وَلَقَدْ آتَيْنا أعطينا مُوسَى الْكِتابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ ممّن صدف عنه وكذّب به، كما فعل قومك بالقرآن يعزّي نبيه ﷺ وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ في تأخير العذاب لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ أفرغ من عقابهم وإهلاكهم، يعني المختلفين المخالفين.
وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ موقع في الريب والتهمة، يقال: أراب الرجل، أي جاء بريبة، وألام إذا أتى بما يلام عليه، قال الشاعر:
تعد معاذرا لا عذر فيها ... ومن يخذل أخاه فقد ألاما [[الصحاح: 5/ 2034، ولسان العرب: 12/ 558.]]
وَإِنَّ كُلًّا لَمَّا اختلف فيه القرّاء، فقرأ ابن عامر وأبو جعفر وحمزة وأن بتخفيف النون ولَمَّا بتشديد الميم على معنى فإنّ كلا لمّا لَيُوَفِّيَنَّهُمْ، ولكن لما اجتمعت الميمات حذفت واحدة، كقول الشاعر:
كان من أخرها لقادم ... مخرم نجد فارع المحارم [[تفسير الطبري: 12/ 161.]]
أراد إلى القادم، فحذف اللام عند اللام وتكون (ما) بمعنى من تقديره لممّن يوفينّهم، كقول الشاعر:
وأنّي لمّا أصدر الأمر وجهه ... إذا هو أعيا بالسبيل مصادره [[تفسير القرطبي: 9/ 105.]]
وقيل: أراد وَإِنَّ كُلًّا لَمَّا بالتنوين والتشديد، قرأها الزهري بالتنوين أي وَإِنَّ كُلًّا شديدا وحقا لَيُوَفِّيَنَّهُمْ رَبُّكَ أَعْمالَهُمْ من قوله تعالى: كُلًّا لَمَّا، أي شديدا فحذفوا التنوين وأخرجوه على هذا فعلى، كما فعلوا في قوله: ثُمَّ أَرْسَلْنا رُسُلَنا تَتْرا، وقرأ نافع وابن كثير بتخفيف النون والميم على معنى إن الثقيلة مخفّف، وأنشد أبو زيد:
ووجه مشرق النحر كأن ثدييه حقّان [[تفسير الطبري: 12/ 162.]]
أراد كان فخفّف ونصب به، و (ما) صلة تقديره وإن كلا ليوفينّهم. وقرأ أبو عمرو والكسائي ويعقوب وحفص وأيوب وخلف بتشديد النون وتخفيف الميم على معنى وأن كلا ليوفينّهم، جعلوا (ما) صلة. وقيل: أرادوا وأن كلا لممّن كقوله فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ أي من. وقرأ أبو بكر بن عياش بتخفيف النون وتشديد الميم أراد أن الثقيلة فخفّفها.
وقيل: (أن) بمعنى (ما) الجحد و (لما) بمعنى (إلا) تقديره وما كلا إلّا ليوفينّهم، ولكنه نصب كلّا بإيقاع التوفية عليه أي ليوفينّ كلا وهو أبعد القراءات فيها من الصواب، إنه بما تعملون خبير.
فَاسْتَقِمْ يا محمد على أمر ربك والعمل به والدعاء إليه كَما أُمِرْتَ أن لا تشرك بي شيئا وتوكّل عليّ مما ينوبك، قال السدّي: الخطاب له ﷺ والمراد أمته.
وَمَنْ تابَ مَعَكَ فليستقيموا، يعني المؤمنين وَلا تَطْغَوْا ولا تجاوزوا أمري، وقال ابن زيد: ولا تعصوا الله ولا تخالفوه، وقيل: ولا تتخيّروا [[تفسير القرطبي: 9/ 107.]] .
إِنَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ لا يخفى عليه من أعمالكم شيء، قال ابن عباس: ما نزلت على رسول الله ﷺ في جميع القرآن آية كانت أشد ولا أشقّ عليه من هذه الآية، ولذلك قال لأصحابه حين قالوا له: لقد أسرع إليك الشيب، فقال: «شيبتني سورة هود وأخواتها» [104] [[الجامع الصغير: 2/ 82 ح/ 4916، وكنز العمّال: 1/ 573.]] .
وَلا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا قال ابن عباس: ولا تميلوا على غيّهم ولا تدهنوا لهم قال، أبو العالية: لا ترضوا على أعمالهم. قتادة: لا تلحقوا بالمشركين. السدّي وابن زيد، ولا تداهنوا الظلمة، ابن كيسان: لا تسكنوا إلى الذين ظلموا.
فَتَمَسَّكُمُ تصيبهم النار وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِياءَ أي أعوان يمنعون ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهارِ يعني الغداة والعشي، قال ابن عباس: يعني صلاة العصر والمغرب. مجاهد: صلاة الفجر وصلاة العشاء، القرظي: هي الفجر والظهر والعصر، الضحاك: صلاة الفجر والعصر، [وقيل: الطرفان] صلاة الفجر والظهر طرف وصلاة العصر والمغرب طرف.
وَزُلَفاً مِنَ اللَّيْلِ يعني صلاة العتمة، وقال الحسن: هما المغرب والعشاء، قال الأخفش: يعني ساعات الليالي واحدتها زلفة، وأصل الزلفة المنزلة والقربة، ومنه المزدلفة لأنها منزل بعد عرفة، قال العجاج:
طيّ الليالي زلفا فزلّفا ... سماوة الهلال حتى أحقوقفا [[لسان العرب: 9/ 52.]]
وفيه أربع لغات زُلَفاً: بفتح الفاء وضم اللام وهي قراءة العامة، وقرأ أبو جعفر بضم الزاي واللام، وقرأ ابن محيصن بضم الزاي وجزم اللام، وقرأ مجاهد زلفى، مثل قربى.
إِنَّ الْحَسَناتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئاتِ يعني: إن الصلوات الخمس يذهبن الخطيئات، هذا قول أكثر المفسرين، وقال مجاهد: هي قول العبد: سبحان الله والحمد لله ولا إله إلّا الله والله أكبر.
نزلت هذه الآية في أبي اليسر عمرو بن غزية الأنصاري وكان يبيع التمر فأتته امرأة تبتاع تمرا فقال: إن هذا التمر ليس بجيد وفي البيت أجود منه، فهل لك فيه، فقالت: نعم، فذهب بها إلى بيته فضمها إليه وقبّلها، فقالت له: اتق الله فتركها وندم على ذلك، فأتى النبي ﷺ وقال: يا رسول الله، ما تقول في رجل راود امرأة عن نفسها ولم يبق شيئا مما يفعل الرجال بالنساء إلّا ركبه غير أنه لم يجامعها، فقال عمر بن الخطاب: لقد ستر الله عليك لو سترت على نفسك، فلم يردّ عليه رسول الله ﷺ شيئا، وقال: أنظر فيه أمر ربي، وحضرت صلاة العصر، فصلّى النبي ﷺ العصر، فلما فرغ أتاه جبريل بهذه الآية، فقال النبي ﷺ: «أين أبو اليسر؟» فقال: ها أنا ذا يا رسول الله، قال: «أشهدت معنا هذه الصلاة؟» قال: نعم، قال: «اذهب فإنها كفارة لما عملت» فقال عمر: يا رسول الله أهذا له خاصّة أم لنا عامة؟ فقال ﷺ: «بل للناس عامة» [105] [[المصنّف لعبد الرزّاق: 7/ 326، ح/ 13349.]] .
ذلِكَ الذي ذكرناه، وقيل: هو إشارة إلى القرآن ذِكْرى عظة لِلذَّاكِرِينَ وَاصْبِرْ يا محمد على ما تلقى من الأذى، وقيل: على الأذى، وقيل: على الصلاة، نظير قوله وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْها فَإِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ من أعمالهم، وقال فيه ابن عباس: يعني المصلّين.
{"ayahs_start":110,"ayahs":["وَلَقَدۡ ءَاتَیۡنَا مُوسَى ٱلۡكِتَـٰبَ فَٱخۡتُلِفَ فِیهِۚ وَلَوۡلَا كَلِمَةࣱ سَبَقَتۡ مِن رَّبِّكَ لَقُضِیَ بَیۡنَهُمۡۚ وَإِنَّهُمۡ لَفِی شَكࣲّ مِّنۡهُ مُرِیبࣲ","وَإِنَّ كُلࣰّا لَّمَّا لَیُوَفِّیَنَّهُمۡ رَبُّكَ أَعۡمَـٰلَهُمۡۚ إِنَّهُۥ بِمَا یَعۡمَلُونَ خَبِیرࣱ","فَٱسۡتَقِمۡ كَمَاۤ أُمِرۡتَ وَمَن تَابَ مَعَكَ وَلَا تَطۡغَوۡا۟ۚ إِنَّهُۥ بِمَا تَعۡمَلُونَ بَصِیرࣱ","وَلَا تَرۡكَنُوۤا۟ إِلَى ٱلَّذِینَ ظَلَمُوا۟ فَتَمَسَّكُمُ ٱلنَّارُ وَمَا لَكُم مِّن دُونِ ٱللَّهِ مِنۡ أَوۡلِیَاۤءَ ثُمَّ لَا تُنصَرُونَ","وَأَقِمِ ٱلصَّلَوٰةَ طَرَفَیِ ٱلنَّهَارِ وَزُلَفࣰا مِّنَ ٱلَّیۡلِۚ إِنَّ ٱلۡحَسَنَـٰتِ یُذۡهِبۡنَ ٱلسَّیِّـَٔاتِۚ ذَ ٰلِكَ ذِكۡرَىٰ لِلذَّ ٰكِرِینَ","وَٱصۡبِرۡ فَإِنَّ ٱللَّهَ لَا یُضِیعُ أَجۡرَ ٱلۡمُحۡسِنِینَ"],"ayah":"وَلَقَدۡ ءَاتَیۡنَا مُوسَى ٱلۡكِتَـٰبَ فَٱخۡتُلِفَ فِیهِۚ وَلَوۡلَا كَلِمَةࣱ سَبَقَتۡ مِن رَّبِّكَ لَقُضِیَ بَیۡنَهُمۡۚ وَإِنَّهُمۡ لَفِی شَكࣲّ مِّنۡهُ مُرِیبࣲ"}