الباحث القرآني

وقوله تعالى: اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها ... الآية، مخاطبة لهؤلاء المؤمنين الذين نُدِبُوا إلى الخشوع، وهذا ضرب مَثَلٍ، واستدعاء إلى الخير برفق وتقريب بليغ، أي: لا يبعد عندكم أَيُّها التاركون للخشوع رُجُوعُكُمْ إليه وتلبسكم به، فإنَّ اللَّه يحيي الأرضَ بعد موتها، فكذلك يفعل بالقلوب، يرُدُّهَا إلى الخشوع بعد بُعْدِهَا عنه، وترجع هي إليه إذا وقعت الإنابةُ والتَّكَسُّبُ من العبد بعد نفورها منه، كما يحيي الأرضَ بعد أَنْ كانت ميتة، وباقي الآية بين، والْمُصَّدِّقِينَ: يعني به المتصدقين، وباقي الآية بين. ت: وقد جاءت آثار صحيحة في الحَضِّ على الصدقة، قد ذكرنا منها جملة في هذا المختصر، وأسند مالك في «الموطأ» عن النبي ﷺ أَنَّهُ قال: «يَا نِسَاءَ المُؤْمِنَاتِ، لاَ تَحْقِرَنَّ إحْدَاكُنَّ لِجَارَتِهَا، وَلَوْ كُرَاعَ شَاةٍ مُحْرَقاً» [[أخرجه البخاري (10/ 459) ، كتاب «الأدب» باب: لا تحقرن جارة جارتها (6017) ، ومسلم (2/ 714) ، كتاب «الزكاة» باب: الحث على الصدقة ولو بالقليل (90/ 1030) ، والترمذي (4/ 441) ، كتاب «الولاء والهبة» باب: في حث النبي ﷺ على التهادي (2130) ، وأحمد (2/ 264، 432، 493، 506) ، والبيهقي (41/ 177) كتاب «الزكاة» باب: التحريض على الصدقة وإن قلت، (6/ 169) ، كتاب «الهبات» باب: التحريض على الهبة والهدية صلة بين الناس.]] وفي «الموطأ» عنه ﷺ/ «رُدُّواْ السَّائِلَ وَلَوْ بِظَلِفٍ مُحْْرَّقٍ» [[أخرجه النسائي (5/ 81) ، كتاب «الزكاة» باب: رد السائل (2565) ، وأحمد (4/ 70) ، والبيهقي (4/ 177) ، وابن حبان (3/ 723) - الموارد (825) ، وابن خزيمة (4/ 111) (2472) .]] قال ابن عبد البر في «التمهيد» : ففي هذا الحديث الحَضُّ على الصدقة بكل ما أمكن من قليل الأشياء وكثيرها، وفي قول الله عز وجل: فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ [الزلزلة: 7] : أوضح الدلائل في هذا الباب، وتصدقت عائشةُ- رضي اللَّه عنها- بحبتين من عنب، فنظر إليها بَعْضُ أهل بيتها فقالت: لا تَعْجَبْنَ فكم فيها من مثقال ذرة، ومن هذا الباب قوله ﷺ: «اتَّقُوا النَّارَ، وَلَوْ بِشِقِّ تَمْرَةٍ، وَلَوْ بِكَلِمَةٍ طيّبة» [[أخرجه البخاري (3/ 332) ، كتاب «الزكاة» باب: اتقوا النار ولو بشق تمرة، والقليل من الصدقة (1417) (11/ 408) كتاب «الرقاق» باب: من نوقش الحساب عذب (6540) ، (13/ 482) ، كتاب «التوحيد» باب: كلام الرب عز وجل يوم القيامة مع الأنبياء وغيرهم (7512) ، ومسلم (2/ 703) ، كتاب «الزكاة» باب: الحث على الصدقة ولو بشق تمرة، أو كلمة طيبة، فإنها حجاب من النار (66، 77، 78، 68/ 1016) ، وابن حبان (2/ 220) ، كتاب «البر والإحسان» باب: حسن الخلق (473) ، (2/ 440) كتاب «الرقاق» باب: الخوف والتقوى (666) ، (7/ 43) ، كتاب «الصلاة» باب: صلاة الجمعة (2804) ، وأحمد (4/ 256) ، والنسائي (5/ 75) ، كتاب «الزكاة» باب: القليل من الصدقة (2553) .]] وإذا كان الله عز وجل يُرْبي الصدقاتِ، ويأخذ الصدقةَ بيمينه فَيُرَبِّيَهَا، كما يُرَبِّي أَحَدُنَا فَلَوَّه أَوْ فَصِيلَهُ- فما بالُ مَنْ عَرَفَ هذا يَغْفُلُ عنه! وما التوفيق إلاَّ باللَّه، انتهى من «التمهيد» ، وروى ابن المبارك في «رقائقه» قال: أخبرنا حرملة بن عمران أَنَّهُ سَمِعَ يزيد بن أبى حَبِيبٍ يحدّث أَنَّ أبا الخَيْرِ حدَّثه: أنَّه سمع عقبة بن عامر يقول: سمعت رسول الله ﷺ يقول: «كلّ امرئ فِي ظِلِّ صَدَقَتِهِ حَتَّى يُفْصَلَ بَيْنَ النَّاسِ» [[أخرجه أحمد (4/ 147- 148) ، وأبو يعلى (3/ 300- 301) رقم (1766) ، وابن خزيمة (4/ 94) رقم: (2431) ، وابن حبان (817) - موارد، والحاكم (1/ 416) ، والبيهقي (4/ 177) ، كتاب «الزكاة» باب: التحريض على الصدقة وإن قلّت، وأبو نعيم في «الحلية» (8/ 181) ، والبغوي في «شرح السنة» (3/ 402) - بتحقيقنا، كلهم من طريق ابن المبارك وهو في «الزهد» له ص: (227) رقم (645) عن حرملة بن عمران عن يزيد بن أبي حبيب عن أبي الخير عن عقبة بن عامر قال: قال رسول الله ﷺ: «الرجل في ظل صدقته حتى يقضى بين الناس وكان أبو الخير لا يأتي عليه يومٌ إلاَّ تصدق فيه بشيء ولو كَعْكَةً ولو بصلة. وقال الحاكم: صحيحٌ على شرط مسلمٍ ولم يخرِّجاه، ووافقه الذهبي وصححه ابن خزيمة، وابن حبان. وقال الهيثمي في «المجمع» (3/ 113) : رواه أحمد وأبو يعلى والطبراني ورجال أحمد ثقات. وصححه السيوطي في «الجامع الصغير» (6282) ، وقال المناوي في «الفيض» (5/ 13) : وقال- أي الذهبي- في «المهذب» : إسناده قوي.]] قال يزيد: فكان أبو الخير لا يخطئه يومٌ إلاَّ تصدق فيه بشيء، ولو كَعْكَةً أو بصلة أو كذا، انتهى، والصِّدِّيقُونَ: بناء مبالغة من الصدق أو من التصديق على ما ذكر الزَّجَّاج [[ينظر: «معاني القرآن» (5/ 126) .]] . وقوله تعالى: وَالشُّهَداءُ عِنْدَ رَبِّهِمْ: اخْتُلِفَ في تأويله فقال ابن مسعود وجماعة: وَالشُّهَداءُ: معطوف على: الصِّدِّيقُونَ والكلامُ متَّصل، ثم اختلفتْ هذه الفرقةُ في معنى هذا الاتصال، فقال بعضها: وَصَفَ اللَّه المؤمنين بأَنَّهم صديقون وشهداء، فَكُلُّ مؤمن شهيد/ قاله مجاهد [[أخرجه الطبري (11/ 683) ، برقم: (33652) ، وذكره البغوي (4/ 298) ، وابن عطية (5/ 265) ، وابن كثير في «تفسيره» (4/ 312) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (6/ 256) ، وعزاه لعبد الرزاق، وعبد بن حميد.]] ، وروى البَرَاءُ بْنُ عَازِبٍ أَنَّ النبي ﷺ قال: «مُؤْمِنُو أُمَّتِي شُهَدَاءُ، وَتَلاَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ هذه الآية [[ذكره السيوطي في «الدر المنثور» (6/ 256) ، وعزاه لابن جرير.]] وإنّما خصّ ﷺ ذكر الشهداء السبعة تشريفاً لهم لأَنَّهُم في أعلى رتب الشهادة أَلاَ ترى أَنَّ المقتولَ في سبيل اللَّه مخصوصٌ أيضاً من السبعة بتشريف ينفرد به، وقال بعضها: الشُّهَداءُ هنا: من معنى الشاهد لا من معنى الشهيد، فكأَنَّه قال: هم أهل الصدق والشهداءُ على الأمم، وقال ابن عباس، ومسروق، والضحاك [[أخرجه الطبري (11/ 683) عن ابن عبّاس برقم: (33646) ، وعن مسروق برقم: (33647) ، وعن الضحاك برقم: (33650) ، وذكره البغوي (4/ 298) ، وابن عطية (5/ 266) ، وابن كثير في «تفسيره» (4/ 311) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (6/ 256) ، وعزاه لابن جرير.]] : الكلام تامٌّ في قوله: الصِّدِّيقُونَ، وقوله: وَالشُّهَداءُ: ابتداءٌ مستأنف، ثم اختلفتْ هذه الفرقةُ في معنى هذا الاستئناف، فقال بعضها: معنى الآية: والشهداءُ بأنَّهم صديقون حاضرون عند ربهم، وعَنَى بالشهداء الأنبياء- عليهم السلام-. ت: وهذا تأويل بعيد من لفظ الآية، وقال بعضها: قوله: وَالشُّهَداءُ ابتداء يريد به الشهداءَ في سبيل اللَّه، واستأنف الخبر عنهم بأَنَّهم: عِنْدَ رَبِّهِمْ لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ فكأَنَّه جعلهم صِنْفاً مذكوراً وحده. ت: وأبينُ هذه الأقوال الأوَّلُ، وهذا الأخيرُ، وإنْ صَحَّ حديث البَرَاءِ لم يُعْدَلْ عنه، قال أبو حيان [[ينظر: «البحر المحيط» (8/ 222) .]] : والظاهر أَنَّ الشُّهَداءُ مبتدأ خبره ما بعده، انتهى. وقوله تعالى وَنُورُهُمْ قال الجمهور: هو حقيقة حسبما تقدم.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب