وقوله سبحانه: قُلْ لَوْ أَنَّ عِنْدِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ لَقُضِيَ الْأَمْرُ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ:
المعنى: لو كان عندي الآياتُ المُقْتَرَحةُ، أو العذابُ علَى التأويل الآخر، لقُضِيَ الأمر، أي: لَوَقَع الانفصال، وتَمَّ النزاعُ لظهور الآية المُقْتَرَحَةِ، أو لِنزولِ العذابِ بحسب التأْويلَيْنِ، وقِيلَ: المعنى: لَقَامَتِ القيامةُ، وقوله: وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالظَّالِمِينَ: يتضمَّن الوعيدَ والتَّهْديدَ.
وقوله تعالى: وَعِنْدَهُ مَفاتِحُ الْغَيْبِ لاَ يَعْلَمُها إِلَّا هُوَ: مفَاتِحُ: جَمْعُ مَفْتَحٍ، وهذه استعارة عبارةً عن التوصُّل إلى الغيوب كما يَتوصَّل في الشاهِدِ بالمِفْتَاحِ إلى المُغَيَّب، ولو كان جَمْعَ «مِفْتَاحٍ» ، لقال: مَفَاتِيح، ويظهرُ أيضاً أنَّ «مَفَاتِح» جمْعُ «مَفْتَح» - بفتح الميم-، أي: مواضِعِ تَفْتَحُ عن المغيَّبات ويؤيِّد هذا قَوْلُ السُّدِّيِّ وغيره: مَفاتِحُ الْغَيْبِ: خزائِنُ الغَيْب، فأما مِفْتَح [[أخرجه الطبري (5/ 210) برقم (13308) ، وذكره ابن عطية (2/ 299) وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (3/ 28) ، وعزاه لابن جرير، وابن أبي حاتم عن السدي.]] - بالكسر-، فهو بمعنى مِفْتَاح، قال الزَّهْرَاوِيُّ:
وَمِفْتَحٌ أفصحُ، وقال ابنُ عَبَّاسٍ وغيره: الإشارةُ بِمَفَاتِحِ الغَيْبِ هي إلى الخَمْسة في آخر لُقْمَان: إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ ... [[أخرجه الطبري (5/ 210، 211) برقم (13310) ، وذكره ابن عطية (2/ 299) . وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (2/ 28) ، وعزاه لابن جرير، وابن المنذر، عن ابن عباس.]] [لقمان: 34] الآية، قلت: وفي «صحيحِ البخاريِّ» ، عن سالمِ بنِ عبد اللَّهِ [[سالم بن عبد الله بن عمر العدوي المدني الفقيه أحد السبعة وقيل: السابع أبو سليمان بن عبد الرّحمن. وقيل: أبو بكر بن عبد الرّحمن بن الحارث، قاله أبو الزناد. عن أبيه، وأبي هريرة، ورافع بن خديج، وعائشة. وعنه: ابنه أبو بكر، وعبيد الله بن عمر، وحنظلة بن أبي سفيان. قال ابن إسحاق: أصح الأسانيد كلها الزهري، عن سالم، عن أبيه. وقال مالك: كان يلبس الثوب بدرهمين.
وعن نافع: كان ابن عمر يقبّل سالما، ويقول: شيخ يقبل شيخا. وقال البخاري: لم يسمع من عائشة.
مات سنة ست ومائة على الأصح.
ينظر: «تهذيب الكمال» (1/ 460) ، «تهذيب التهذيب» (3/ 436) ، «الكاشف» (3/ 344) ، «الثقات» (4/ 305) ، «سير الأعلام» (4/ 457) .]] ، عَنْ أبيه أنَّ رسُولَ الله ﷺ قالَ: «مَفَاتِحُ الغَيْبِ خَمْسٌ لاَ يَعْلَمُهُنَّ إلاَّ اللَّهُ: إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ ما فِي الْأَرْحامِ وَما تَدْرِي نَفْسٌ مَّاذَا تَكْسِبُ غَداً وَما تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ [لقمان: 34] » انتهى [[أخرجه البخاري (8/ 141) كتاب «التفسير» ، باب وعنده مفاتيح الغيب، حديث (4627) ، والطيالسي (2/ 22- منحة) رقم (1966) ، وأبو يعلى (9/ 345) رقم (5456) كلهم من طريق الزهري، عن سالم، عن أبيه به.
وأخرجه البخاري (2/ 609) كتاب «الاستسقاء» ، باب لا يدري متى يجيء المطر إلا الله، حديث (1039) وأحمد (2/ 24، 52، 58) ، من طريق عبد الله بن دينار، عن ابن عمر به.]] .
وقوله سبحانه: مِنْ وَرَقَةٍ، أي: من وَرَقِ النَّبَاتِ، وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُماتِ الْأَرْضِ، يريدُ: في أشدِّ حالِ التَّغَيُّبِ، وحكى بعضُ النَّاسِ عن جَعْفَرِ بنِ محمَّد قولاً: / أنَّ الورقَةَ يُرَادُ بها السِّقْطُ مِنْ أولادِ بني آدم، والحَبَّة: يرادُ بها الذي لَيْسَ بِسِقْطٍ، والرَّطْب يرادُ به الحَيُّ، واليابسُ يراد به المَيِّت، وهذا قولٌ جارٍ على طريقةِ الرُّمُوز، ولا يصحُّ عن جعفر بن محمَّد، ولا ينبغي أن يُلْتَفَتَ إلَيْه [[ذكره ابن عطية (2/ 300) .]] .
وقوله تعالى: إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ، قيل: يعني كتاباً على الحقيقةِ، ووجْهُ الفائدة فيه امتحان ما يكتبه الحَفَظَةُ، وذلك أنَّه رُوِيَ أنَّ الحَفَظَةَ يرفَعُونَ مَا كَتَبُوهُ، ويُعَارِضُونَهُ بهذا الكِتَابِ المُشَارِ إلَيْه ليتحقَّقوا صِحَّة ما كتبوه، وقيل: المراد بقوله: إِلَّا فِي كِتابٍ: عِلْمِ اللَّهِ عزَّ وجلَّ المحيطِ بكلِّ شيءٍ.
قال الفَخْرُ [[ينظر: «مفاتيح الغيب» (13/ 10) .]] : وهذا هو الأصْوَبُ، ويجوزُ أنْ يقالَ: ذَكر تعالى ما ذَكَر مِنَ الوَرَقَةِ وَالحَبَّة تنبيهاً للمكلَّفين على أمر الحساب. انتهى.
قال مَكِّيٌّ: قالَ عبْدُ اللَّه بْنُ الحارِثِ: ما في الأرْض شَجَرٌ، ولا مَغْرَزُ إبرةٍ إلاَّ علَيْها مَلَكٌ، موكَّل، يأتي اللَّه بعلْمها بيَبَسِها إذا يَبِسَتْ، ورُطُوبَتِها إذا رَطِبَتْ [[أخرجه الطبري (5/ 211) برقم (13311) ، وذكره ابن كثير (2/ 137) .]] .
وقيل: المعنى في كَتْبِها أنه لتعظيمِ الأمرِ، ومعناه: اعلموا أنَّ هذا الذي لَيْسَ فيه ثوابٌ ولا عقابٌ- مكتوبٌ فكيف ما فِيهِ ثوابٌ أو عقاب. انتهى من «الهداية» .
{"ayahs_start":58,"ayahs":["قُل لَّوۡ أَنَّ عِندِی مَا تَسۡتَعۡجِلُونَ بِهِۦ لَقُضِیَ ٱلۡأَمۡرُ بَیۡنِی وَبَیۡنَكُمۡۗ وَٱللَّهُ أَعۡلَمُ بِٱلظَّـٰلِمِینَ","۞ وَعِندَهُۥ مَفَاتِحُ ٱلۡغَیۡبِ لَا یَعۡلَمُهَاۤ إِلَّا هُوَۚ وَیَعۡلَمُ مَا فِی ٱلۡبَرِّ وَٱلۡبَحۡرِۚ وَمَا تَسۡقُطُ مِن وَرَقَةٍ إِلَّا یَعۡلَمُهَا وَلَا حَبَّةࣲ فِی ظُلُمَـٰتِ ٱلۡأَرۡضِ وَلَا رَطۡبࣲ وَلَا یَابِسٍ إِلَّا فِی كِتَـٰبࣲ مُّبِینࣲ"],"ayah":"قُل لَّوۡ أَنَّ عِندِی مَا تَسۡتَعۡجِلُونَ بِهِۦ لَقُضِیَ ٱلۡأَمۡرُ بَیۡنِی وَبَیۡنَكُمۡۗ وَٱللَّهُ أَعۡلَمُ بِٱلظَّـٰلِمِینَ"}