الباحث القرآني

قالَ تَعالى: ﴿فَإنَّ مَعَ العُسْرِ يُسْرًا﴾ ﴿إنَّ مَعَ العُسْرِ يُسْرًا﴾ وفِيهِ مَسائِلُ: المَسْألَةُ الأُولى: وجْهُ تَعَلُّقِ هَذِهِ الآيَةِ بِما قَبْلَها أنَّ المُشْرِكِينَ كانُوا يُعَيِّرُونَ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ بِالفَقْرِ، ويَقُولُونَ: إنْ كانَ غَرَضُكَ مِن هَذا الَّذِي تَدَّعِيهِ طَلَبَ الغِنى جَمَعْنا لَكَ مالًا حَتّى تَكُونَ كَأيْسَرِ أهْلِ مَكَّةَ، فَشَقَّ ذَلِكَ عَلى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ حَتّى سَبَقَ إلى وهْمِهِ أنَّهم إنَّما رَغِبُوا عَنِ الإسْلامِ لِكَوْنِهِ فَقِيرًا حَقِيرًا عِنْدَهم، فَعَدَّدَ اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ مِنَنَهُ في هَذِهِ السُّورَةِ، وقالَ: ﴿ألَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ﴾ ﴿ووَضَعْنا عَنْكَ وِزْرَكَ﴾ أيْ ما كُنْتَ فِيهِ مِن أمْرِ الجاهِلِيَّةِ، ثُمَّ وعَدَهُ بِالغِنى في الدُّنْيا لِيُزِيلَ عَنْ قَلْبِهِ ما حَصَلَ فِيهِ مِنَ التَّأذِّي بِسَبَبِ أنَّهم عَيَّرُوهُ بِالفَقْرِ، والدَّلِيلُ عَلَيْهِ دُخُولُ الفاءِ في قَوْلِهِ: ﴿فَإنَّ مَعَ العُسْرِ يُسْرًا﴾ كَأنَّهُ تَعالى قالَ: لا يَحْزُنْكَ ما يَقُولُ وما أنْتَ فِيهِ مِنَ القِلَّةِ، فَإنَّهُ يَحْصُلُ في الدُّنْيا يُسْرٌ كامِلٌ. المَسْألَةُ الثّانِيَةُ: قالَ ابْنُ عَبّاسٍ: يَقُولُ اللَّهُ تَعالى: خَلَقْتُ عُسْرًا واحِدًا بَيْنَ يُسْرَيْنِ، فَلَنْ يَغْلِبَ عُسْرٌ يُسْرَيْنِ، ورَوى مُقاتِلٌ عَنِ النَّبِيِّ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ أنَّهُ قالَ: ”«لَنْ يَغْلِبَ عُسْرٌ يُسْرَيْنِ» “ وقَرَأ هَذِهِ الآيَةَ، وفي تَقْرِيرِ هَذا المَعْنى وجْهانِ: الأوَّلُ: قالَ الفَرّاءُ والزَّجّاجُ: العُسْرُ مَذْكُورٌ بِالألِفِ واللّامِ، ولَيْسَ هُناكَ مَعْهُودٌ سابِقٌ فَيَنْصَرِفُ إلى الحَقِيقَةِ، فَيَكُونُ المُرادُ بِالعُسْرِ في اللَّفْظَيْنِ شَيْئًا واحِدًا. وأمّا اليُسْرُ فَإنَّهُ مَذْكُورٌ عَلى سَبِيلِ التَّنْكِيرِ، فَكانَ أحَدُهُما غَيْرَ الآخَرِ، وزَيَّفَ الجُرْجانِيُّ هَذا وقالَ: إذا قالَ الرَّجُلُ: إنَّ مَعَ الفارِسِ سَيْفًا، إنَّ مَعَ الفارِسِ سَيْفًا، يَلْزَمُ أنْ يَكُونَ هُناكَ فارِسٌ واحِدٌ ومَعَهُ سَيْفانِ، ومَعْلُومٌ أنَّ ذَلِكَ غَيْرُ لازِمٍ مِن وضْعِ العَرَبِيَّةِ. الوَجْهُ الثّانِي: أنْ تَكُونَ الجُمْلَةُ الثّانِيَةُ تَكْرِيرًا لِلْأُولى، كَما كَرَّرَ قَوْلَهُ: ﴿ويْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ﴾ [المُرْسَلاتِ: ١٥] ويَكُونُ الغَرَضُ تَقْرِيرَ مَعْناها في النُّفُوسِ وتَمْكِينَها في القُلُوبِ، كَما يُكَرَّرُ المُفْرَدُ في قَوْلِكَ: جاءَنِي زَيْدٌ زَيْدٌ، والمُرادُ مِنَ اليُسْرَيْنِ: يُسْرُ الدُّنْيا وهو ما تَيَسَّرَ مِنِ اسْتِفْتاحِ البِلادِ، ويُسْرُ الآخِرَةِ وهو ثَوابُ الجَنَّةِ، لِقَوْلِهِ تَعالى: ﴿قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنا إلّا إحْدى الحُسْنَيَيْنِ﴾ [التَّوْبَةِ: ٥٢] وهُما حُسْنُ الظَّفَرِ وحُسْنُ الثَّوابِ، فالمُرادُ مِن قَوْلِهِ: ”«لَنْ يَغْلِبَ عُسْرٌ يُسْرَيْنِ» “ هَذا، وذَلِكَ لِأنَّ عُمْرَ الدُّنْيا بِالنِّسْبَةِ إلى يُسْرِ الدُّنْيا ويُسْرِ الآخِرَةِ كالمَغْمُورِ القَلِيلِ، وهَهُنا سُؤالانِ. الأوَّلُ: ما مَعْنى التَّنْكِيرِ في اليُسْرِ ؟ جَوابُهُ: التَّفْخِيمُ، كَأنَّهُ قِيلَ: إنَّ مَعَ اليُسْرِ يُسْرًا، إنَّ مَعَ العُسْرِ يُسْرًا عَظِيمًا، وأيُّ يُسْرٍ. السُّؤالُ الثّانِي: اليُسْرُ لا يَكُونُ مَعَ العُسْرِ، لِأنَّهُما ضِدّانِ فَلا يَجْتَمِعانِ. الجَوابُ: لَمّا كانَ وُقُوعُ اليُسْرِ بَعْدَ العُسْرِ بِزَمانٍ قَلِيلٍ، كانَ مَقْطُوعًا بِهِ فَجُعِلَ كالمُقارِنِ لَهُ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب