الباحث القرآني
ثُمَّ قالَ تَعالى: ﴿فَمَن يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ﴾ ﴿ومَن يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ﴾ وفِيهِ مَسائِلُ:
المَسْألَةُ الأُولى: ﴿مِثْقالَ ذَرَّةٍ﴾ أيْ زِنَةَ ذَرَّةٍ قالَ الكَلْبِيُّ: الذَّرَّةُ أصْغَرُ النَّمْلِ، وقالَ ابْنُ عَبّاسٍ: إذا وضَعْتَ راحَتَكَ عَلى الأرْضِ ثُمَّ رَفَعْتَها فَكُلُّ واحِدٍ مِمّا لَزِقَ بِهِ مِنَ التُّرابِ مِثْقالُ ذَرَّةٍ فَلَيْسَ مِن عَبْدٍ عَمِلَ خَيْرًا أوْ شَرًّا قَلِيلًا أوْ كَثِيرًا إلّا أراهُ اللَّهُ تَعالى إيّاهُ.
المَسْألَةُ الثّانِيَةُ: في رِوايَةٍ عَنْ عاصِمٍ: ”يُرَهُ“ بِرَفْعِ الياءِ وقَرَأ الباقُونَ: ﴿يَرَهُ﴾ بِفَتْحِها وقَرَأ بَعْضُهم: ”يَرَهْ“ بِالجَزْمِ.
المَسْألَةُ الثّالِثَةُ: في الآيَةِ إشْكالٌ وهو أنَّ حَسَناتِ الكافِرِ مُحْبَطَةٌ بِكُفْرِهِ وسَيِّئاتِ المُؤْمِنِ مَغْفُورَةٌ، إمّا ابْتِداءً وإمّا بِسَبَبِ اجْتِنابِ الكَبائِرِ، فَما مَعْنى الجَزاءِ بِمَثاقِيلِ الذَّرَّةِ مِنَ الخَيْرِ والشَّرِّ ؟
واعْلَمْ أنَّ المُفَسِّرِينَ أجابُوا عَنْهُ مِن وُجُوهٍ:
أحَدُها: قالَ مُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ القُرَظِيُّ: ﴿فَمَن يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ﴾ مِن خَيْرٍ وهو كافِرٌ فَإنَّهُ يَرى ثَوابَ ذَلِكَ في الدُّنْيا حَتّى يَلْقى الآخِرَةَ، ولَيْسَ لَهُ فِيها شَيْءٌ، وهَذا مَرْوِيٌّ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ أيْضًا، ويَدُلُّ عَلى صِحَّةِ هَذا التَّأْوِيلِ ما رُوِيَ أنَّهُ - عَلَيْهِ السَّلامُ - قالَ لِأبِي بَكْرٍ: «يا أبا بَكْرٍ ما رَأيْتَ في الدُّنْيا مِمّا تَكْرَهُ فَبِمَثاقِيلِ ذَرِّ الشَّرِّ ويَدَّخِرُ اللَّهُ لَكَ مَثاقِيلَ الخَيْرِ حَتّى تُوَفّاها يَوْمَ القِيامَةِ»
وثانِيها: قالَ ابْنُ عَبّاسٍ: لَيْسَ مِن مُؤْمِنٍ ولا كافِرٍ عَمِلَ خَيْرًا أوْ شَرًّا إلّا أراهُ اللَّهُ إيّاهُ، فَأمّا المُؤْمِنُ فَيَغْفِرُ اللَّهُ سَيِّئاتِهِ ويُثِيبُهُ بِحَسَناتِهِ، وأمّا الكافِرُ فَتُرَدُّ حَسَناتُهُ ويُعَذَّبُ بِسَيِّئاتِهِ.
وثالِثُها: أنَّ حَسَناتِ الكافِرِ وإنْ كانَتْ مُحْبَطَةً بِكُفْرِهِ ولَكِنَّ المُوازَنَةَ مُعْتَبَرَةٌ فَتُقَدَّرُ تِلْكَ الحَسَناتُ انْحَبَطَتْ مِن عِقابِ كُفْرِهِ، وكَذا القَوْلُ في الجانِبِ الآخَرِ فَلا يَكُونُ ذَلِكَ قادِحًا في عُمُومِ الآيَةِ.
ورابِعُها: أنْ نُخَصِّصَ عُمُومَ قَوْلِهِ: ﴿فَمَن يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ﴾ ونَقُولَ: المُرادُ فَمَن يَعْمَلْ مِنَ السُّعَداءِ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ، ومَن يَعْمَلْ مِنَ الأشْقِياءِ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ.
المَسْألَةُ الرّابِعَةُ: لِقائِلٍ أنْ يَقُولَ: إذا كانَ الأمْرُ إلى هَذا الحَدِّ فَأيْنَ الكَرَمُ ؟ والجَوابُ: هَذا هو الكَرَمُ، لِأنَّ المَعْصِيَةَ وإنْ قَلَّتْ فَفِيها اسْتِخْفافٌ، والكَرِيمُ لا يَحْتَمِلُهُ وفي الطّاعَةِ تَعْظِيمٌ، وإنْ قَلَّ فالكَرِيمُ لا يُضَيِّعُهُ، وكَأنَّ اللَّهَ سُبْحانَهُ يَقُولُ لا تَحْسَبْ مِثْقالَ الذَّرَّةِ مِنَ الخَيْرِ صَغِيرًا، فَإنَّكَ مَعَ لُؤْمِكَ وضَعْفِكَ لَمْ تُضَيِّعْ مِنِّي الذَّرَّةَ، بَلِ اعْتَبَرْتَها ونَظَرْتَ فِيها، واسْتَدْلَلْتَ بِها عَلى ذاتِي وصِفاتِي واتَّخَذْتَها مَرْكَبًا بِهِ وصَلْتَ إلَيَّ، فَإذا لَمْ تُضَيِّعْ ذَرَّتِي أفَأُضَيِّعُ ذَرَّتَكَ ! ثُمَّ التَّحْقِيقُ أنَّ المَقْصُودَ هو النِّيَّةُ والقَصْدُ، فَإذا كانَ العَمَلُ قَلِيلًا لَكِنَّ النِّيَّةَ خالِصَةٌ فَقَدْ حَصَلَ المَطْلُوبُ، وإنْ كانَ العَمَلُ كَثِيرًا والنِّيَّةَ دائِرَةٌ فالمَقْصُودُ فائِتٌ، ومِن ذَلِكَ ما رُوِيَ عَنْ كَعْبٍ: لا تُحَقِّرُوا شَيْئًا مِنَ المَعْرُوفِ، فَإنَّ رَجُلًا دَخَلَ الجَنَّةَ بِإعارَةِ إبْرَةٍ في سَبِيلِ اللَّهِ، وإنَّ امْرَأةً أعانَتْ بِحَبَّةٍ في بِناءِ بَيْتِ المَقْدِسِ فَدَخَلَتِ الجَنَّةَ. وعَنْ عائِشَةَ: ”كانَتْ بَيْنَ يَدَيْها عِنَبٌ فَقَدَّمَتْهُ إلى نِسْوَةٍ بِحَضْرَتِها، فَجاءَ سائِلٌ فَأمَرَتْ لَهُ بِحَبَّةٍ مِن ذَلِكَ العِنَبِ فَضَحِكَ بَعْضُ مَن كانَ عِنْدَها، فَقالَتْ: إنَّ فِيما تَرَوْنَ مَثاقِيلَ الذَّرَّةِ وتَلَتْ هَذِهِ الآيَةَ“ ولَعَلَّها كانَ غَرَضُها التَّعْلِيمَ، وإلّا فَهي كانَتْ في غايَةِ السَّخاوَةِ. رُوِيَ: ”أنَّ ابْنَ الزُّبَيْرِ بَعَثَ إلَيْها بِمِائَةِ ألْفٍ وثَمانِينَ ألْفَ دِرْهَمٍ في غِرارَتَيْنِ، فَدَعَتْ بِطَبَقٍ وجَعَلَتْ تَقْسِمُهُ بَيْنَ النّاسِ، فَلَمّا أمْسَتْ قالَتْ: يا جارِيَةُ فُطُورِي هَلُمِّي فَجاءَتْ بِخُبْزٍ وزَيْتٍ، فَقِيلَ لَها: أما أمْسَكْتِ لَنا دِرْهَمًا نَشْتَرِي بِهِ لَحْمًا نُفْطِرُ عَلَيْهِ، فَقالَتْ: لَوْ ذَكَّرْتِينِي لَفَعَلْتُ (p-٥٩)ذَلِكَ“ وقالَ مُقاتِلٌ: نَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ في رَجُلَيْنِ كانَ أحَدُهُما يَأْتِيهِ السّائِلُ فَيَسْتَقِلُّ أنْ يُعْطِيَهُ التَّمْرَةَ والكِسْرَةَ والجَوْزَةَ، ويَقُولَ ما هَذا بِشَيْءٍ، وإنَّما نُؤْجَرُ عَلى ما نُعْطِي وكانَ الآخَرُ يَتَهاوَنُ بِالذَّنْبِ اليَسِيرِ، ويَقُولُ: لا شَيْءَ عَلَيَّ مِن هَذا إنَّما الوَعِيدُ بِالنّارِ عَلى الكَبائِرِ، فَنَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ تَرْغِيبًا في القَلِيلِ مِنَ الخَيْرِ فَإنَّهُ يُوشِكُ أنْ يَكْثُرَ، وتَحْذِيرًا مِنَ اليَسِيرِ مِنَ الذَّنْبِ فَإنَّهُ يُوشِكُ أنْ يَكْبُرَ، ولِهَذا قالَ عَلَيْهِ السَّلامُ: «اتَّقُوا النّارَ ولَوْ بِشِقِّ تَمْرَةٍ، فَمَن لَمْ يَجِدْ فَبِكَلِمَةٍ طَيِّبَةٍ» واللَّهُ سُبْحانَهُ وتَعالى أعْلَمُ، وصَلّى اللَّهُ عَلى سَيِّدِنا مُحَمَّدٍ وعَلى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَّمَ.
{"ayahs_start":7,"ayahs":["فَمَن یَعۡمَلۡ مِثۡقَالَ ذَرَّةٍ خَیۡرࣰا یَرَهُۥ","وَمَن یَعۡمَلۡ مِثۡقَالَ ذَرَّةࣲ شَرࣰّا یَرَهُۥ"],"ayah":"فَمَن یَعۡمَلۡ مِثۡقَالَ ذَرَّةٍ خَیۡرࣰا یَرَهُۥ"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق











