الباحث القرآني
وقوله تعالى: لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَداوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا ...
الآية: اللامُ في قوله: لَتَجِدَنَّ: لام ابتداءٍ، وقال الزَّجَّاج [[ينظر: «معاني القرآن» للزجاج (2/ 199) .]] : هي لامُ قَسَمٍ، وهذا خبر مُطْلَقٌ منسحبٌ على الزمان كلِّه، وهكذا هو الأمر حتَّى الآن، وذلك أن اليهودَ مَرَنُوا على تكذيبِ الأنبياء وقَتْلِهِمْ، ومَرَدُوا على استشعار اللعْنَةِ، وضَرْبِ الذِّلَّة والمَسْكنة، فهم قد لَجَّتْ عداوتهم، وكَثُر حَسَدهم، فهم أشدُّ الناسِ عداوةً للمؤمنين وكذلك المشركون عبدةُ الأوثانِ والنِّيران، وأما النصارى، فإنهم يعظمون من أهْلِ الإسلام مَنِ استشعروا مِنه صِحَّة دِينٍ، ويستهينُونَ مَنْ فهموا منه الفِسْقَ، فهم إنْ حاربوا، فإنما حَرْبهم أَنَفَةٌ، لا أنَّ شرعهم يأخذهم بذلك، وإذا سالموا، فَسِلْمُهم صافٍ، واليهودُ (لعنهم اللَّه) ليسوا على شيء من هذه الخِلالِ، بل شأنهم الخُبْث، واللَّيُّ بالألسنة، والمَكْر، والغَدْر، ولم يصفِ اللَّه تعالَى النصارى بأنهم أهْلُ وُدٍّ، وإنما وصفهم بأنهم أقرَبُ من اليهود والمشركين، وفي قوله سبحانه: الَّذِينَ قالُوا إِنَّا نَصارى: إشارةٌ إلى معاصري نبيِّنا محمد ﷺ/ من النصارى بأنهم ليسوا على حقيقيَّة النصرانيَّة، وإنما هو قولٌ منهم، وزَعْم.
وقوله تعالى: ذلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْباناً ... الآية: معناه: ذلك بأن منهم أهْلَ خشْيَةٍ وانقطاع إلى اللَّه تعالى، وعبادةٍ، وإنْ لم يكونوا على هُدًى، فهم يَميلُونَ إلى أهل العبادةِ والخَشْيَةِ، وليس عند اليهود ولا كان قَطُّ- أهْلُ دياراتٍ وصوامِعَ وانقطاعٍ عن الدنيا، بل هم معظِّمون لها، متطاولُون في البنيان، وأمورِ الدنيا حتى كأنهم لا يؤمنون بالآخرة فلذلك لا يرى فيهم زاهد، قال الفَخْر [[ينظر: «مفاتيح الغيب» (12/ 56) .]] : القُسُّ والْقِسِّيسُ: اسمُ رئيس النصارى، والجمْعُ: قِسِّيسُونَ، وقال قُطْرُب: القُسُّ والقِسِّيس: العَالِمُ بلغة الرُّوم، وهذا مما وقع الوِفَاقُ فيه بَيْن اللغتَيْنِ. انتهى.
ووصف اللَّه سبحانه النصارى، بأنهم لا يستكبرون، وهذا موجودٌ فيهم حتى الآن، واليهوديُّ متى وجد عِزًّا، طغى وتكبَّر، ثم مدحهم سبحانه، فقال: وَإِذا سَمِعُوا ما أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ ... الآية: قال النوويُّ: ينبغي للقارىء أن يكون شأنُهُ الخشوعَ والتدبُّر والخضوعَ فهذا هو المقصود المطلوبُ، وبه تنشرح الصدورُ، وتستنيرُ القُلُوب، ودلائلُه أكْثَرُ من أنْ تُحْصَر، وأشهرُ من أنْ تُذْكَر، وقد بات جماعةٌ من السَّلَف يتلو الواحدُ منهم آيةً واحدةً، ليلةً كاملةً، أو معظمَ ليلةٍ يتدَبَّرها، وصُعِقَ جماعاتٌ منهم عند سماع القرآن، وقراءتِهِ، وماتَ جماعاتٌ منهم، ويستحب البكاءُ والتباكِي لِمَنْ لا يقدر على البكاء فإن البكاء عند القراءة صفةُ العارفين، وشعارُ عُبَّادِ اللَّه الصَّالحين، قال اللَّه عزَّ وجلَّ: وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعاً [الإسراء: 109] وقد وردَتْ آثار كثيرة في ذلك. انتهى من «الحلية» للنوويِّ.
وذكر ابن عباس وابن جُبَيْر ومجاهد أنَّ هذه الآية نزلَتْ بسبب وَفْدٍ بعثهم النجاشيّ إلى رسول الله ﷺ ليروه ويعرفوا حاله، فقرأ النبيّ ﷺ عليهم القُرآن، فَبَكَوْا وآمَنُوا، ورَجعُوا إلى النجاشيِّ، فآمن، ولم يَزَلْ مؤمناً حتى ماتَ، فصلى عليه النبيّ ﷺ [[أخرجه الطبري في «تفسيره» (5/ 3) برقم (12319) عن مجاهد، (12318) عن سعيد بن جبير، (12320) عن ابن عباس، وذكره ابن عطية (2/ 226) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (2/ 537) ، وعزاه لعبد بن حميد، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبي الشيخ، وابن مردويه، عن سعيد بن جبير، وعزاه أيضا لعبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبي الشيخ، عن مجاهد.]] ، وروي أنَّ نَعْشَ النجاشيِّ كُشِفَ للنبيِّ- عليه السلام- فكان يراه مِنْ موضعه بالمدينةِ وجاء الخَبَرُ بعد مدة أنَّ النجاشيَّ دُفِنَ في اليوم الذي صلّى فيه النبيّ ﷺ عليه، قال أبو صالح: كانوا سبعةً وستين رجلاً [[أخرجه الطبري (5/ 5) برقم (12326) ، وذكره ابن عطية (2/ 226) .]] ، وقال ابن جُبَيْرٍ: كانوا سبعين، عليهم ثيابُ الصُّوف، وكُلُّهم صاحبُ صَوْمَعَة اختارهم النجاشيُّ [[أخرجه الطبري (5/ 6) برقم (12328) ، وذكره ابن عطية (2/ 226) ، والسيوطي (2/ 537) وعزاه لعبد بن حميد، وابن المنذر، وابن أبي حاتم.]] .
وصَدْرُ الآية في قُرْب المودَّة عامٌّ فيهم، ولا يتوجَّه أنْ يكون صَدْر الآية خاصًّا فيمن آمن، وإنما وقع التخصيص مِنْ قوله تعالى: وَإِذا سَمِعُوا، وجاء الضمير عامّا إذا قد تُحْمَدُ الجماعةُ بفعْلِ واحدٍ منهم، وفي هذا استدعاء للنصارى، ولُطْفٌ من اللَّه بهم ليؤمنوا.
قال ص: مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ: «مِن» الأولى لابتداءِ الغاية.
قال أبو البقاء: ومعناها: مِنْ أجْل الذي عَرَفُوا، و «من» الثانية لبيان «ما» الموصولة.
انتهى.
قال العراقيُّ: تَفِيضُ، أي: تسيل منها العَبْرَةُ، وفي الحديثِ: «اقرءوا القُرْآنَ، وابكوا، فَإنْ لَمْ تَبْكُوا، فَتَبَاكَوْا» ، خرَّجه البزِّار [[تقدم «تفسيره» في أول التفسير.]] . انتهى من «الكوكب الدري» ، وفيه عن البزَّار أيضاً أنَّ النبيَّ ﷺ قال: «مَنْ خَرَجَ مِنْ عَيْنَيْهِ مِثْلُ جَنَاحِ ذُبَابٍ دُمُوعاً مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ، لَمْ يَدْخُلِ النَّارَ حتى يَعُودَ اللَّبَنُ فِي ضَرْعِهِ» . انتهى.
وقولهم: مَعَ الشَّاهِدِينَ، يعني: نبيّنا محمّدا ﷺ، وأمته قاله ابن عباس [[أخرجه الطبري (5/ 7) برقم (12336) ، وذكره ابن عطية (2/ 227) .]] وغيره، وقال [[ينظر: الطبري (5/ 8) .]] الطبريُّ: لو قال قائلٌ: معنى ذلك: «مع الشاهِدينَ بتَوْحيدك من جميع العَالَمِ» ، لكان صواباً، وهو كلامٌ صحيحٌ وكأن ابنَ عَبَّاس خصَّص أمة محمد لقول اللَّه سبحانه: وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً ... [البقرة: 143] الآية، وقولهم: وَما لَنا لاَ نُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَما جاءَنا مِنَ الْحَقِّ: توقيفٌ لأنفسهم أو مُحَاجَّةٌ لِمَنْ عارضهم من الكفار، والقومُ الصالِحُون: محمَّد ﷺ، وأصحابه قاله ابن زيد وغيره [[أخرجه الطبري في «تفسيره» (2/ 8) (12339) ، وذكره ابن عطية في «تفسيره» (2/ 226) .]] من المفسِّرين، ثم ذكر تعالى ما أثابهم به مِنَ النعيم على إيمانهم وإحسانهم، ثم ذكر سبحانه حال الكافرين المكذّبين، وأنهم قرناء الجحيم.
{"ayahs_start":82,"ayahs":["۞ لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ ٱلنَّاسِ عَدَ ٰوَةࣰ لِّلَّذِینَ ءَامَنُوا۟ ٱلۡیَهُودَ وَٱلَّذِینَ أَشۡرَكُوا۟ۖ وَلَتَجِدَنَّ أَقۡرَبَهُم مَّوَدَّةࣰ لِّلَّذِینَ ءَامَنُوا۟ ٱلَّذِینَ قَالُوۤا۟ إِنَّا نَصَـٰرَىٰۚ ذَ ٰلِكَ بِأَنَّ مِنۡهُمۡ قِسِّیسِینَ وَرُهۡبَانࣰا وَأَنَّهُمۡ لَا یَسۡتَكۡبِرُونَ","وَإِذَا سَمِعُوا۟ مَاۤ أُنزِلَ إِلَى ٱلرَّسُولِ تَرَىٰۤ أَعۡیُنَهُمۡ تَفِیضُ مِنَ ٱلدَّمۡعِ مِمَّا عَرَفُوا۟ مِنَ ٱلۡحَقِّۖ یَقُولُونَ رَبَّنَاۤ ءَامَنَّا فَٱكۡتُبۡنَا مَعَ ٱلشَّـٰهِدِینَ","وَمَا لَنَا لَا نُؤۡمِنُ بِٱللَّهِ وَمَا جَاۤءَنَا مِنَ ٱلۡحَقِّ وَنَطۡمَعُ أَن یُدۡخِلَنَا رَبُّنَا مَعَ ٱلۡقَوۡمِ ٱلصَّـٰلِحِینَ","فَأَثَـٰبَهُمُ ٱللَّهُ بِمَا قَالُوا۟ جَنَّـٰتࣲ تَجۡرِی مِن تَحۡتِهَا ٱلۡأَنۡهَـٰرُ خَـٰلِدِینَ فِیهَاۚ وَذَ ٰلِكَ جَزَاۤءُ ٱلۡمُحۡسِنِینَ","وَٱلَّذِینَ كَفَرُوا۟ وَكَذَّبُوا۟ بِـَٔایَـٰتِنَاۤ أُو۟لَـٰۤىِٕكَ أَصۡحَـٰبُ ٱلۡجَحِیمِ"],"ayah":"وَٱلَّذِینَ كَفَرُوا۟ وَكَذَّبُوا۟ بِـَٔایَـٰتِنَاۤ أُو۟لَـٰۤىِٕكَ أَصۡحَـٰبُ ٱلۡجَحِیمِ"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق