الباحث القرآني

وقوله سبحانه: وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمانٍ أَلْحَقْنا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ اختُلِفَ في معنى الآيةِ، فقال ابن عباس، وابن جبير، والجمهور: أخبر اللَّه تعالى أَنَّ المؤمنين الذين اتبعتهم ذريتهم في الإيمان يلحق الأبناء في الجنة بمراتب الآباء، وإنْ لم يكن الأبناء في التقوى والأعمال كالآباء كرامةً للآباء [[أخرجه الطبري (11/ 487) برقم: (32338) ، و (11/ 488) برقم: (32339) ، وذكره البغوي (4/ 239) ، وابن عطية (5/ 189) ، وابن كثير في «تفسيره» (4/ 241) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (6/ 148) ، وعزاه لابن أبي حاتم.]] ، وقد ورد في هذا المعنى حديث عن النبي ﷺ فجعلوا الحديثَ تفسيراً للآية، وكذلك وردت أحاديث تقتضي أَنَّ اللَّه تعالى يرحم الآباء رعياً للأبناء الصالحين، وقال ابن عباس أيضاً والضَّحَّاكُ. معنى الآية: أَنَّ اللَّه تعالى يلحق الأبناء الصغار بأحكام الآباء المؤمنين، يعني في الموارثة والدفن في مقابر المسلمين، وفي أحكام الآخرة في الجنة [[ذكره ابن عطية (5/ 189) .]] ، وقال منذر بن سعيد: هي في الصغار لا في الكبار [[ينظر: المصدر السابق.]] قال ع [[ينظر: «المحرر الوجيز» (5/ 189) .]] : وأرجح الأقوال في هذه الآية القول الأَوَّل لأَنَّ الآياتِ كلَّها في صفة إحسان اللَّه تعالى إلى أهل الجنة، فذكر من جملة إحسانِهِ سبحانه أَنَّه يرْعَى المحسنَ في المسيء، ولفظة أَلْحَقْنا تقتضي أَنَّ لِلْمُلْحَقِ بعضَ التقصير في الأعمال. ت: وأظهرُ مَنْ هذا ما أشار إليه الثعلبيُّ في بعض أنقاله: أَنَّ اللَّه تعالى يجمع لعبده المؤمن ذُرِّيَّتَهُ في الجنة، كما كانوا في الدنيا، انتهى، ولم يتعرَّضْ لذكر الدرجات في هذا التأويل، وهو أحسن لأَنَّهُ قد تقرَّرَ أَنَّ رفع الدرجات هي بأعمال العاملين، والآياتُ/ والأحاديث مُصَرِّحَةٌ بذلك، ولما يلزم على التأويل الأَوَّلِ أَنْ يكونَ كلّ من دخل الجنة مع آدم ع في درجةٍ واحدة إذ هم كُلُّهم ذرِّيَّتُهُ، وقد فتحتُ لك باباً للبحث في هذا المعنى منعني من إتمامه ما قصدته من الاختصار، وباللَّه التوفيق. وقوله: وَما أَلَتْناهُمْ أي: نقصناهم، ومعنى الآية أَنَّ اللَّه سبحانهُ يُلْحِقُ الأبناء بالآباء، ولا يُنْقِصُ الآباء من أجورهم شيئاً، وهذا تأويل الجمهور، ويحتمل أَنْ يريدَ: مِنْ عمل الأَبناء من شيء من حسن أو قبيح، وهذا تأويل ابن زيد [[أخرجه الطبري (11/ 491) برقم: (32364) ، وذكره ابن عطية (5/ 190) .]] ، ويُؤيِّدُهُ قوله سبحانه: كُلُّ امْرِئٍ بِما كَسَبَ رَهِينٌ والرهين: المُرْتَهِنُ، وفي هذه الألفاظ وعيد، وأمددتُ الشيءَ: إذا سرّبْتُ إليه شيئا آخر يكثره أو يكثر لديه. وقوله: مِمَّا يَشْتَهُونَ إشارة إلى ما رُوِيَ من أَنَّ المُنَعَّمَ إذا اشتهى لحماً نزل ذلك الحيوان بين يديه على الهيئة التي اشتهاه فيها، وليس يكون في الجنة لحم يحتز، ولا يُتَكَلَّفُ فيه الذبح، والسلخ، والطبخ، وبالجملة لا كلفة في الجنة، ويَتَنازَعُونَ معناه: يتعاطون ومنه قول الأخطل: [البسيط] نَازَعْتُهُ طَيِّبَ الَّراحِ الشَّمُولِ وَقَد ... صَاحَ الدَّجَاجُ وَحَانَتْ وَقْعَةُ السَّارِي [[ينظر: البيت في «ديوانه» (142) ، و «جمهرة أشعار العرب» (725) ، والقرطبي (17/ 46) ، و «روح المعاني» (27/ 34) ، و «البحر المحيط» (8/ 147) . والساري: الذي يمشي ليلا.]] ، قال الفخر [[ينظر: «تفسير الرازي» (14/ 218) .]] : ويحتمل أنْ يقال: التنازع: التجاذُبُ، وحينئذ يكون تجاذُبُهُمْ تجاذبَ مُلاَعَبَةٍ، لا تجاذب منازعة، وفيه نوعُ لَذَّةٍ، وهو بيان لما عليه حال الشُرَّابِ في الدنيا فإنَّهم يتفاخرون بكثرة الشرب، ولا يتفاخرون بكثرة الأكل، انتهى، والكأس: الإِناء فيه الشراب، ولا يقال في فارغ كأس قاله الزَّجَّاج [[ينظر: «معاني القرآن» (5/ 63) .]] ، واللغو: السَّقَطُ من القول، والتأثيم: يلحق خَمْرَ الدنيا في نفس شُرْبِهَا وفي الأفعال التي تكون من شاربيها، وذلك كُلُّه/ مُنْتَفٍ في الآخرة. ت: قال الثعلبيُّ: وقال ابن عطاء: أيُّ لغوٍ يكون في مجلس: مَحَلُّهُ جَنَّةُ عدن، والساقي فيه الملائكة، وشربُهم على ذكر اللَّه، ورَيحانُهم تحيَّةٌ من عند اللَّه، والقومُ أضياف اللَّه. وَلا تَأْثِيمٌ أي: فعل يُؤْثِمُهُمْ، وهو تفعيل من الإثم، أي: لا يأثمونَ في شربها، انتهى، واللؤلؤ المكنون أجملُ اللؤلؤ لأَنَّ الصون والكَنُّ يُحَسِّنُهُ، قال ابن جبير: أراد الذي في الصّدَفِ لم تنله الأيدي [[ذكره البغوي (4/ 240) ، وابن عطية (5/ 190) .]] ، وقيل للنبيّ ﷺ: «إذَا كَانَ الْغِلْمَانُ كَاللُّؤْلُؤ المَكْنُونِ فَكَيْفَ المَخْدُومُونَ؟ قال: هُمْ كَالْقَمَرِ لَيْلَةَ الْبَدْرِ» [[أخرجه الطبري (11/ 492) برقم: (32369) ، (32370) ، وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (6/ 149) ، وعزاه إلى عبد الرزاق، وابن المنذر.]] . ت: وهذا تقريب للأفهام، وإلاَّ فجمال أهلِ الجَنَّةِ أَعْظَمُ من هذا، يَدُلُّ على ذلك أحاديث صحيحة ففي «صحيح مسلم» من حديث أبي هريرةَ- رضي الله عنه- قال: قال رسول الله ﷺ: «إنَّ أَوَّلَ زُمْرَةٍ يَدْخُلُونَ الجَنَّةَ- وفي رِوَايَةٍ: «مِنْ أُمَّتِي» عَلَى صُورَةِ الْقَمَرِ لَيْلَةَ الْبَدْرِ، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ على أَشَدِّ كَوْكَبٍ دُرِّيٍّ في السَّمَاءِ إضَاءَةً» [[أخرجه البخاري (6/ 367) كتاب «بدء الخلق» باب: ما جاء في صفة الجنة وأنها مخلوقة (3245، 3246، 3254) ، (6/ 417) ، كتاب «أحاديث الأنبياء» باب: خلق آدم وذريته (3327) ، ومسلم (4/ 2178) ، (2180) ، كتاب «الجنة وصفة نعيمها وأهلها» باب: أول زمرة تدخل الجنة على هيئة القمر ليلة البدر، وصفاتهم وأزواجهم (14/ 2834) - مكرر، (15- 16/ 2834) ، والترمذي (4/ 678) ، كتاب «صفة الجنة» باب: في صفة أهل الجنة (2537) ، وأحمد (20، 230، 231، 232، 247، 253، 257، 316، 502، 507) ، وابن ماجه (2/ 1449) ، كتاب «الزهد» باب: صفة الجنة (4333) ، وابن حبان (16/ 436) ، كتاب «إخباره ﷺ عن مناقب الصحابة» باب: وصف الجنة وأهلها (7420) ، (16/ 463- 464) ، كتاب «إخباره ﷺ عن مناقب الصحابة» باب: وصف الجنة وأهلها (7436- 7437) ، والحميدي (2/ 483- 484) (1143) ، والدارمي (2/ 333- 334) ، كتاب «الرقائق» باب: في أول زمرة يدخلون الجنة، وابن المبارك في «الزهد» (1/ 549) (1575) ، (1/ 552) (1585) مثله ونحوه. قال الترمذي: هذا حديث صحيح.]] ، وفي رواية: «ثُمَّ هُمْ بَعْدَ ذَلِكَ مَنَازِلُ» الحديثَ، وفي «صحيح مسلم» أيضا عن النبي ﷺ: «إنَّ في الجَنَّةَ لَسُوقاً يَأْتُونَهَا كُلَّ جُمْعَةٍ، فَتَهُبُّ رِيحُ الشَّمَالِ، فَتَحْثُو في وُجُوهِهِمْ وَثِيَابِهِمْ، وَيَزْدَادُونَ حُسْناً وَجَمَالاً، فَيَقُولُ لَهُمْ أَهْلُوهُمْ: واللَّهِ، لَقَدِ ازْدَدْتُمْ بَعْدَنَا حُسْناً وَجَمَالاً! فَيَقُولُونَ: وَأَنْتُمْ واللَّهِ، لَقَدِ ازْدَدْتُمْ بَعْدَنَا حُسْناً وَجَمَالاً» [[أخرجه مسلم (4/ 2178) ، كتاب «الجنة وصفة نعيمها» باب: في سوق الجنة وما ينالون فيها من النعيم (13/ 2833) .]] ، انتهى، وقد أشار الغَزَّاليُّ وغيره إلى طَرَفٍ من هذا المعنى، لَمَّا تكلَّم على رؤية العارفين للَّه سبحانه في الآخرة، قال بعد كلام: ولا يَبْعُدُ أَنْ تكونَ ألطاف الكشف والنظر في الآخرة متواليةً إلى غير نهاية، فلا يزالُ النعيمُ واللَّذَّةُ متزايداً أبَدَ الآبادِ، وللشيخ أبي الحسن الشاذلي هنا كلام حسن قال: لو كُشِفَ عن نور المؤمن لعبد من دون اللَّه، ولو كُشِفَ عن نور المؤمن العاصي لطبق السماء والأرض، / فكيف بنور المؤمن المطيع؟! نقل كلامه هذا ابن عطاء اللَّه وابن عَبَّاد، انظره. ثم وصف تعالى عنهم أَنَّهُم في جملة تنعمهم يَتَساءَلُونَ أي: عن أحوالهم وما نال كُلَّ واحد منهم، وأَنَّهم يتذكرون حالَ الدنيا وخشيتَهم عذابَ الآخرة، والإشفاقُ أشدّ الخشية ورقّة القلب، والسَّمُومِ: الحارّ، ونَدْعُوهُ: يحتمل أَنْ يريد: الدعاءَ على بابه، ويحتمل أنْ يريد نعبده، وقرأ نافع والكسائيُّ: «أَنَّهُ» - بفتح الهمزة-، والباقون بكسرها [[ينظر: «السبعة» (613) ، و «الحجة» (6/ 227) ، و «معاني القراءات» (3/ 34) ، و «شرح الطيبة» (6/ 23) ، و «العنوان» (181) ، و «حجة القراءات» (683) ، و «شرح شعلة» (590) ، و «إتحاف» (2/ 497) .]] والْبَرُّ الذي يبرّ ويحسن.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب