الباحث القرآني

وقوله تعالى: اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ يريد القرآن، وروي عَنِ ابْنِ عبَّاس أن سبَبَ هذه الآيةِ أنَّ قَوْماً من الصحابةِ قالوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، حَدِّثْنَا بِأَحَادِيثَ حِسَانٍ، / وَأَخْبِرْنَا بأخبار الدّهر، فنزلت الآية [[أخرجه الطبري في «تفسيره» (10/ 629) برقم: (30125) ، وذكره ابن عطية في «تفسيره» (4/ 527) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (5/ 609) ، وعزاه لابن جرير.]] . وقوله: مُتَشابِهاً معناه مُسْتَوِياً لا تَنَاقُضَ فيه ولا تَدَافُعَ، بل يُشْبِهُ بَعْضُهُ بعضاً في رَصْفِ اللَّفْظِ، ووَثَاقَةِ البراهينِ، وشَرَفِ المعاني إذْ هِيَ اليَقِينُ في العقائدِ في اللَّهِ وصفاته وأفعاله وشرعه، ومَثانِيَ معناه: مَوْضِعُ تَثْنِيَةٍ للقصَصِ والأقضيةِ والمَوَاعِظِ تثنى فيهِ ولاَ تُمَلُّ مَع ذلك ولا يَعْرِضُهَا ما يَعْرِضُ الحديثَ المَعَادَ، وقال ابن عباس، ثنى فِيه الأَمْرَ مِرَاراً [[أخرجه الطبري في «تفسيره» (10/ 628) برقم: (30121) ، وذكره ابن عطية في «تفسيره» (4/ 527) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (5/ 610) بنحوه، وعزاه لابن مردويه.]] ، ولا ينصرفُ مَثانِيَ لأنه جمعٌ لا نَظِيرَ له في الواحد. وقوله تعالى: تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ عبارة عن قفّ شعر الإنسان عند ما يُدَاخِلُهُ خَوْفٌ ولِينُ قَلْبٍ عند سماعِ موعظةٍ أو زَجْرِ قرآن ونحوهِ، وهذه علامةُ وقوعِ المعنى المُخْشِعِ في قلبِ السامعِ، وفي الحديث أَنَّ أُبَيَّ بْنَ كَعْبٍ قرأ عند النبيِّ ﷺ، فرّقت القلوب فقال النبي ﷺ: «اغتنموا الدُّعَاءَ عِنْدَ الرِّقَّةِ فإنَّهَا رَحْمَةٌ» [[القضاعي في «مسند الشهاب» ، (692) ، وذكره الهندي في «كنز العمال» (2/ 102) (3341) ، والعجلوني في «كشف الخفاء ومزيل الإلباس» (1/ 168) (440) .]] وقال العبّاس بن عبد المطّلب: قال النبيّ ﷺ: «مَنِ اقشعر جِلْدُهُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ تعالى، تَحَاتَّتْ عَنْهُ ذُنُوبُهُ كَمَا تَتَحَاتُّ عَنِ الشَّجَرَةِ اليَابِسَةِ وَرَقُهَا» ، وَقَالَتْ أسْمَاءُ بِنْتُ أَبِي بَكْرٍ: «كان أصحاب النبيّ ﷺ تَدْمَعُ أَعْيُنُهُمْ وتقشعرُّ جلودُهم عند سماع القرآن، قيل لها: إن أقواماً اليومَ إذا سَمِعوا القرآن خَرَّ أحدُهم مَغْشِياً عليه، فقالت: أعوذُ باللَّهِ من الشيطانِ» [[ذكره البغوي في «تفسيره» (4/ 77) ، وابن عطية في «تفسيره» (4/ 528) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (5/ 610) ، وعزاه لسعيد بن منصور، وابن المنذر، وابن مردويه، وابن أبي حاتم، وابن عساكر عن عبد الله بن عروة بن الزبير عن جدته أسماء.]] ، وعن ابن عمر نحوُه، وقال ابن سيرين: بينَنَا وبين هؤلاء الذين يُصْرَعُونَ عند قراءة القرآن أن يُجْعَلَ أحَدُهم عَلى حَائِطٍ [مَادًّا] رِجْلَيْهِ، ثُمَّ يُقْرأُ عَلَيْه القرآن كلُّه/، فإن رمى بِنَفْسِهِ، فهو صَادِقٌ [[ذكره البغوي في «تفسيره» (4/ 77) ، وابن عطية في «تفسيره» (4/ 528) .]] . ت: وهذا كله تغليظٌ على المُرَائِينَ والمتصنِّعين، ولا خلاف أعلمهُ بين أربابِ القلوبِ وأئمَّةِ التصوُّفِ أن المُتَصَنِّعَ عندهم بهذه الأمور مَمْقُوتٌ، وأما مَنْ غَلَبَه الحالُ لِضَعْفِهِ وقَوِيَ الوارِدُ عليه حتى أذْهَبَهُ عَنْ حِسِّه فهو إن شاء اللَّهُ مِن السادةِ الأخْيارِ والأولياء الأبرار، وقَد وَقَعَ ذلك لكثير من الأخْيارِ يَطُولُ تَعْدَادُهم كابن وهب وأحمد بن مُعَتِّبٍ المالكيَّيْنِ، ذكرهما عياض في «مداركه» ، وأنهما ماتا من ذلك وكذلك مالك بن دينار مات مِنْ ذلك ذكره عبد الحَقِّ في «العاقبة» ، وغيرهم ممن لا يحصى كثرةً، ومن كلام عزِّ الدين بن عَبْدِ السَّلامِ- رحمه اللَّه- في قواعده الصغرى قال: وقَدْ يَصِيحُ بَعْضُهُمْ لِغَلَبَةِ الحَالِ عَلَيْهِ، وَإلْجَائِهَا إِيَّاهُ إلى الصِّيَاحِ، وهو في ذلك مَعْذُورٌ، ومَنْ صَاحَ لِغَيْرِ ذَلِكَ، فَمُتَصَنِّعٌ لَيْسَ مِنَ القَوْمِ في شَيْءٍ، وكذلِكَ من أظهر شيئاً من الأحوال رياءً أو تسميعاً، فإنه ملحَقٌ بالفجَّار دونَ الأبْرَارِ، انتهى. وقوله تعالى: ذلِكَ هُدَى اللَّهِ يحتملُ أَنْ يشيرَ إلى القرآن ويحتملُ أنْ يشير إلى الخَشْيَةِ واقشعرار الجُلُودِ، أيْ: ذلك أَمَارَةُ هدَى اللَّهِ. قال الغَزَّالِيُّ في «الإحياء» : والمُسْتَحَبُّ من التالِي للقرآن أن يَتأثر قلبهُ بآثار مختلفةٍ بحسْبِ اخْتِلاَفِ الآيات، فيكون له بحسَبِ كُلِّ فهمٍ حالٌ يَتَّصِفُ به قلبُهُ من الحُزْن والخَوْفِ والرجاءِ وغَيْرِ ذلك، ومَهْمَا تَمَّتْ معرفتُهُ كانَتِ الخشْيَةُ أَغْلَبَ الأحْوَالِ على قلبهِ، انتهى، قال الشيخ الوليُّ عبد اللَّه بن أبي جمرة: وكان النبيّ ﷺ في قيامِهِ يَكْسُوهُ من كل آية يَقْرَؤُهَا حَالٌ يُنَاسِبُ معنى تلكَ الآية، وكذلك يَنْبَغِي أن تَكُونَ تلاوةُ/ القرآن وألاَّ يكونَ تالِيهِ كمثل الحمار يحمل أسفارا، انتهى.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب