الباحث القرآني

وقوله سبحانه: اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَياةُ الدُّنْيا لَعِبٌ وَلَهْوٌ هذه الآيةُ وعظ، وتبيين لأمر الدنيا وَضَعَةِ منزلتها، والحياة الدنيا في هذه الآية: عبارة عن الأشغال والتصرفاتِ والفكرِ/ التي هي مختصة بالحياة الدنيا، وأَمَّا ما كان من ذلك في طاعة اللَّه تعالى، وما كان في الضرورات التي تقيم الأود وتعينُ على الطاعات- فلا مدخلَ له في هذه الآية، وتأملْ حالَ الملوك بعد فقرهم، يَبِنْ لك أنّ جميع ترفههم لَعِبٌ ولهو، والزينة: التحسين الذي هو خارج عن ذات الشيء، والتفاخرُ بالأموال والأنساب وغيرُ ذلك على عادة الجاهلية، ثم ضرب اللَّه عز وجل مَثَلَ الدنيا، فقال: كَمَثَلِ غَيْثٍ ... الآية: وصورة هذا المثالِ أَنَّ الإنسانَ ينشأ في حجر مملكة فما دون ذلك، فيشُبُّ في النعمة، ويقوى، ويكسب المال والولد، ويغشاه الناسُ، ثم يأخذُ بعد ذلك في انحطاطٍ، ويشيب، ويضعف ويسقم، وتصيبه النوائب في ماله وذريته، ويموتُ، ويضمحلُّ أَمرهُ، وتصيرُ أمواله لغيره، وتتغير رُسُومُه فأمره مِثْلُ مطر أصاب أرضاً، فنبت عن ذلك الغيثِ نباتٌ معجب أنيق، ثم هاج، أي: يبس، واصْفَرَّ، ثم تحطم، ثم تفرق بالرياح واضمحل. وقوله: أَعْجَبَ الْكُفَّارَ أي: الزراع فهو من كَفَرَ الحَبَّ، أي: ستره، وقيل: يحتمل أَنْ يعني الكفار باللَّه، لأَنَّهم أَشَدُّ إعجابا بزينة الدنيا، ثم قال تعالى: وَفِي الْآخِرَةِ عَذابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ ... الآية: كأنَّه قال: والحقيقة هاهنا، وذكر العذابَ أَوَّلاً تَهَمُّمَاً به من حيث الحذر في الإنسان، ينبغي أَنْ يكونَ أولاً، فإذا تحرز من المخاوف مَدَّ حينئذ أمله، فذكر تعالى ما يحذر قبل ما يطمع فيه، وهو المغفرة والرضوان، وعبارة الثعلبيِّ: ثُمَّ يَهِيجُ أي: يجفُّ وَفِي الْآخِرَةِ/ عَذابٌ شَدِيدٌ: لأعداء اللَّه وَمَغْفِرَةٌ: لأوليائه، وقال الفَرَّاءُ وَفِي الْآخِرَةِ عَذابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ أي: إمَّا عذاب شديد، وإمَّا مغفرة وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا إِلَّا مَتاعُ الْغُرُورِ: هذا تزهيد في العمل للدنيا، وترغيبٌ في العمل للآخرة، انتهى، وهو حسن، وعن طارق قال: قال رسول الله ﷺ: «نِعْمَتِ الدَّارُ الدُّنْيَا لِمَنْ تَزَوَّدَ مِنْهَا لآِخِرَتِهِ، وَبِئْسَتِ الدَّارُ لِمَنْ صَدَّتْهُ عَنْ آخِرَتِهِ، وَقَصَّرَتْ بِهِ عَنْ رِضَا رَبِّهِ، فَإذَا قَالَ الْعَبْدُ: قَبَّحَ اللَّهُ الدُّنْيا قَالَتِ الدُّنْيَا: قَبَّحَ اللَّهُ أَعْصَانَا لِرَبِّهِ» [[أخرجه الحاكم (4/ 312) . وقال الحاكم: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه، وتعقبه الذهبي، وقال: بل منكر، وعبد الجبار لا يعرف، روى عنه يحيى بن أيوب العابد.]] . رواه الحاكم في «المستدرك» ، انتهى من «السلاح» ، ولا يشك عاقل أَنَّ حُطَامَ الدنيا مُشْغِلٌ عنِ التأهب للآخرة قال أبو عمر بن عبد البر في كتاب «فضل العلم» : وقد رُوِيَ مرفوعاً: «لِكُلِّ أُمَّةٍ فِتْنَةٌ، وَفِتْنَةُ أُمَّتِي المَالُ» [[أخرجه الترمذي (4/ 569) ، كتاب «الزهد» باب: ما جاء أن فتنة هذه الأمة في المال (2336) ، وابن حبان (8/ 128) - الموارد (2470) ، والنسائي كما في «التحفة» (8/ 309) (11129) ، والحاكم (4/ 318) . قال الترمذي: حديث حسن صحيح غريب، إنما نعرفه من حديث معاوية بن صالح. قال الحاكم: هذا حديث صحيح الإسناد، ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي. قال ابن الجوزي في «العلل المتناهية» (2/ 798) ، وهذا حديث لا يصحّ عن رسول الله ﷺ، قال العقيلي: ليس له أصل من وجه يثبت. اهـ.]] قال أبو عمر: ثم نقول: إنَّ الزهد في الحلال، وترك الدنيا مع القدرة عليها- أفضلُ من الرغبة فيها في حلالها، وهذا ما لا خلافَ فيه بين علماء المسلمين قديماً وحديثاً، والآثار الواردة عنِ الصحابة والتابعين، ومَنْ بعدهم من علماء المسلمين في فضل الصبر والزهد فيها، وفَضْل القناعة، والرضا بالكفاف، والاقتصارِ على ما يكفي دون التكاثر الذي يُلْهِي ويُطْغِي-: أكثر من أَنْ يحيط بها كتاب، أو يشمل عليها باب، والَّذِينَ زوى اللَّه عنهم الدنيا من الصحابة، أكثرُ من الذين فتحها عليهم أضعافاً مضاعفةً، وقد روينا عن عبد الرحمن بن عوف أَنَّهُ لما حضرته الوفاةُ بَكَى بُكَاءً شديداً، وقال: كان مُصْعَبُ بنُ عُمَيْرٍ خيراً مِنِّي تُوُفِّيَ وَلَمْ يَتْرُكْ ما يُكَفَّنُ فيه، / وَبَقِيتُ بعده حتى أَصَبْتُ من الدنيا وأصابت مِنِّي، ولا أحسبني إلاَّ سَأُحْبَسُ عن أصحابي بما فتح اللَّهُ عليَّ من ذلك، وجعل يبكي حتى فاضتْ نفسه، وفارق الدنيا رحمة اللَّه عليه، فإنْ ظَنَّ ظانٌّ جاهل أَنَّ الاستكثار من الدنيا ليس به بأس، أو غلب عليه الجهل فَظَنَّ أَنَّ ذلك أفضل من طلب الكفاف منها، وشُبِّهَ عليه بقول اللَّه تعالى: وَوَجَدَكَ عائِلًا فَأَغْنى [الضحى: 8] فيما عَدَّده سبحانه على نبيّه ﷺ من نعمه عنده- فَإنَّ ذلك ليس كما ظَنَّ بل ذلك غنى القلب، دَلَّتْ على ذلك الآثارُ الكثيرة كقوله عليه السلام: «لَيْسَ الْغِنَى عَنْ كَثْرَةِ العَرَضِ، وَإنَّما الغِنَى غِنَى النّفس» [[تقدم تخريجه.]] انتهى.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب