الباحث القرآني
أمّا قَوْلُهُ تَعالى: ﴿عَلَّمَ الإنْسانَ ما لَمْ يَعْلَمْ﴾ فَيُحْتَمَلُ أنْ يَكُونَ المُرادُ عَلَّمَهُ بِالقَلَمِ وعَلَّمَهُ أيْضًا غَيْرَ ذَلِكَ ولَمْ يَذْكُرْ واوَ النَّسَقِ، وقَدْ يَجْرِي مِثْلُ هَذا في الكَلامِ تَقُولُ: أكْرَمْتُكَ، أحْسَنْتُ إلَيْكَ، مَلَّكْتُكَ الأمْوالَ، ولَّيْتُكَ الوِلاياتِ، ويُحْتَمَلُ أنْ يَكُونَ المُرادُ مِنَ اللَّفْظَيْنِ واحِدًا ويَكُونُ المَعْنى: عَلَّمَ الإنْسانَ بِالقَلَمِ ما لَمْ يَعْلَمْهُ، فَيَكُونُ قَوْلُهُ: ﴿عَلَّمَ الإنْسانَ ما لَمْ يَعْلَمْ﴾ بَيانًا لِقَوْلِهِ: ﴿عَلَّمَ بِالقَلَمِ﴾ .
قالَ تَعالى: ﴿كَلّا إنَّ الإنْسانَ لَيَطْغى﴾ وفِيهِ مَسائِلُ:
المَسْألَةُ الأُولى: أكْثَرُ المُفَسِّرِينَ عَلى أنَّ المُرادَ مِنَ الإنْسانِ هَهُنا إنْسانٌ واحِدٌ وهو أبُو جَهْلٍ، ثُمَّ مِنهم مَن قالَ: نَزَلَتِ السُّورَةُ مِن هَهُنا إلى آخِرِها في أبِي جَهْلٍ. وقِيلَ: نَزَلَتْ مِن قَوْلِهِ: ﴿أرَأيْتَ الَّذِي يَنْهى عَبْدًا﴾ [العَلَقِ: ٩] إلى آخِرِ السُّورَةِ في أبِي جَهْلٍ. قالَ ابْنُ عَبّاسٍ: «كانَ النَّبِيُّ ﷺ يُصَلِّي فَجاءَ أبُو جَهْلٍ، فَقالَ: ألَمْ أنْهَكَ عَنْ هَذا ؟ فَزَجَرَهُ النَّبِيُّ ﷺ، فَقالَ أبُو جَهْلٍ: واللَّهِ إنَّكَ لَتَعْلَمُ أنِّي أكْثَرُ أهْلِ الوادِي نادِيًا، فَأنْزَلَ اللَّهُ تَعالى: ﴿فَلْيَدْعُ نادِيَهُ﴾ ﴿سَنَدْعُ الزَّبانِيَةَ»﴾ قالَ ابْنُ عَبّاسٍ: واللَّهِ لَوْ دَعا نادِيَهُ لَأخَذَتْهُ زَبانِيَةُ اللَّهِ، فَكَأنَّهُ تَعالى لَمّا عَرَّفَهُ أنَّهُ مَخْلُوقٌ مِن عَلَقٍ فَلا يَلِيقُ بِهِ التَّكَبُّرُ، فَهو عِنْدَ ذَلِكَ ازْدادَ طُغْيانًا وتَعَزُّزًا بِمالِهِ ورِياسَتِهِ في مَكَّةَ. ويُرْوى أنَّهُ قالَ: لَيْسَ بِمَكَّةَ أكْرَمُ مِنِّي. ولَعَلَّهُ لَعَنَهُ اللَّهُ قالَ ذَلِكَ رَدًّا لِقَوْلِهِ: ﴿ورَبُّكَ الأكْرَمُ﴾ ثُمَّ القائِلُونَ بِهَذا القَوْلِ مِنهم مَن زَعَمَ أنَّهُ لَيْسَتْ هَذِهِ السُّورَةُ مِن أوائِلِ ما نَزَلَ. ومِنهم مَن قالَ: يُحْتَمَلُ أنْ يَكُونَ خَمْسُ آياتٍ مِن أوَّلِ السُّورَةِ نَزَلَتْ أوَّلًا، ثُمَّ نَزَلَتِ البَقِيَّةُ بَعْدَ ذَلِكَ في شَأْنِ أبِي جَهْلٍ، ثُمَّ أُمِرَ النَّبِيُّ ﷺ بِضَمِّ ذَلِكَ إلى أوَّلِ السُّورَةِ، لِأنَّ تَأْلِيفَ الآياتِ إنَّما كانَ بِأمْرِ اللَّهِ تَعالى، ألا تَرى أنَّ قَوْلَهُ تَعالى: ﴿واتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إلى اللَّهِ﴾ [البَقَرَةِ: ٢٨١] آخِرُ ما نَزَلَ عِنْدَ المُفَسِّرِينَ ثُمَّ هو مَضْمُومٌ إلى ما نَزَلَ قَبْلَهُ بِزَمانٍ طَوِيلٍ.
القَوْلُ الثّانِي: أنَّ المُرادَ مِنَ الإنْسانِ المَذْكُورِ في هَذِهِ الآيَةِ جُمْلَةُ الإنْسانِ، والقَوْلُ الأوَّلُ وإنْ كانَ أظْهَرَ بِحَسَبِ الرِّواياتِ، إلّا أنَّ هَذا القَوْلَ أقْرَبُ بِحَسَبِ الظّاهِرِ، لِأنَّهُ تَعالى بَيَّنَ أنَّ اللَّهَ سُبْحانَهُ مَعَ أنَّهُ خَلَقَهُ مِن عَلَقَةٍ، (p-١٩)وأنْعَمَ عَلَيْهِ بِالنِّعَمِ الَّتِي قَدَّمْنا ذِكْرَها، إذْ أغْناهُ، وزادَ في النِّعْمَةِ عَلَيْهِ فَإنَّهُ يَطْغى ويَتَجاوَزُ الحَدَّ في المَعاصِي واتِّباعِ هَوى النَّفْسِ، وذَلِكَ وعِيدٌ وزَجْرٌ عَنْ هَذِهِ الطَّرِيقَةِ، ثُمَّ إنَّهُ تَعالى أكَّدَ هَذا الزَّجْرَ بِقَوْلِهِ: ﴿إنَّ إلى رَبِّكَ الرُّجْعى﴾ أيْ إلى حَيْثُ لا مالِكَ سِواهُ، فَتَقَعُ المُحاسَبَةُ عَلى ما كانَ مِنهُ مِنَ العَمَلِ والمُؤاخَذَةُ بِحَسَبِ ذَلِكَ.
المَسْألَةُ الثّانِيَةُ: قَوْلُهُ: (كَلّا) فِيهِ وُجُوهٌ:
أحَدُها: أنَّهُ رَدْعٌ وزَجْرٌ لِمَن كَفَرَ بِنِعْمَةِ اللَّهِ بِطُغْيانِهِ، وإنْ لَمْ يُذْكَرْ لِدَلالَةِ الكَلامِ عَلَيْهِ.
وثانِيها: قالَ مُقاتِلٌ: كَلّا لا يَعْلَمُ الإنْسانُ أنَّ اللَّهَ هو الَّذِي خَلَقَهُ مِنَ العَلَقَةِ وعَلَّمَهُ بَعْدَ الجَهْلِ، وذَلِكَ لِأنَّهُ عِنْدَ صَيْرُورَتِهِ غَنِيًّا يَطْغى ويَتَكَبَّرُ، ويَصِيرُ مُسْتَغْرِقَ القَلْبِ في حُبِّ الدُّنْيا فَلا يَتَفَكَّرُ في هَذِهِ الأحْوالِ ولا يَتَأمَّلُ فِيها.
وثالِثُها: ذَكَرَ الجُرْجانِيُّ صاحِبُ النَّظْمِ أنَّ (كَلّا) هَهُنا بِمَعْنى حَقًّا لِأنَّهُ لَيْسَ قَبْلَهُ ولا بَعْدَهُ شَيْءٌ تَكُونُ (كَلّا) رَدًّا لَهُ، وهَذا كَما قالُوهُ في: ﴿كَلّا والقَمَرِ﴾ [المُدَّثِّرِ: ٣٢] فَإنَّهم زَعَمُوا أنَّهُ بِمَعْنى: إي والقَمَرِ.
المَسْألَةُ الثّالِثَةُ: الطُّغْيانُ هو التَّكَبُّرُ والتَّمَرُّدُ، وتَحْقِيقُ الكَلامِ في هَذِهِ الآيَةِ أنَّ اللَّهَ تَعالى لَمّا ذَكَرَ في مُقَدِّمَةِ السُّورَةِ دَلائِلَ ظاهِرَةً عَلى التَّوْحِيدِ والقُدْرَةِ والحِكْمَةِ بِحَيْثُ يَبْعُدُ مِنَ العاقِلِ أنْ لا يَطَّلِعَ عَلَيْها ولا يَقِفَ عَلى حَقائِقِها. أتْبَعَها بِما هو السَّبَبُ الأصْلِيُّ في الغَفْلَةِ عَنْها وهو حُبُّ الدُّنْيا والِاشْتِغالُ بِالمالِ والجاهِ والثَّرْوَةِ والقُدْرَةِ، فَإنَّهُ لا سَبَبَ لِعَمى القَلْبِ في الحَقِيقَةِ إلّا ذَلِكَ. فَإنْ قِيلَ: إنَّ فِرْعَوْنَ ادَّعى الرُّبُوبِيَّةَ، فَقالَ اللَّهُ تَعالى في حَقِّهِ: ﴿اذْهَبْ إلى فِرْعَوْنَ إنَّهُ طَغى﴾ [طه: ٢٤] وهَهُنا ذَكَرَ في أبِي جَهْلٍ: ﴿لَيَطْغى﴾ فَأكَّدَهُ بِهَذِهِ اللّامِ، فَما السَّبَبُ في هَذِهِ الزِّيادَةِ ؟ قُلْنا: فِيهِ وُجُوهٌ:
أحَدُها: أنَّهُ قالَ لِمُوسى: ﴿اذْهَبْ إلى فِرْعَوْنَ إنَّهُ طَغى﴾ وذَلِكَ قَبْلَ أنْ يَلْقاهُ مُوسى وقَبْلَ أنْ يَعْرِضَ عَلَيْهِ الأدِلَّةَ، وقَبْلَ أنْ يَدَّعِيَ الرُّبُوبِيَّةَ. وأمّا هَهُنا فَإنَّهُ تَعالى ذَكَرَ هَذِهِ الآيَةَ تَسْلِيَةً لِرَسُولِهِ حِينَ رَدَّ عَلَيْهِ أقْبَحَ الرَّدِّ.
وثانِيها: أنَّ فِرْعَوْنَ مَعَ كَمالِ سُلْطَتِهِ ما كانَ يَزِيدُ كُفْرُهُ عَلى القَوْلِ، وما كانَ لِيَتَعَرَّضَ لِقَتْلِ مُوسى عَلَيْهِ السَّلامُ ولا لِإيذائِهِ. وأمّا أبُو جَهْلٍ فَهو مَعَ قِلَّةِ جاهِهِ كانَ يَقْصِدُ قَتْلَ النَّبِيِّ ﷺ وإيذاءَهُ.
وثالِثُها: أنَّ فِرْعَوْنَ أحْسَنَ إلى مُوسى أوَّلًا، وقالَ آخِرًا: ﴿آمَنتُ﴾ [يُونُسَ: ٩٠] . وأمّا أبُو جَهْلٍ فَكانَ يَحْسُدُ النَّبِيَّ في صِباهُ، وقالَ في آخِرِ رَمَقِهِ: بَلِّغُوا عَنِّي مُحَمَّدًا أنِّي أمُوتُ ولا أحَدَ أبْغَضُ إلَيَّ مِنهُ.
ورابِعُها: أنَّهُما وإنْ كانا رَسُولَيْنِ لَكِنَّ الحَبِيبَ في مُقابَلَةِ الكَلِيمِ كاليَدِ في مُقابَلَةِ العَيْنِ، والعاقِلُ يَصُونُ عَيْنَهُ فَوْقَ ما يَصُونُ يَدَهُ، بَلْ يَصُونُ عَيْنَهُ بِاليَدِ، فَلِهَذا السَّبَبِ كانَتِ المُبالَغَةُ هَهُنا أكْثَرَ.
{"ayah":"كَلَّاۤ إِنَّ ٱلۡإِنسَـٰنَ لَیَطۡغَىٰۤ"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق