الباحث القرآني

هذه السورة مكية بإجماع إلّا السجدة منها، فقيل: مكيّة. وقيل: مدنيّة. قوله عزَّ وجل: كهيعص قد تقدَّمَ الكلامُ في فواتح السوَرِ. وقوله: ذِكْرُ رَحْمَتِ رَبِّكَ مرتَفِعٌ بقولهِ: كهيعص في قَوْلِ فرقَةٍ. وقيل: إنَّهُ ارتفعَ على أَنَّهُ خَبَرُ مُبْتَدأ محذوفٍ تَقْديرُهُ: هذا ذكر، وحكَى أبو عمرو الدَّانِي عن ابن يعمر [[ينظر «مختصر الشواذ» ص (86) ، و «المحرر الوجيز» (4/ 14) ، و «البحر المحيط» (6/ 163) ، و «الدر المصون» (4/ 490) .]] أَنَّه قرأ: «ذَكِّر رَحْمَة رَبِّكَ» : بفتح الذَّالِ، وكسر الكافِ المشدَّدة، ونصبِ الرَّحمة. وقوله نادى: مَعناه بالدُّعَاءِ والرغبَةِ قاله ابنُ العربيِّ في «أحكامه» [[ينظر: «أحكام القرآن» (3/ 1250) .]] . وقوله تعالى: إِذْ نادى رَبَّهُ نِداءً خَفِيًّا: يناسِبُ قَوْلَهْ: ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً. [الأعراف: 55] . وفي «الصحيح» عن النبي ﷺ أَنه قَال: «خيرُ الذَّكْرِ الخفيُّ، وخيرُ الرِّزقِ ما يكفي» [[تقدم تخريجه.]] وذلك لأَنَّهُ أَبْعَدُ مِن الرياء، فأَمَّا دُعاءُ زكرياء عليه السلام فإنما كان خفيّاً لوجهين: أَحدُهُما: أَنَّهُ كان ليلاً. والثاني: أَنَّهُ ذَكَرَ في دُعَائه أَحوالاً تفتقرُ إلى الإخفَاءِ كَقَوْلِهِ: وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوالِيَ مِنْ وَرائِي. وهذا مما يكتم. انتهى. ووَهَنَ الْعَظْمُ معناه ضَعُفَ، واشْتَعَلَ مُسْتَعَارٌ للشيْب منِ اشتعال النَّار. وقولهُ: وَلَمْ أَكُنْ بِدُعائِكَ رَبِّ شَقِيًّا شكر لله- عز وجل- على سالف أياديه عنده، معناه: قد أَحسنتَ إليَّ فيما سلَف، وسعدتُ بدعائي إيَّاك فالإنعامُ يقتضي أَنْ يشفع أَوله آخره. ت: وكذا فسَّر الدَّاوُودِيُّ، ولفظه: «ولم أَكنْ بدُعائِك رَبِّ شقيّاً» ، يقولُ: كنْتَ تعرفني الإجابَة فيما مضى، وقاله قتادةُ: انتهى. وقوله: وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوالِيَ ... الآية، قيل: معناه خاف أَن يرثَ الموَالي مَالَهُ، والموالي: بنو العمّ، والقرابةُ. وقولُه مِنْ وَرائِي أَيْ: من بعدي. وقالت فرقةٌ: إنما كان مواليه مهمِلينَ للدِّين فخاف بموته أَنْ يضَيع الدينُ فطلب وليّاً يقومُ بالدين بعده حَكَى هذا القولَ: الزَّجَّاجُ، وفيه: أَنه لا يجوزُ أَن يسأل زَكَرِيَّاءُ من يرث ماله إذ الأَنبيَاءِ لا تُورَثُ. قال: ع [[ينظر: «المحرر الوجيز» (4/ 4- 5) .]] : وهذا يُؤَيّده قوله [[في ج: قول النبي.]] ﷺ: «إنَّا مَعْشَرَ الأَنْبِيَاءِ لاَ نُورَثُ، مَا تَرَكْنَا فَهُو صَدَقَة» [[أخرجه البخاري (6/ 227- 228) كتاب «فرض الخمس» : باب فرض الخمس، حديث (3094) ، (7/ 389) كتاب المغازي باب حديث لبني النضير، حديث (4033) ، (9/ 412- 413) كتاب «النفقات» : باب حبس الرجل قوت سنة على أهله، حديث (5358) ، (13/ 290- 291) كتاب «الاعتصام بالكتاب والسنة» : باب ما يكره من التعمق والتنازع والغلو في الدين والبدع، حديث (7305) ، ومسلم (3/ 1377- 1379) كتاب «الجهاد» : باب حكم الفيء، حديث (49/ 1757) ، وأبو داود (2/ 154- 156) كتاب «الخراج» : باب في صفايا رسول الله ﷺ من الأموال، حديث (2963) ، والترمذي (4/ 158) كتاب «السير» : باب ما جاء في تركة رسول الله ﷺ، حديث (1610) ، وفي «الشمائل» (216) ، -- وعبد الرزاق (9772) ، وأبو يعلى (1/ 12، 13) رقم: (2، 4) ، وابن حبان في «صحيحه» (8/ 207- الإحسان) حديث (6574) ، والبيهقي (6/ 297) ، والبغوي في «شرح السنة» (5/ 631، 632- بتحقيقنا) كلهم من طريق الزهري عن مالك بن أوس بن الحدثان عن عمر بن الخطاب به، وفيه قصة طويلة. وأخرجه مالك (2/ 993) كتاب الكلام: باب ما جاء في تركة النبي ﷺ، حديث (27) ، والبخاري (12/ 7، 8) كتاب «الفرائض» : باب قول النبي ﷺ: «لا نورث، ما تركنا صدقة» حديث (6727، 6730) ، ومسلم (3/ 1379) كتاب «الجهاد والسير» : باب قول النبي ﷺ «لا نورث، ما تركنا فهو صدقة» حديث (51/ 1758) ، وأبو داود (2/ 160، 161) كتاب «الخراج والفيء والإمارة» : باب في صفايا رسول الله ﷺ من الأموال، حديث (2976، 2977) ، والنسائي (7/ 132) كتاب «قسم الفيء» ، وأحمد (6/ 145، 262) ، وعبد الرزاق (9774) ، وابن الجارود في «المنتقى» رقم (1098) ، وابن حبان (8/ 209- الإحسان) رقم (6577) ، «والبيهقي» (6/ 297، 298) كلهم من طريق الزهري عن عروة بن الزبير عن عائشة قالت: إن أزواج النبي ﷺ حين توفي رسول الله ﷺ أردن أن يبعثن عثمان بن عفان إلى أبي بكر، فيسألنه ميراثهن من النبي ﷺ، قالت عائشة لهنّ: أليس قد قال رسول الله ﷺ: «لا نورث، ما تركنا فهو صدقة» ؟! وفي بعض طرق الحديث أن راوي هذا الحديث هو أبو بكر.]] . والأَظهرُ الأَلْيق بزكرياء عليه السلام أَن يريدَ وِرَاثةَ العِلْم والدِّينِ، فتكون الوارثةُ مستعارةً، وقد بلغه الله أَمَلَهُ. قال ابنُ هشام: ومِنْ وَرائِي متعلّقٌ ب الْمَوالِيَ، أو بمحذوفٍ هو حالٌ من [[لأنه في الأصل صفة للنكرة، فقدّم عليها.]] الموالي، أو مُضَاف إليهم، أَيْ: كائِنِينَ مِنْ وَرَائي، أو فعَل الموالي مِنْ ورائي، ولا يصحّ تعلقه ب «خِفْتُ» لفساد المعنى. انتهى من «المغني» . وخِفْتُ الْمَوالِيَ هي قراءةُ الجمهور [[ينظر: «المحرر الوجيز» (4/ 5) ، «والبحر المحيط» (6/ 165) ، «والدر المصون» (4/ 491) .]] ، وعليها هو هذا التفسير. وقرأ عثمانُ بنُ عَفَّانَ، وزيدُ بنُ ثابتٍ، وابنُ عباسٍ [[وقرأ بها محمد بن علي، وعلي بن الحسن، وسعيد بن العاص، وابن يعمر، وسعيد بن جبير، وشبيل بن عزرة. ينظر: «مختصر الشواذ» ص (86) ، و «المحتسب» (2/ 37) ، «والكشاف» (3/ 4) ، «والمحرر الوجيز» (4/ 5) ، «والبحر المحيط» (6/ 165) ، وزاد نسبتها إلى الوليد بن مسلم عن ابن عامر. وهي في «الدر المصون» (4/ 491) .]] ، وجماعةٌ «خَفَّتِ» بفتح الخاء، وفتح الفاء وشدِّها، وكَسْر التَّاء، والمعنى على هذا: قد انقَطَع أَوْلِيَائِي، وماتُوا، وعلى هذه القراءة، فإنما طلب وَليَّا يقوم بالدين. قال ابنُ العربي [[ينظر: «أحكام القرآن» (3/ 1250) .]] في «أحكامه» : ولم يخف زكرياءُ وارث المال، وإنما أراد إرث النبوة، وعليها خاف أَن تخرج عن عَقِبه، وصح عن النبي ﷺ أَنه قال: «إنَّا- معَاشِرَ الأَنْبِيَاءِ- لاَ نُورَثُ، مَا تَرَكْنَاهُ صَدَقَة» [[ينظر الحديث السابق.]] انتهى. وقرأ عليُّ بنُ أَبي طَالِبٍ، وابنُ عباسٍ، وغيرُهما- رضي الله عنهم- «يرِثُنِي وَارِثٌ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ [[وبها قرأ عاصم الجحدري، وابن يعمر، وأبو حرب بن أبي الأسود، والحسن، وقتادة، وأبو نهيك، وجعفر بن محمد. قال أبو الفتح: هذا ضرب من العربية غريب، ومعناه التجريد، وذلك أنك تريد: فهب لي من لدنك وليّا يرثني منه أو به وارث من آل يعقوب. وهو الوارث نفسه، فكأنه جرد منه وارثا. ومثله قول الله تعالى: لَهُمْ فِيها دارُ الْخُلْدِ [فصلت: 28] ، فهي نفسها دار الخلد، فكأنه جرد من الدار دارا، وعليه قول الأخطل: [الطويل] بنزوة لصّ بعد ما مر مصعب ... بأشعث لا يفلى ولا هو يقمل ومصعب نفسه هو الأشعث، فكأنه استخلص منه أشعث. ا. هـ. ينظر: «المحتسب» (2/ 38) ، «ومختصر الشواذ» (86) ، و «الكشاف» (3/ 5) ، «والمحرر الوجيز» (4/ 5) ، «والبحر المحيط» (6/ 165) ، «والدر المصون» (4/ 492) ،]] » . ت: وقوله: فَهَبْ لِي قال ابنُ مَالكٍ في «شرح الكافية» اللامُ هنا: هي لامُ التعدِيَة وقاله ولدُه في «شرح الخلاصة» . قال ابنُ هشام: والأولى عندي أن يمثل للتعدية بنحو: ما أكرم زيداً لعمرو، وما أحبه لبكر، انتهى. وقوله: مِنْ آلِ يَعْقُوبَ يريد يرث منهم الحكمة/ والعلم، والنبوة، ورَضِيًّا معناه: مرضيّا، والعاقر من النساء التي لا تلد من غير كبرة، وكذلك العاقرُ من الرجال. وقوله: لَمْ نَجْعَلْ لَهُ مِنْ قَبْلُ سَمِيًّا معناه في اللغة: لم نجعل له مُشَارِكاً في هذا الاسم، أي: لم يسم به قبل يحيى، وهذا قول ابن عباس [[ذكره ابن عطية (4/ 6) ، والسيوطي (4/ 468) وعزاه إلى الفريابي، وابن أبي شيبة، وعبد بن حميد، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والحاكم عن ابن عباس.]] وغيره. وقال مجاهدُ [[أخرجه الطبريّ (8/ 309) برقم: (23505) ، وذكره ابن عطية (4/ 6) ، وابن كثير (3/ 112) ، والسيوطي (4/ 468) .]] وغيره: سَمِيًّا معناه: مئيلا، ونظيرا، وفي هذا بعد: لأنه لا يفضل على إبرَاهِيم وموسى عليهما السلام إلا أن يفضل في خاص كالسودد [[السودد: الشرف، وقد يهمز وتضم الدال. ينظر: «لسان العرب» (2144) .]] ، والحصر. والعتي، والعُسِيُّ: المبالغة في الكبر، أو يُبْس العود، أو شيْب الرأس، أو عقيدة ما، وزكرياء: هو من ذرية هارون- عليهما السلام- ومعنى قوله: سَوِيًّا فيما قال الجمهور، صحيحاً من غير عِلَّة، ولا خرس. وقال ابن عباس: ذلك عائدٌ على الليالي، أراد: كاملات مستويات [[ذكره ابن عطية (4/ 7) .]] . وقوله: فَأَوْحى إِلَيْهِمْ قال قتادة [[ذكره ابن عطية (4/ 7) .]] ، وغيره: كان ذلك بإشارة. وقال مجاهد [[أخرجه الطبريّ (8/ 314) رقم (23539) ، وذكره ابن عطية (4/ 7) ، والبغوي (3/ 190) ، وابن كثير (3/ 113) .]] : بل بكتابة في التراب. قال ع [[ينظر: «المحرر الوجيز» (4/ 7) .]] : وكِلاَ الوجهين وَحْي. وقوله: أَنْ سَبِّحُوا قال قتادة: معناه صلوا السُّبْحة، والسُّبحةْ: الصلاة [[ذكره ابن عطية (4/ 7) .]] ، وقالت فرقة: بل أَمرهم بذكر الله، وقول: سبحان الله.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب