الباحث القرآني
قَوْلُهُ تَعالى: ﴿ألَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوى﴾ فِيهِ مَسائِلُ:
المَسْألَةُ الأُولى: أنَّ اتِّصالَهُ بِما تَقَدَّمَ هو أنَّهُ تَعالى يَقُولُ: ﴿ألَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا﴾ فَقالَ الرَّسُولُ: بَلى يا رَبِّ، فَيَقُولُ: انْظُرْ [أ] كانَتْ طاعاتُكَ في ذَلِكَ الوَقْتِ أكْرَمَ أمِ السّاعَةَ ؟ فَلا بُدَّ مِن أنْ يُقالَ: بَلِ السّاعَةَ. فَيَقُولُ اللَّهُ: حِينَ كُنْتَ صَبِيًّا ضَعِيفًا ما تَرَكْناكَ بَلْ رَبَّيْناكَ ورَقَّيْناكَ إلى حَيْثُ صِرْتَ مُشْرِفًا عَلى شُرُفاتِ العَرْشِ وقُلْنا لَكَ: لَوْلاكَ ما خَلَقْنا الأفْلاكَ، أتَظُنُّ أنّا بَعْدَ هَذِهِ الحالَةِ نَهْجُرُكَ ونَتْرُكُكَ ؟
المَسْألَةُ الثّانِيَةُ: ﴿ألَمْ يَجِدْكَ﴾ مِنَ الوُجُودِ الَّذِي بِمَعْنى العِلْمِ، والمَنصُوبانِ مَفْعُولا وجَدَ والوُجُودُ مِنَ اللَّهِ، والمَعْنى ألَمْ يَعْلَمْكَ اللَّهُ يَتِيمًا فَآوى، وذَكَرُوا في تَفْسِيرِ اليَتِيمِ أمْرَيْنِ:
الأوَّلُ: أنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَبْدِ المُطَّلِبِ فِيما ذَكَرَهُ أهْلُ الأخْبارِ تُوُفِّيَ وأُمُّ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ حامِلٌ بِهِ، ثُمَّ وُلِدَ رَسُولُ اللَّهِ فَكانَ مَعَ جَدِّهِ عَبْدِ المُطَّلِبِ ومَعَ أُمِّهِ آمِنَةَ، فَهَلَكَتْ أُمُّهُ آمِنَةُ وهو ابْنُ سِتِّ سِنِينَ فَكانَ مَعَ جَدِّهِ، ثُمَّ هَلَكَ جَدُّهُ بَعْدَ أُمِّهِ بِسَنَتَيْنِ ورَسُولُ اللَّهِ ابْنُ ثَمانِ سِنِينَ. وكانَ عَبْدُ المُطَّلِبِ يُوصِي أبا طالِبٍ بِهِ لِأنَّ عَبْدَ اللَّهِ وأبا طالِبٍ كانا مِن أُمٍّ واحِدَةٍ، فَكانَ أبُو طالِبٍ هو الَّذِي يَكْفُلُ رَسُولَ اللَّهِ بَعْدَ جَدِّهِ إلى أنَّ بَعَثَهُ اللَّهُ لِلنُّبُوَّةِ، فَقامَ بِنُصْرَتِهِ مُدَّةً مَدِيدَةً، ثُمَّ تُوُفِّيَ أبُو طالِبٍ بَعْدَ ذَلِكَ فَلَمْ يَظْهَرْ عَلى رَسُولِ اللَّهِ يُتْمٌ البَتَّةَ فَأذْكَرَهُ اللَّهُ تَعالى هَذِهِ النِّعْمَةَ، رُوِيَ أنَّهُ قالَ أبُو طالِبٍ يَوْمًا لِأخِيهِ العَبّاسِ: ألا أُخْبِرُكَ عَنْ مُحَمَّدٍ بِما رَأيْتُ مِنهُ ؟ فَقالَ: بَلى فَقالَ: إنِّي ضَمَمْتُهُ إلَيَّ فَكَيْفَ لا أُفارِقُهُ ساعَةً مِن لَيْلٍ ولا نَهارٍ؛ ولا أأْتَمِنُ عَلَيْهِ أحَدًا حَتّى أنِّي كُنْتُ أُنَوِّمُهُ في فِراشِي، فَأمَرْتُهُ لَيْلَةً أنْ يَخْلَعَ ثِيابَهُ ويَنامَ مَعِي، فَرَأيْتُ الكَراهَةَ في وجْهِهِ لَكِنَّهُ كَرِهَ أنْ يُخالِفَنِي، وقالَ: يا عَمّاهُ اصْرِفْ بِوَجْهِكَ عَنِّي حَتّى أخْلَعَ ثِيابِي إذْ لا يَنْبَغِي لِأحَدٍ أنْ يَنْظُرَ إلى جَسَدِي، فَتَعَجَّبْتُ مِن قَوْلِهِ وصَرَفْتُ بَصَرِي حَتّى دَخَلَ الفِراشَ فَلَمّا دَخَلْتُ مَعَهُ الفِراشَ إذا بَيْنِي وبَيْنَهُ ثَوْبٌ واللَّهِ ما أدْخَلْتُهُ فِراشِي فَإذا هو في غايَةِ اللِّينِ وطِيبِ الرّائِحَةِ كَأنَّهُ غُمِسَ في المِسْكِ، فَجَهِدْتُ لِأنْظُرَ إلى جَسَدِهِ فَما كُنْتُ أرى شَيْئًا وكَثِيرًا ما كُنْتُ أفْتَقِدُهُ مِن فِراشِي فَإذا قُمْتُ لِأطْلُبَهُ نادانِي ها أنا يا عَمُّ فارْجِعْ، ولَقَدْ كُنْتُ كَثِيرًا ما أسْمَعُ مِنهُ كَلامًا يُعْجِبُنِي وذَلِكَ عِنْدَ مُضِيِّ اللَّيْلِ وكُنّا لا نُسَمِّي عَلى الطَّعامِ والشَّرابِ ولا نَحْمَدُهُ بَعْدَهُ، وكانَ يَقُولُ في أوَّلِ الطَّعامِ: بِسْمِ اللَّهِ الأحَدِ. فَإذا فَرَغَ مِن طَعامِهِ قالَ: الحَمْدُ لِلَّهِ، فَتَعَجَّبْتُ مِنهُ، ثُمَّ لَمْ أرَ مِنهُ كِذْبَةً ولا ضَحِكًا ولا جاهِلِيَّةً ولا وقَفَ مَعَ صِبْيانٍ يَلْعَبُونَ.
واعْلَمْ أنَّ العَجائِبَ المَرْوِيَّةَ في حَقِّهِ مِن حَدِيثِ بَحِيرى الرّاهِبِ وغَيْرِهِ مَشْهُورَةٌ.
التَّفْسِيرُ الثّانِي لِلْيَتِيمِ: أنَّهُ مِن قَوْلِهِمْ دُرَّةٌ يَتِيمَةٌ، والمَعْنى ألَمْ يَجِدْكَ واحِدًا في قُرَيْشٍ عَدِيمَ النَّظِيرِ (p-١٩٥)فَآواكَ ؟ أيْ جَعَلَ لَكَ مَن تَأْوِي إلَيْهِ وهو أبُو طالِبٍ، وقُرِئَ فَآوى وهو عَلى مَعْنَيَيْنِ: إمّا مِن أواهُ بِمَعْنى آواهُ، وإمّا مِن أوى لَهُ إذا رَحِمَهُ، وهَهُنا سُؤالانِ:
السُّؤالُ الأوَّلُ: كَيْفَ يَحْسُنُ مِنَ الجُودِ أنْ يَمُنَّ بِنِعْمَةٍ، فَيَقُولَ: ﴿ألَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوى﴾ ؟ والَّذِي يُؤَكِّدُ هَذا السُّؤالَ أنَّ اللَّهَ تَعالى حَكى عَنْ فِرْعَوْنَ أنَّهُ قالَ: ﴿ألَمْ نُرَبِّكَ فِينا ولِيدًا﴾ [الشُّعَراءِ: ١٨] في مَعْرِضِ الذَّمِّ لِفِرْعَوْنَ، فَما كانَ مَذْمُومًا مِن فِرْعَوْنَ كَيْفَ يَحْسُنُ مِنَ اللَّهِ ؟ الجَوابُ: أنَّ ذَلِكَ يَحْسُنُ إذا قَصَدَ بِذَلِكَ أنَّ يُقَوِّيَ قَلْبَهُ ويَعِدَهُ بِدَوامِ النِّعْمَةِ، وبِهَذا يَظْهَرُ الفَرْقُ بَيْنَ هَذا الِامْتِنانِ وبَيْنَ امْتِنانِ فِرْعَوْنَ، لِأنَّ امْتِنانَ فِرْعَوْنَ مُحْبِطٌ، لِأنَّ الغَرَضَ فَما بالُكَ لا تَخْدُمُنِي، وامْتِنانُ اللَّهِ بِزِيادَةِ نِعَمِهِ، كَأنَّهُ يَقُولُ: ما لَكَ تَقْطَعُ عَنِّي رَجاءَكَ ألَسْتُ شَرَعْتُ في تَرْبِيَتِكَ، أتَظُنُّنِي تارِكًا لِما صَنَعْتُ، بَلْ لا بُدَّ وأنْ أُتَمِّمَ عَلَيْكَ وعَلى أُمَّتِكَ النِّعْمَةَ، كَما قالَ: ﴿ولِأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ﴾ [البَقَرَةِ: ١٥٠] أما عَلِمْتَ أنَّ الحامِلَ الَّتِي تُسْقِطُ الوَلَدَ قَبْلَ التَّمامِ مَعِيبَةٌ تُرَدُّ، ولَوْ أسْقَطَتْ أوِ الرَّجُلُ أسْقَطَ عَنْها بِعِلاجٍ تَجِبُ الغِرَّةُ وتَسْتَحِقُّ الذَّمَّ، فَكَيْفَ يَحْسُنُ ذَلِكَ مِنَ الحَيِّ القَيُّومِ، فَما أعْظَمَ الفَرْقَ بَيْنَ مانٍّ هو اللَّهُ، وبَيْنَ مانٍّ هو فِرْعَوْنُ، ونَظِيرُهُ ما قالَهُ بَعْضُهم: ﴿ثَلاثَةٌ رابِعُهم كَلْبُهُمْ﴾ [الكَهْفِ: ٢٢] في تِلْكَ الأُمَّةِ، وفي أُمَّةِ مُحَمَّدٍ: ﴿ما يَكُونُ مِن نَجْوى ثَلاثَةٍ إلّا هو رابِعُهُمْ﴾ [المُجادَلَةِ: ٧] فَشَتّانَ بَيْنَ أُمَّةٍ رابِعُهم كَلْبُهم، وبَيْنَ أُمَّةٍ رابِعُهم رَبُّهم.
السُّؤالُ الثّانِي: أنَّهُ تَعالى مَنَّ عَلَيْهِ بِثَلاثَةِ أشْياءَ، ثُمَّ أمَرَهُ بِأنْ يَذْكُرَ نِعْمَةَ رَبِّهِ، فَما وجْهُ المُناسَبَةِ بَيْنَ هَذِهِ الأشْياءِ ؟
الجَوابُ: وجْهُ المُناسَبَةِ أنْ نَقُولَ: قَضاءُ الدَّيْنِ واجِبٌ، ثُمَّ الدَّيْنُ نَوْعانِ مالِيٌّ وإنْعامِيٌّ، والثّانِي أقْوى وُجُوبًا، لِأنَّ المالِيَّ قَدْ يَسْقُطُ بِالإبْراءِ، والثّانِي يَتَأكَّدُ بِالإبْراءِ، والمالِيُّ يُقْضى مَرَّةً فَيَنْجُو الإنْسانُ مِنهُ، والثّانِي يَجِبُ عَلَيْكَ قَضاؤُهُ طُولَ عُمُرِكَ، ثُمَّ إذا تَعَذَّرَ قَضاءُ النِّعْمَةِ القَلِيلَةِ مِن مُنْعِمٍ هو مَمْلُوكٌ، فَكَيْفَ حالُ النِّعْمَةِ العَظِيمَةِ مِنَ المُنْعِمِ العَظِيمِ، فَكَأنَّ العَبْدَ يَقُولُ: إلَهِي أخْرَجْتَنِي مِنَ العَدَمِ إلى الوُجُودِ بَشَرًا سَوِيًّا، طاهِرَ الظّاهِرِ نَجِسَ الباطِنِ، بِشارَةٌ مِنكَ أنْ تَسْتُرَ عَلَيَّ ذُنُوبِي بِسِتْرِ عَفْوِكَ، كَما سَتَرْتَ نَجاسَتِي بِالجِلْدِ الظّاهِرِ، فَكَيْفَ يُمْكِنُنِي قَضاءُ نِعْمَتِكَ الَّتِي لا حَدَّ لَها ولا حَصْرَ ؟ فَيَقُولُ تَعالى: الطَّرِيقُ إلى ذَلِكَ أنْ تَفْعَلَ في حَقِّ عَبِيدِي ما فَعَلْتُهُ في حَقِّكَ، كُنْتَ يَتِيمًا فَآوَيْتُكَ فافْعَلْ في حَقِّ الأيْتامِ ذَلِكَ، وكُنْتَ ضالًّا فَهَدَيْتُكَ فافْعَلْ في حَقِّ عَبِيدِي ذَلِكَ، وكُنْتَ عائِلًا فَأغْنَيْتُكَ فافْعَلْ في حَقِّ عَبِيدِي ذَلِكَ ثُمَّ إنْ فَعَلْتَ كُلَّ ذَلِكَ فاعْلَمْ أنَّكَ إنَّما فَعَلْتَها بِتَوْفِيقِي لَكَ ولُطْفِي وإرْشادِي، فَكُنْ أبَدًا ذاكِرًا لِهَذِهِ النِّعَمِ والألْطافِ.
{"ayah":"أَلَمۡ یَجِدۡكَ یَتِیمࣰا فَـَٔاوَىٰ"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق