الصدع: الفصل والفرق. قال ذؤيب يصف الحمار والأتن: وكأنهن ربابة وكأنه ... يسر يفيض على القداح ويصدع [[تفسير القرطبي: 10/ 61، ولسان العرب: 1/ 406.]] [وقيل] : أمر رسول الله ﷺ‎ بإظهار الدعوة. روى موسى عن عبيدة عن أخيه عبد الله بن عبيدة قال: ما زال النبي ﷺ‎ مستخفيا حتّى نزلت فَاصْدَعْ بِما تُؤْمَرُ فخرج هو وأصحابه. وقال مجاهد: أراد الجهر بالقرآن في الصلاة. وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ لا تبال بهم إِنَّا كَفَيْناكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ. يقول الله جل ثناؤه لنبيه ﷺ‎ فَاصْدَعْ بأمر الله ولا تخف شيئا سوى الله فإن الله كافيك من عاداك وآذاك كما كفاك المستهزئين وهم من قريش ورؤسائهم خمسة نفر: الوليد بن المغيرة، وعبد الله بن عمرو بن مخزوم وكان رأسهم، والعاص بن وائل بن هشام بن سعيد بن سعيد بن سهم، والأسود بن المطلب بن الحرث بن [أسد] بن عبد العزى أبو زمعة- وكان رسول الله ﷺ‎ قد دعا عليه فقال: «اللهم أعم بصره وأثكله بولده» [192] [[جامع البيان للطبري: 14/ 94.]] - والأسود بن عبد يغوث بن وهب ابن عبد مناف بن زهرة، والحرث بن قيس بن الطلاطلة فإنه عيطل. فأتى جبرئيل محمدا ﷺ‎ والمستهزئون يطوفون بالبيت، فقام جبرئيل وقام رسول الله ﷺ‎ إلى جنبه فمرّ به الوليد بن المغيرة، فقال جبرئيل: يا محمّد كيف تجد هذا، قال: بئس عبد الله. قال: «قد كفيت» [[زاد المسير: 4/ 309.]] [193] وأومأ إلى ساقه ويده، فمرّ برجل من خزاعة [نبّال] يريّش نبلا له وعليه برد يمان وهو يجر إزاره فتعلقت شظيّة من نبل بإزاره فمنعه الكبر أن يطمئن ونبذ عمامته وجعلت تضرب ساقه فخدشته فمرض منه ومات. وقال الكلبي: تعلّق سهم بثوبه فأصاب أكحله فقطعه فمات. ومرّ به العاص بن وائل، فقال جبرئيل: كيف تجد هذا يا محمّد؟ قال: «بئس عبد الله» ، فأشار جبرئيل لأخمص رجله وقال: «قد كفيت» وقد خرج على راحلته ومعه اثنان يمنعانه فنزل شعبا من تلك الشعاب فوطئ على شرقة فدخلت منها شوكة في أخمص رجله، فقال: الوقت لدغت. فطلبوا ولم يجدوا شيئا فانتفخت رجله حتّى صارت مثل عنق بعير فمات مكانه. ومرّ به الأسود بن عبد المطلب، فقال جبرئيل: كيف تجد هذا يا محمّد؟ قال: «عبد سوء» فأشار إلى عينه، وقال: «قد كفيت» فعمى [194] [[مجمع البيان: 6/ 133.]] . قال ابن عبّاس: رماه جبرئيل بورقة خضراء فذهب بصره ووجعت عينه، فجعل يضرب برأسه الجدار حتّى هلك. وفي رواية الكلبي: أتاه جبرئيل وهو قاعد في ظل شجرة ومعه غلام له فجعل ينطح رأسه بالشجرة ويضرب وجهه بالشوك واستغاث بغلامه، فقال غلامه: لا أرى أحدا يصنع بك شيئا غير نفسك حتّى مات وهو يقول: قتلني ربّ محمّد. ومرّ به الأسود بن عبد يغوث فقال جبرئيل: كيف تجد هذا؟ فقال: «بئس عبد الله، على أنه خالي» ، فقال: قد كفيت، وأشار إلى بطنه فشقّ بطنه فمات حينها [[تفسير الطبري: 14/ 97 بتفصيل وتفاوت.]] . وفي رواية الكلبي: أنه خرج من أهله فأصابه السموم فاسودّ حتّى عاد حبشيا فأتى أهله فلم يعرفوه فأغلقوا دونه الباب وهو يقول: قتلني ربّ محمّد. ومرّ به الحرث بن قيس، فقال جبرئيل (عليه السلام) : يا محمّد كيف تجد هذا؟ قال: «عبد سوء» فأومأ إلى رأسه وقال: قد كفيت، فأمتخط قيحا فقتله. وقال ابن عبّاس: إنه أكل حوتا مالحا فأصابه العطش فلم يزل يشرب عليه من الماء حتّى اتّقد بطنه فمات، فذلك قوله تعالى: إِنَّا كَفَيْناكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ يعنى بك وبالقرآن. الَّذِينَ يَجْعَلُونَ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ وعيدهم وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِما يَقُولُونَ فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ. قال ابن عبّاس: فصلّ يا محمّد لربك. وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ المتواضعين. وقال الضحاك: فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قال سبحان الله وبحمده وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ أي المصلين. ويروى أن رسول الله ﷺ‎ كان إذا حزنه أمر فزع إلى الصلاة. وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ يعني الموت، ومجازه: الموفق به. روى يونس بن زيد عن ابن شهاب: أن خارجة بن زيد بن ثابت أخبره عن أم العلاء- امرأة من الأنصار قد بايعت النبي ﷺ‎- أخبرته أنهم اقتسموا المهاجرين قرعة قالت: فصار لنا عثمان ابن مظعون فأنزلناه في أبياتنا فوجع وجعه الذي مات فيه، فلما توفي وغسّل وكفّن في ثوبه دخل رسول الله ﷺ‎ فقلت: يا عثمان بن مظعون رحمة الله عليك أبا السائب فشهادتي عليك لقد أكرمك الله. فقال رسول الله ﷺ‎: «وما يدريك أن الله أكرمه» قالت: فقلت: بأبي أنت يا رسول الله فمه؟ فقال رسول الله ﷺ‎: «أمّا هو فقد جاءه اليقين وو الله إني لأرجو له الخير» [[تفسير الطبري: 14/ 101، المستدرك: 1/ 379.]] . قالوا: فلما نزلت هذه الآية قال رسول الله ﷺ‎: «ما أوحي إليّ أن أجمع المال وأكون من التاجرين، ولكن أوحي إليّ أن سبح بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ» [195] [[تفسير القرطبي: 10/ 64، تفسير الثعالبي: 3/ 409.]] .
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب