وقوله سبحانه: وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ، يعني به: النّوم، ويَعْلَمُ مَا جَرَحْتُمْ، أي: مَا كَسَبْتم بالنَّهار، ويحتمل أنْ يكون جَرَحْتُمْ هنا من الجرح كأن الذنْبَ جرح في الدِّين، والعربُ تقولُ:
............ ... وَجُرْحُ اللّسان كجرح اليد [[عجز بيت لامرىء القيس وصدره: [المتقارب]
ولو عن نثا غيره جاءني ... ............... ..............
ينظر: «ديوانه» (185) ، «الخصائص» (1/ 21) ، «الدر المصون» (1/ 265) .]]
ويَبْعَثُكُمْ: يريد به الإيقاظَ، والضميرُ في فِيهِ عائدٌ على النهار قاله مجاهد وغيره [[أخرجه الطبري (5/ 213) برقم (13318) ، وذكره ابن عطية (2/ 300) ، وذكره ابن كثير (2/ 138) وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (3/ 30) وعزاه لعبد بن حميد، وابن أبي شيبة، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبي الشيخ عن مجاهد بنحوه.]] ، ويحتملُ أنْ يعود الضمير على التوفِّي، أي: يوقظُكُم في التوفِّي، أي: في خلالِهِ وتضاعِيفِهِ قاله عبد الله بن [[ذكره ابن عطية (2/ 300) ، وذكره ابن كثير (2/ 138) بنحوه.]] كثير.
ولِيُقْضى أَجَلٌ مُسَمًّى: المراد به آجالُ بني آدمَ، ثُمَّ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ يريدُ:
بالبَعْثِ والنشورِ، ثُمَّ يُنَبِّئُكُمْ، أي: يُعْلِمُكُمْ إعلامَ توقيفٍ، ومحاسبةٍ، ففي هذه الآية إيضاحُ الآياتِ المنصوبةِ للنَّظَر، وفيها ضَرْبُ مثالٍ للبعْثِ من القبور لأن هذا أيضاً إماتةٌ وبعْثٌ على نَحوٍ مَّا.
وقوله سبحانه: وَهُوَ الْقاهِرُ فَوْقَ عِبادِهِ: القاهرُ إنْ أُخِذَ صِفَةَ فِعْلٍ، أي: مظهر القَهْر بالصواعقِ والرياحِ والعذابِ، فيصحُّ أنْ تجعل فَوْقَ ظرفيةً للجهةِ لأن هذه الأشياء إنما تعاهَدَها العبادُ مِنْ فوقهم، وإنْ أُخِذَ الْقاهِرُ صفَةَ ذَاتٍ، بمعنى القُدْرة والاستيلاء، ف فَوْقَ: لا يجوزُ أنْ تكون للجهةِ، وإنما هي لعلُوِّ القَدْر والشِّأن على حد ما تقولُ: اليَاقُوتُ فَوْقَ الحديد، والأحرار فوق العبيد، ويُرْسِلُ عَلَيْكُمْ: معناه: يبثّهم فيكم، وحَفَظَةً: جمع حَافِظٍ، والمراد بذلكَ الملائكةُ الموكَّلون بكَتْبِ الأعمال، ورُوِيَ أنهم الملائكةُ الَّذين قالَ فيهِمُ النبيّ ﷺ: «يتعاقب فيكم ملائكة باللّيل وملائكة بِالنَّهَارِ» [[تقدم تخريجه.]] وقال السُّدِّيُّ وقتادة [[أخرجه الطبري (5/ 214) رقم (13326، 13327) بنحوه، وذكره ابن عطية (2/ 301) ، وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (3/ 30) وعزاه لابن جرير، وابن أبي حاتم، وأبي الشيخ عن السدي بنحوه، وكذلك عزاه لعبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبي الشيخ عن قتادة بنحوه.]] ، وقال بعْض المفسِّرين: حَفَظَةً يَحفظُونَ الإنسانَ مِنْ كلِّ شيءٍ حتى يأتي أجله، والأول أظهر.
وقرأ [[ينظر: «السبعة» (259) ، و «الحجة» (3/ 321) ، و «معاني القراءات» (1/ 361) ، و «شرح شعلة» (363) ، و «العنوان» (91) ، و «حجة القراءات» (254) .]] حمزةُ وحْده: «تَوَفَّاهُ» .
وقوله تعالى: رُسُلُنا: يريد به على ما ذكر ابنُ عباس، وجميعُ أهل التأويل:
ملائكةً مقترنينَ بمَلَكِ المَوْت، يعاونونه ويَأْتَمِرُونَ له [[أخرجه الطبري (5/ 215) برقم (13332، 13333، 13338) ، وذكره ابن عطية (2/ 301) ، وذكره ابن كثير (2/ 138) بنحوه، وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (3/ 30) ، وعزاه لابن أبي شيبة، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبي الشيخ عن ابن عباس.]] ، ثُمَّ رُدُّوا، أي: العبادُ، إِلَى اللَّهِ مَوْلاهُمُ، وقوله: الْحَقِّ: نعْتٌ ل مَوْلاهُمُ، ومعناه: الذي لَيْسَ/ بباطلٍ، ولا مَجَاز، أَلا لَهُ الْحُكْمُ: كلامٌ مضمَّنه التنبيهُ، وهَزُّ النفوسِ، وَهُوَ أَسْرَعُ الْحاسِبِينَ:
قيل لِعَليٍّ (رضي اللَّه عنه) : كَيْفَ يُحَاسِبُ اللَّهُ العِبَادَ فِي يَوْمٍ وَاحِدٍ؟! قَالَ: كَمَا يَرْزُقُهُمْ فِي الدُّنْيَا فِي يَوْمٍ وَاحِدٍ» [[ذكره ابن عطية (2/ 301) .]] .
وقوله تعالى: قُلْ مَنْ يُنَجِّيكُمْ مِنْ ظُلُماتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ تَدْعُونَهُ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً ...
الآية: هذا تَمَادٍ في توبيخِ العادِلِينَ باللَّه الأوثانَ، وتركِهِمْ عبادَةَ الرَّحْمَنِ الذي يُنْجِي من الهَلَكَاتِ، ويُلْجَأُ إليه في الشّدائد، ودفع الملمّات، وظُلُماتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ: يريدُ بها شدائِدَهُما، فهو لفظٌ عامٌّ يستغرقُ ما كان مِنَ الشدائدِ بظلمةٍ حقيقيةٍ، وما كان بغَيْر ظلمةٍ، والعَرَبُ تقول: عَامٌ أَسْوَدُ، ويَوْمٌ مُظْلِمٌ، ويَوْمٌ ذو كواكِبَ، يريدُونَ به الشِّدَّة، قال قتادة وغيره: المعنى: مِنْ كَرْبِ البَرِّ والبَحْرِ، وتَدْعُونَهُ: في موضعِ الحالِ، والتَّضَرُّعُ: صفَةٌ باديةٌ على الإنسانِ، وخُفْيَة: معناه: الاختفاء [[أخرجه الطبري (5/ 216) برقم (13346) بنحوه، وذكره ابن عطية (2/ 302) وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (3/ 31) ، وعزاه لعبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبي الشيخ عن قتادة.]] ، وقرأ عاصمٌ [[ينظر: «الحجة» (3/ 316) ، و «إعراب القراءات» (1/ 159) ، و «حجة القراءات» (255) ، و «معاني-- القراءات» (1/ 362) ، و «العنوان» (91) ، و «شرح الطيبة» (4/ 258) ، و «شرح شعلة» (364) .]] في رواية أبي بكر: «وخفية» - بكسر الخاء-، وقرأ الأعمشُ: «وخِيفَةً» من الخَوْف [[ينظر: «المحرر الوجيز» (2/ 302) ، و «البحر المحيط» (4/ 154) ، و «الدر المصون» (3/ 84) .]] .
وقوله سبحانه: قُلِ اللَّهُ يُنَجِّيكُمْ مِنْها ... الآية: سبق في المُجَادَلة إلى الجَوَابِ إذْ لا محيدَ عنْه، وَمِنْ كُلِّ كَرْبٍ: لفظٌ عامٌّ أيضاً، ليتَّضِحَ العُمُومُ الذي في «الظلماتِ» ، ثُمَّ أَنْتُمْ، أي: ثم بَعْدَ معرفتكم بهذا كلِّه، وتحقّقكم له، أنتم تشركون.
{"ayahs_start":60,"ayahs":["وَهُوَ ٱلَّذِی یَتَوَفَّىٰكُم بِٱلَّیۡلِ وَیَعۡلَمُ مَا جَرَحۡتُم بِٱلنَّهَارِ ثُمَّ یَبۡعَثُكُمۡ فِیهِ لِیُقۡضَىٰۤ أَجَلࣱ مُّسَمࣰّىۖ ثُمَّ إِلَیۡهِ مَرۡجِعُكُمۡ ثُمَّ یُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمۡ تَعۡمَلُونَ","وَهُوَ ٱلۡقَاهِرُ فَوۡقَ عِبَادِهِۦۖ وَیُرۡسِلُ عَلَیۡكُمۡ حَفَظَةً حَتَّىٰۤ إِذَا جَاۤءَ أَحَدَكُمُ ٱلۡمَوۡتُ تَوَفَّتۡهُ رُسُلُنَا وَهُمۡ لَا یُفَرِّطُونَ","ثُمَّ رُدُّوۤا۟ إِلَى ٱللَّهِ مَوۡلَىٰهُمُ ٱلۡحَقِّۚ أَلَا لَهُ ٱلۡحُكۡمُ وَهُوَ أَسۡرَعُ ٱلۡحَـٰسِبِینَ","قُلۡ مَن یُنَجِّیكُم مِّن ظُلُمَـٰتِ ٱلۡبَرِّ وَٱلۡبَحۡرِ تَدۡعُونَهُۥ تَضَرُّعࣰا وَخُفۡیَةࣰ لَّىِٕنۡ أَنجَىٰنَا مِنۡ هَـٰذِهِۦ لَنَكُونَنَّ مِنَ ٱلشَّـٰكِرِینَ","قُلِ ٱللَّهُ یُنَجِّیكُم مِّنۡهَا وَمِن كُلِّ كَرۡبࣲ ثُمَّ أَنتُمۡ تُشۡرِكُونَ"],"ayah":"وَهُوَ ٱلَّذِی یَتَوَفَّىٰكُم بِٱلَّیۡلِ وَیَعۡلَمُ مَا جَرَحۡتُم بِٱلنَّهَارِ ثُمَّ یَبۡعَثُكُمۡ فِیهِ لِیُقۡضَىٰۤ أَجَلࣱ مُّسَمࣰّىۖ ثُمَّ إِلَیۡهِ مَرۡجِعُكُمۡ ثُمَّ یُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمۡ تَعۡمَلُونَ"}