الباحث القرآني

وقوله سبحانه: إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشى أي: غَشِيَها من أمر اللَّه ما غشيها، فما يستطيع أحد أَنْ يصفَها، وقد ذكر المُفَسِّرُون في وصفها أقوالاً هي تَكَلُّفٌ في الآية لأَنَّ اللَّه تعالى أبهم ذلك، وهم يريدون شرحه، وقد قال ﷺ: «فَغَشِيَهَا أَلْوَانٌ لاَ أَدْرِي مَا هِيَ» [[أخرجه البخاري (1/ 547- 548) ، كتاب «الصلاة» باب: كيف فرضت الصلوات في الإسراء؟ (349) ، (6/ 431- 432) ، كتاب «أحاديث الأنبياء» باب: ذكر إدريس عليه السلام (3342) .]] . وقوله تعالى: مَا زاغَ الْبَصَرُ قال ابن عباس [[أخرجه الطبري (11/ 518) برقم: (32525) ، وذكره ابن عطية (5/ 200) ، وابن كثير في «تفسيره» (4/ 452) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (6/ 162) ، وعزاه للفريابي، وعبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والحاكم وصححه، وابن مردويه.]] : معناه: ما جال هكذا ولا هكذا. وقوله: وَما طَغى معناه: ولا تجاوز المَرْئِيَّ، وهذا تحقيق للأمر، ونفيٌ لوجوه الريب عنه. وقوله: لَقَدْ رَأى مِنْ آياتِ رَبِّهِ الْكُبْرى قال جماعة: معناه: لقد رأى الكبرى من آياتِ رَبِّهِ، أي: مِمَّا يمكنُ أنْ يراها البشر، وقال آخرون: المعنى: لقد رأى بَعْضاً من آيات رَبِّهِ الكبرى، وقال ابن عباس وابن مسعود [[أخرجه الطبري (11/ 519) برقم: (32531) عن ابن مسعود، وذكره ابن عطية (5/ 200) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (6/ 162) ، وعزاه للفريابي، وسعيد بن منصور، وعبد بن حميد، والبخاري، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والطبراني، وابن مردويه، وأبي نعيم، والبيهقي معا في «الدلائل» .]] : رأى رفرفاً أخضرَ من الجنة، قد سدّ الأفق. ت: وزاد الثعلبيُّ: وقيل: المعراج، وما رأى في تلك الليلة في مسراه في عوده وبدئه دليله قوله تعالى: لِنُرِيَهُ مِنْ آياتِنا ... [الإسراء: 1] الآية، قال عِيَاضٌ: / وقوله تعالى: لَقَدْ رَأى مِنْ آياتِ رَبِّهِ الْكُبْرى انحصرت الأفهام عن تفصيل ما أوحى، وتاهت الأحلامُ في تعيين تلك الآيات الكبرى، وقد اشتملت هذه الآيات على إعلام الله بتزكية جملته ع وعِصْمَتِهَا من الآفات في هذا المسرى، فزكى فؤادَه ولسانَه وجوارِحَه فقلبه بقوله تعالى: مَا كَذَبَ الْفُؤادُ مَا رَأى [النجم: 11] ، ولسانَهُ- عليه السلام- بقوله تعالى: وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى [النجم: 3] ، وبصرَهُ بقوله تعالى: مَا زاغَ الْبَصَرُ وَما طَغى اهـ. ولما فرغ من ذكر عظمة اللَّه وقدرته قال على جهة التوقيف: أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى ... الآية، أي: أرأيتم هذه الأوثان وحقارَتَها وبُعْدَهَا عن هذه القدرة والصفات العَلِيَّةِ، واللات: صنم كانتِ العربُ تعظمه، والعُزَّى: صخرة بيضاءُ كانت العرب أيضاً تعبُدُها، وأمَّا مناة: فكانت بالمشلل من قديد، وكانت أعظم هذه الأوثان عندهم، وكانت الأوس والخزرج تهل لها، ووقف تعالى الكُفَّارَ على هذه الأوثان، وعلى قولهم فيها: إنها بنات اللَّه، فكأَنَّه قال: أرأيتم هذه الأوثانَ وقولَكُمْ: هي بناتُ اللَّه أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثى ثم قال تعالى على جهة الإنكار: تِلْكَ إِذاً قِسْمَةٌ ضِيزى أي: عوجاء قاله مجاهد [[أخرجه الطبري (11/ 522) برقم: (32546) ، وذكره البغوي (4/ 250) ، وابن عطية (5/ 201) .]] ، وقيل: جائرة قاله ابن عباس [[أخرجه الطبري (11/ 522) برقم: (32549) ، وذكره البغوي (4/ 250) ، وابن عطية (5/ 201) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (6/ 164) ، وعزاه لابن جرير.]] ، وقال سفيان [[أخرجه الطبري (11/ 522) برقم: (32550) ، وذكره ابن عطية (5/ 201) .]] : معناه: منقوصة، وقال ابن زيد [[أخرجه الطبري (11/ 522) برقم: (32551) ، وذكره ابن عطية (5/ 201) .]] : معناه: مخالفة، والعرب تقول: ضِزْتُهُ حَقَّهُ أَضِيزُهُ بمعنى: منعته، وضِيزَى من هذا التصريف قال أبو حيان [[ينظر: «البحر المحيط» (8/ 160) .]] : والثَّالِثَةَ الْأُخْرى صفتان لمناة للتأكيد، قيل: وأُكِّدَتْ بهذين الوصفين لِعَظَمِهَا عندهم، وقال الزمخشري: والأخرى ذَمٌّ، وهي المتأخرة الوضيعة المقدارِ، وتُعُقِّبَ/ بأنَّ أخرى مُؤنث آخر، ولم يُوضَعَا لِلذَّمِ ولا للمدح. ت: وفي هذا التعقب تعسف، والظاهر أَنَّ الوصفين معاً سِيقَا مَسَاقَ الذَّمِّ لأَنَّ هؤلاءِ الكُفَّارِ لم يكتفوا بضلالهم في اعتقادهم ما لا يجوز في اللات والعزى، إِلى أَنْ أضافوا إلى ذلك مَنَاةَ الثالثة الأخرى الحقيرة، وكُلُّ أصنامهم حقير، انتهى. ثم قال تعالى: إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْماءٌ يعني: إنْ هذه الأوصافُ من أَنَّها إناث، وَأَنَّها آلهة تعْبَدُ، ونحو هذا- إلاَّ أَسماءٌ، أي: تسميات اخترعتموها أنتم وآباؤكم، ما أنزل اللَّه بها برهاناً ولا حُجَّةً، وما هو إلاَّ اتِّباعُ الظن، وَما تَهْوَى الْأَنْفُسُ وهَوَى الأنفس هو إرادتها الملذة لها، وإِنَّما تجد هوى النفس أبداً في ترك الأفضل لأَنَّها مجبولةٌ بطبعها على حُبِّ الملذ، وإِنَّما يَرْدَعُها وَيَسُوقُها إلى حُسْنِ العاقبة العقلُ والشرع. وقوله سبحانه: وَلَقَدْ جاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدى فيه توبيخ لهم، إِذْ يفعلون هذه القبائِحَ والهدى حاضر، وهو محمد وشرعه، والإنسان في قوله: أَمْ لِلْإِنْسانِ اسم جنس، كأَنَّه يقول: ليست الأشياءُ بالتمني والشهوات، وإِنَّما الأمر كُلُّه للَّه، والأعْمَالُ جاريةٌ على قانون أمره ونهيه، فليس لكم- أَيُّهَا الكَفَرَةُ- مُرَادُكُمْ في قولكم: هذه آلهتنا، وهي تشفعُ لنا، وتُقَرِّبُنَا إِلى اللَّه زُلْفَى، ونحو هذا فَلِلَّهِ الْآخِرَةُ وَالْأُولى أي: له كل أمرهما: مُلْكاً، ومقدوراً، وتَحْتَ سلطانه، قال الشيخ أبو عبد الرحمن السلمي في كتاب «عيوب النفس» : ومن عيوب النفس كثرةُ التَّمَنِّي، والتَّمَنِّي هو الاعتراضُ على اللَّه عَزَّ وجلَّ في قضائه وقَدَرِهِ، ومداواتُها/ أَنْ يعلم أَنَّه لا يدري ما يعقبه التمني، أيجرُّهُ إلى خير أو إلى شَرٍّ؟ فإذا تَيَقَّنَ إبهام عاقبة تمنيه، أَسْقَطَ عن نفسه ذلك، ورَجَعَ إلى الرِّضَا والتسليم، فيستريح، انتهى.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب