الباحث القرآني

وقوله تعالى: وَقالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسى ... الآية، الظاهرُ مِنْ أمرِ فِرْعَوْنَ أنه لمَّا بهرتهم آيات موسى ع انهد رُكْنُهُ، واضطربت معتقداتُ أَصْحَابِهِ، ولم يَفْقِدْ مِنْهُمْ من يجاذبُهُ الْخِلاَفُ في أمْرِه، وذلك بَيِّنٌ مِنْ غَيرِ مَا مَوْضِعٍ مِنْ قِصَّتهما، وفي هذه الآية على ذلك دَلِيلاَنِ: أحدُهما: قوله: ذَرُونِي فليستْ هذه مِنْ ألفاظِ الجَبَابِرَةِ المتمكِّنِينَ مِنْ إنفاذ أوامِرِهمْ. والدليل الثاني: مَقَالَةُ المُؤْمِنِ وَمَا صَدَعَ به، وإنَّ مكاشَفَتَهُ لِفِرْعَوْنَ أكْثَرُ مِنْ مُسَاتَرَتِهِ، وحُكْمُه بِنُبُوَّةِ موسى أظْهَرُ/ من تَوْرِيَتِهِ في أَمْرِهِ، وأَمَّا فِرْعَوْنُ فإنما نَحا إلى المَخْرَقَةِ والتَمْوِيهِ والاضْطرابِ، ومن ذلك قوله: ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ أي: إني لا أبالي بربِّ موسى، ثم رجَعَ إلى قومِه يُرِيهُم النَّصِيحَةَ والحمايةُ لهم، فقالَ: إِنِّي أَخافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ والدين: السلطانُ ومنه قولُ زُهَيْرٍ: [البسيط] لَئِنْ حَلَلْتَ بِحَيٍّ في بَنِي أَسَدٍ ... في دِينِ عَمْرٍو وَحَالَتْ بَيْنَنَا فَدَكُ [[ينظر: «المحرر الوجيز» (4/ 555) .]] وقرأ حمزةُ والكسائي وعاصم: «أَوْ أَنْ يُظْهِرَ» وقرأ الباقون: «وَأَنْ يُظْهِرَ» [[ينظر: «السبعة» (569) ، و «الحجة» (6/ 107) ، و «إعراب القراءات» (2/ 265) ، و «معاني القراءات» (2/ 344) ، و «شرح الطيبة» (5/ 205) ، و «العنوان» (167) ، و «حجة القراءات» (629) ، و «شرح شعلة» (570) ، و «إتحاف» (2/ 436) .]] فعلَى القراءةِ الأولى: خافَ فِرْعَوْنُ أَحَدَ أمْرَيْنِ، وعلى الثانيَةِ: خَافَ الأَمْرَيْنِ معاً، ولَمَّا سَمِعَ موسى مقالةَ فِرْعَوْنَ دَعَا، وقال: إِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ ... الآية، ثم حكَى اللَّهُ سبحانه مقالةَ رَجُلٍ مُؤْمِنٍ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ شرَّفَه بالذكْرِ وخلَّدَ ثَنَاءَه في الأُمَمِ غَابِرَ الدَّهْرِ، قال ع [[ينظر: «المحرر الوجيز» (4/ 555) .]] : سمعتُ أبي- رحمه اللَّه- يقول: سمعتُ أَبا الفَضْلِ ابْنَ الجَوْهَرِيِّ على المنبر يقول وَقَدْ سُئِلَ أن يتكلَّمَ في شيءٍ من فضَائِل الصحابةِ، فأَطْرَقَ قليلاً، ثُمَّ رَفَع رأْسَهُ، وأنشد: [الطويل] عَنِ المَرْءِ لاَ تَسْأَلْ وَسَلْ عَنْ قَرِينِهِ ... فَكُلُّ قَرِينٍ بِالمُقَارَنِ مُقْتَدِ [[البيت ذكره الخطابي في «العزلة» ص: (69) . ينظر: «المحرر الوجيز» (5/ 556) .]] مَاذَا تُرِيدُ من قومٍ قَرَنَهُمُ اللَّهُ بنبيِّه، وخصَّهم بمشاهدةِ وَحْيِهِ، وقَدْ أَثْنَى اللَّهُ تعالى على رَجُلٍ مُؤْمِنٍ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ، كَتَمَ إيمانَهُ وأَسَرَّهُ، فجعلَه تعالى في كتابهِ، وأثْبَتَ ذِكْرَهُ في المصاحِفِ، لكلامٍ قَالَه في مَجْلِسٍ مِنْ مَجَالِسِ الْكُفْرِ، وأَيْنَ هُوَ مِنْ عُمَرَ بْنِ الخَطَّابِ- رضي اللَّه عنه- إذْ جَرَّدَ سَيْفَهُ بمكَّةَ، وقال: واللَّهِ، لاَ أَعْبُدُ اللَّهَ سِرًّا بَعْدَ اليَوْمِ، قال مقاتل: كان هذا المؤمنُ ابْنَ عَمِّ فِرْعَوْنَ [[أخرجه الطبري في «تفسيره» (11/ 54) برقم: (30323) عن السدي، وذكره البغوي في «تفسيره» (4/ 96) ، وابن عطية في «تفسيره» (4/ 556) ، وابن كثير في «تفسيره» (4/ 77) .]] ، قال الفَخْرُ [[ينظر: «الفخر الرازي» (27/ 50) .]] : قيل: إنَّه كانَ ابْنَ عَمٍّ لِفِرْعَوْنَ، وكانَ جَارِياً مجرى وَلِيِّ العهدِ له، ومجرى صاحبِ السِّرِّ لَه، وقيلَ: كانَ قِبْطِيًّا مِنْ قومِ/ فرعونَ، وقيل: إنه كانَ من بني إسرائيل، والقولُ الأولُ أَقْرَبُ لأن لَفْظَ الآلِ يقعُ على القَرَابَةِ والعشيرةِ، انتهى. قال الثعلبيُّ: قال ابنُ عباس وأكْثَرُ العُلَمَاءِ: كانَ اسمُهُ «حَزْقِيلَ» [[ذكره البغوي في «تفسيره» (4/ 96) عن ابن عبّاس، وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (5/ 655) ، وعزاه لابن المنذر.]] ، وقيل: حَزِيقَال، وقيل: غير هذا، انتهى. وقوله: يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ قال أبو عُبَيْدَةَ وغَيْره: بَعْضُ هنا بمعنى: «كل» [[ذكره البغوي في «تفسيره» (4/ 96) ، وابن عطية في «تفسيره» (4/ 556) .]] ، وقال الزَّجَّاج: هو إلْزَامُ الحُجَّةِ بِأَيْسَرِ ما في الأمرِ [[ذكره ابن عطية في «تفسيره» (4/ 556) .]] ، وليسَ فيه نَفْيُ إصَابَةِ الكُلِّ، قال ع [[ينظر: «المحرر الوجيز» (4/ 556) .]] : ويظهرُ لي أنَّ المعنى: يُصِبْكُمُ القَسْمُ الواحدُ مما يَعِدُ بِهِ، [لأنَّه ع وَعَدَهُمْ إنْ آمَنُوا بالنَّعِيمِ، وإنْ كَفَرُوا بالعذابِ الأَلِيمِ، فإن كانَ صادِقاً، فالعذابُ بَعْضُ مَا وعد به] [[سقط في: د.]] ، وقول المؤمن: يا قَوْمِ لَكُمُ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ظاهِرِينَ فِي الْأَرْضِ اسْتِنْزَالٌ لهم وَوَعْظٌ. وقوله: فِي الْأَرْضِ يريدُ أرْضَ مِصْرَ، وهذه الأقوالُ تَقْتَضِي زَوالَ هَيْبَةِ فرعونَ ولذلكَ اسْتَكَانَ هُوَ، وَرَاجَعَ بقوله: مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرى واخْتَلَفَ الناسُ مِنَ المُرَادِ بقوله تعالى: وَقالَ الَّذِي آمَنَ، فقالَ الجمهورُ: هو المُؤْمِنُ المَذْكُورُ قَصَّ اللَّهُ تعالى أقاويله إلى آخر الآيات، وقالت فرقةٌ: بلْ كَلاَمُ ذلك المُؤْمِنِ قد تَمَّ وإنما أراد تعالى: ب الَّذِي آمَنَ موسى ع مُحْتَجِّينَ بقوَّةِ كَلاَمِهِ، وذكْرِ عذابِ الآخرةِ وغير ذلك ولم يَكُنْ كَلاَمُ الأوَّلِ إلا بملاينةٍ لهم. وقوله: مِثْلَ يَوْمِ الْأَحْزابِ أي: مثلَ يَوْمٍ منْ أَيَّامِهِمْ لأنَّ عذابَهُمْ لم يكُنْ في عَصْرٍ واحِدٍ، والمرادُ بالأحزابِ المُتَحَزِّبُونَ على الأنبياء، ومِثْلَ الثاني: بدلٌ مِن الأوَّل، والدَّأْبُ: العادةُ، «ويوم التنادي» معناه: يَوْمَ يُنَادِي قَومٌ قَوْماً، ويناديهمُ الآخرُونَ واختلف في التنادِي المُشَارِ إلَيْهِ، فقال قتادةُ: هو نِدَاءُ أهْلِ الجَنَّةِ أَهْلَ النارِ، فَهَلْ وَجَدْتُمْ مَّا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا [[أخرجه الطبري في «تفسيره» (11/ 56) برقم: (30331) ، (30332) عن قتادة، (30333) عن ابن زيد، وذكره ابن عطية في «تفسيره» (4/ 558) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (5/ 656) ، وعزاه لعبد بن حميد.]] [الأعراف: 44] وقيل: هو النداءُ الذي يَتَضَمَّنهُ قوله تعالى: يَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ أُناسٍ بِإِمامِهِمْ [الإسراء: 71] قال ع [[ينظر: «المحرر الوجيز» (4/ 558) .]] : ويحتملُ/ أَنْ يكُونَ المُرَادُ التَّذْكِيرَ بِكُلِّ نِدَاءٍ في الْقَيَامَةِ فيه مَشَقَّةٌ على الكُفَّار والعُصَاةِ وذلك كثِيرٌ. وقرأ ابن عبَّاس والضَّحَّاك وأبو صَالِحٍ: «يوم التَنَادِّ» بشدِّ الدال [[وقرأ بها الكلبي. ينظر: «المحتسب» (2/ 243) ، و «الشواذ» ص: (133) ، و «المحرر الوجيز» (4/ 558) ، و «البحر المحيط» (7/ 444) ، وزاد نسبتها إلى ابن مقسم، والزعفراني. وهي في «الدر المصون» (6/ 39) .]] وهذا معنًى آخرُ لَيْسَ من النداءِ، بل هُو مِنْ: نَدَّ البعيرُ: إذا هَرَبَ وبهذا المعنى فسَّر ابنُ عبَّاسٍ والسُّدِّيُّ هذه [[أخرجه الطبري في «تفسيره» (11/ 57) برقم: (30335) عن الضحاك، (30336) عن السدي، وذكره البغوي في «تفسيره» (4/ 97) ، وابن عطية في «تفسيره» (4/ 558) ، وابن كثير في «تفسيره» (4/ 79) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (5/ 656) ، وعزاه لابن المبارك، وعبد بن حميد، وابن المنذر عن الضحاك.]] الآيةَ، وَرَوَتْ هذه الفِرْقَةُ، في هذا المعنى حَدِيثاً أنَّ اللَّهَ تعالى إذا طَوَى السَّمَوَاتِ نَزَلَتْ مَلاَئِكَةُ كُلِّ سَمَاءٍ، فكانَتْ صَفًّا بَعْدَ صَفٍّ مستديرةً بالأرْضِ التي عليها الناسُ لِلْحِسَابِ فَإذَا رَأَى الخَلْقُ هولَ القيامةِ، وأخْرَجَتْ جَهَنَّمُ عنقاً إلى أصحابها، فَرَّ الكُفَّارُ ونَدُّوا مدْبِرينَ إلى كل جهةٍ، فتردُّهم الملائِكَةُ إلَى المَحْشَرِ لا عَاصِمَ لهم، والعاصم: المنجي.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب