الباحث القرآني
ثُمَّ قالَ تَعالى: ﴿ووَضَعْنا عَنْكَ وِزْرَكَ﴾ ﴿الَّذِي أنْقَضَ ظَهْرَكَ﴾ وفِيهِ مَسائِلُ:
المَسْألَةُ الأُولى: قالَ المُبَرِّدُ: هَذا مَحْمُولٌ عَلى مَعْنى ألَمْ نَشْرَحْ لا عَلى لَفْظِهِ، لِأنَّكَ لا تَقُولُ ألَمْ وضَعْنا ولَكِنْ مَعْنى ألَمْ نَشْرَحْ قَدْ شَرَحْنا، فَحُمِلَ الثّانِي عَلى مَعْنى الأوَّلِ لا عَلى ظاهِرِ اللَّفْظِ، لِأنَّهُ لَوْ كانَ مَعْطُوفًا عَلى ظاهِرِهِ لَوَجَبَ أنْ يُقالَ: ”ونَضَعُ عَنْكَ وِزْرَكَ“ .
المَسْألَةُ الثّانِيَةُ: مَعْنى الوِزْرِ: ثُقْلُ الذَّنْبِ، وقَدْ مَرَّ تَفْسِيرُهُ عِنْدَ قَوْلِهِ: ﴿وهم يَحْمِلُونَ أوْزارَهُمْ﴾ [النَّحْلِ: ٢٥] وهو كَقَوْلِهِ تَعالى: ﴿لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ ما تَقَدَّمَ مِن ذَنْبِكَ وما تَأخَّرَ﴾ [الفَتْحِ: ٢] .
* * *
وأمّا قَوْلُهُ: ﴿أنْقَضَ ظَهْرَكَ﴾ فَقالَ عُلَماءُ اللُّغَةِ: الأصْلُ فِيهِ أنَّ الظَّهْرَ إذا أُثْقِلَ الحِمْلَ سُمِعَ لَهُ نَقِيضٌ أيْ صَوْتٌ خَفِيٌّ، وهو صَوْتُ المَحامِلِ والرِّحالِ والأضْلاعِ، أوِ البَعِيرُ إذا أثْقَلَهُ الحِمْلُ فَهو مَثَلٌ لِما كانَ يَثْقُلُ عَلى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ مِن أوْزارِهِ.
المَسْألَةُ الرّابِعَةُ: احْتَجَّ بِهَذِهِ الآيَةِ مَن أثْبَتَ المَعْصِيَةَ لِلْأنْبِياءِ عَلَيْهِمُ السَّلامُ.
والجَوابُ عَنْهُ مِن وجْهَيْنِ:
الأوَّلُ: أنَّ الَّذِينَ يُجَوِّزُونَ الصَّغائِرَ عَلى الأنْبِياءِ عَلَيْهِمُ السَّلامُ حَمَلُوا هَذِهِ الآيَةَ عَلَيْها، لا يُقالُ: إنَّ قَوْلَهُ: ﴿الَّذِي أنْقَضَ ظَهْرَكَ﴾ يَدُلُّ عَلى كَوْنِهِ عَظِيمًا. فَكَيْفَ يَلِيقُ ذَلِكَ بِالصَّغائِرِ، لِأنّا نَقُولُ: إنَّما وُصِفَ ذَلِكَ بِإنْقاضِ الظَّهْرِ مَعَ كَوْنِها مَغْفُورَةً لِشِدَّةِ اغْتِمامِ النَّبِيِّ ﷺ بِوُقُوعِهِ مِنهُ وتَحَسُّرِهِ مَعَ نَدَمِهِ عَلَيْهِ، وأمّا إنَّما وصَفَهُ بِذَلِكَ لِأنَّ تَأْثِيرَهُ فِيما يَزُولُ بِهِ مِنَ الثَّوابِ عَظِيمٌ، فَيَجُوزُ لِذَلِكَ ما ذَكَرَهُ اللَّهُ تَعالى. هَذا تَقْرِيرُ الكَلامِ عَلى قَوْلِ المُعْتَزِلَةِ وفِيهِ إشْكالٌ، وهو أنَّ العَفْوَ عَنِ الصَّغِيرَةِ واجِبٌ عَلى اللَّهِ تَعالى عِنْدَ القاضِي، واللَّهُ تَعالى ذَكَرَ هَذِهِ الآيَةَ في مَعْرِضِ الِامْتِنانِ، ومِنَ المَعْلُومِ أنَّ الِامْتِنانَ بِفِعْلِ الواجِبِ غَيْرُ جائِزٍ.
الوَجْهُ الثّانِي: أنْ يُحْمَلَ ذَلِكَ عَلى غَيْرِ الذَّنْبِ، وفِيهِ وُجُوهٌ:
أحَدُها: قالَ قَتادَةُ: كانَتْ لِلنَّبِيِّ ﷺ ذُنُوبٌ سَلَفَتْ مِنهُ في الجاهِلِيَّةِ قَبْلَ النُّبُوَّةِ، وقَدْ أثْقَلَتْهُ فَغَفَرَها لَهُ.
وثانِيها: أنَّ المُرادَ مِنهُ تَخْفِيفُ أعْباءِ النُّبُوَّةِ الَّتِي تُثْقِلُ الظَّهْرَ مِنَ القِيامِ بِأمْرِها وحِفْظِ مُوجِباتِها والمُحافَظَةِ عَلى حُقُوقِها، فَسَهَّلَ اللَّهُ تَعالى ذَلِكَ عَلَيْهِ، وحَطَّ عَنْهُ ثِقَلَها بِأنْ يَسَّرَها عَلَيْهِ حَتّى تَيَسَّرَتْ لَهُ.
وثالِثُها: الوِزْرُ ما كانَ يَكْرَهُهُ مِن تَغْيِيرِهِمْ لِسُنَّةِ الخَلِيلِ. وكانَ لا يَقْدِرُ عَلى مَنعِهِمْ إلى أنْ قَوّاهُ اللَّهُ، وقالَ لَهُ: ﴿أنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إبْراهِيمَ﴾ [النَّحْلِ: ١٢٣] .
ورابِعُها: أنَّها ذُنُوبُ أُمَّتِهِ صارَتْ كالوِزْرِ عَلَيْهِ، ماذا يَصْنَعُ في حَقِّهِمْ إلى أنْ قالَ: ﴿وما كانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهم وأنْتَ فِيهِمْ﴾ [الأنْفالِ: ٣٣ ] فَأمَّنَهُ مِنَ العَذابِ في العاجِلِ، ووَعَدَ لَهُ الشَّفاعَةَ في الآجِلِ.
وخامِسُها: مَعْناهُ عَصَمْناكَ عَنِ الوِزْرِ الَّذِي يَنْقُضُ ظَهْرَكَ، لَوْ كانَ ذَلِكَ (p-٦)الذَّنْبُ حاصِلًا، فَسَمّى العِصْمَةَ وضْعًا مَجازًا، فَمِن ذَلِكَ «ما رُوِيَ أنَّهُ حَضَرَ ولِيمَةً فِيها دُفٌّ ومَزامِيرُ قَبْلَ البِعْثَةِ لِيَسْمَعَ، فَضَرَبَ اللَّهُ عَلى أُذُنِهِ فَلَمْ يُوقِظْهُ إلّا حَرُّ الشَّمْسِ مِنَ الغَدِ» .
وسادِسُها: الوِزْرُ ما أصابَهُ مِنَ الهَيْبَةِ والفَزَعِ في أوَّلِ مُلاقاةِ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلامُ، حِينَ أخَذَتْهُ الرِّعْدَةُ، وكادَ يَرْمِي نَفْسَهُ مِنَ الجَبَلِ، ثُمَّ تَقَوّى حَتّى ألِفَهُ وصارَ بِحالَةٍ كادَ يَرْمِي بِنَفْسِهِ مِنَ الجَبَلِ لِشِدَّةِ اشْتِياقِهِ.
وسابِعُها: الوِزْرُ ما كانَ يَلْحَقُهُ مِنَ الأذى والشَّتْمِ حَتّى كادَ يَنْقُضَ ظَهْرَهُ وتَأْخُذَهُ الرِّعْدَةُ، ثُمَّ قَوّاهُ اللَّهُ تَعالى حَتّى صارَ بِحَيْثُ كانُوا يُدْمُونَ وجْهَهُ، و[هُوَ] يَقُولُ: ”«اللَّهُمَّ اهْدِ قَوْمِي» “ .
وثامِنُها: لَئِنْ كانَ نُزُولُ السُّورَةِ بَعْدَ مَوْتِ أبِي طالِبٍ وخَدِيجَةَ، فَلَقَدْ كانَ فِراقُهُما عَلَيْهِ وِزْرًا عَظِيمًا، فَوَضَعَ عَنْهُ الوِزْرَ بِرَفْعِهِ إلى السَّماءِ حَتّى لَقِيَهُ كُلُّ مَلَكٍ وحَيّاهُ فارْتَفَعَ لَهُ الذِّكْرُ، فَلِذَلِكَ قالَ: ﴿ورَفَعْنا لَكَ ذِكْرَكَ﴾ .
وتاسِعُها: أنَّ المُرادَ مِنَ الوِزْرِ والثِّقَلِ الحَيْرَةُ الَّتِي كانَتْ لَهُ قَبْلَ البِعْثَةِ، وذَلِكَ أنَّهُ بِكَمالِ عَقْلِهِ لَمّا نَظَرَ إلى عَظِيمِ نِعَمِ اللَّهِ تَعالى عَلَيْهِ، حَيْثُ أخْرَجَهُ مِنَ العَدَمِ إلى الوُجُودِ وأعْطاهُ الحَياةَ والعَقْلَ وأنْواعَ النِّعَمِ، ثَقُلَ عَلَيْهِ نِعَمُ اللَّهِ وكادَ يَنْقُضُ ظَهْرُهُ مِنَ الحَياءِ، لِأنَّهُ عَلَيْهِ السَّلامُ كانَ يَرى أنَّ نِعَمَ اللَّهِ عَلَيْهِ لا تَنْقَطِعُ، وما كانَ يَعْرِفُ أنَّهُ كَيْفَ كانَ يُطِيعُ رَبَّهُ، فَلَمّا جاءَتْهُ النُّبُوَّةُ والتَّكْلِيفُ وعَرَفَ أنَّهُ كَيْفَ يَنْبَغِي لَهُ أنْ يُطِيعَ رَبَّهُ، فَحِينَئِذٍ قَلَّ حَياؤُهُ وسَهُلَتْ عَلَيْهِ تِلْكَ الأحْوالُ، فَإنَّ اللَّئِيمَ لا يَسْتَحِي مِن زِيادَةِ النِّعَمِ بِدُونِ مُقابَلَتِها بِالخِدْمَةِ، والإنْسانُ الكَرِيمُ النَّفْسِ إذا كَثُرَ الإنْعامُ عَلَيْهِ وهو لا يُقابِلُها بِنَوْعٍ مِن أنْواعِ الخِدْمَةِ، فَإنَّهُ يَثْقُلُ ذَلِكَ عَلَيْهِ جِدًّا، بِحَيْثُ يُمِيتُهُ الحَياءُ، فَإذا كَلَّفَهُ المُنْعِمُ بِنَوْعِ خِدْمَةٍ سَهُلَ ذَلِكَ عَلَيْهِ وطابَ قَلْبُهُ.
{"ayahs_start":2,"ayahs":["وَوَضَعۡنَا عَنكَ وِزۡرَكَ","ٱلَّذِیۤ أَنقَضَ ظَهۡرَكَ"],"ayah":"وَوَضَعۡنَا عَنكَ وِزۡرَكَ"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق