الباحث القرآني

أمّا قَوْلُهُ تَعالى: ﴿قَدْ أفْلَحَ مَن زَكّاها﴾ فاعْلَمْ أنَّ التَّزْكِيَةَ عِبارَةٌ عَنِ التَّطْهِيرِ أوْ عَنِ الإنْماءِ، وفي الآيَةِ قَوْلانِ: أحَدُهُما: أنَّهُ قَدْ أدْرَكَ مَطْلُوبَهُ مِن زَكّى نَفْسَهُ بِأنْ طَهَّرَها مِنَ الذُّنُوبِ بِفِعْلِ الطّاعَةِ ومُجانَبَةِ المَعْصِيَةِ. (p-١٧٦)والثّانِي: قَدْ أفْلَحَ مَن زَكّاها اللَّهُ، وقَبِلَ القاضِي هَذا التَّأْوِيلَ، وقالَ: المُرادُ مِنهُ أنَّ اللَّهَ حَكَمَ بِتَزْكِيَتِها وسَمّاها بِذَلِكَ، كَما يُقالُ في العُرْفِ: إنَّ فُلانًا يُزَكِّي فُلانًا، ثُمَّ قالَ: والأوَّلُ أقْرَبُ؛ لِأنَّ ذِكْرَ النَّفْسِ قَدْ تَقَدَّمَ ظاهِرًا، فَرَدُّ الضَّمِيرِ عَلَيْهِ أوْلى مِن رَدِّهِ عَلى ما هو في حُكْمِ المَذْكُورِ لا أنَّهُ مَذْكُورٌ. واعْلَمْ أنّا قَدْ دَلَّلْنا بِالبُرْهانِ القاطِعِ أنَّ المُرادَ بِـ”ألْهَمَها“ ما ذَكَرْناهُ، فَوَجَبَ حَمْلُ اللَّفْظِ عَلَيْهِ، وأمّا قَوْلُهُ بِأنَّ هَذا مَحْمُولٌ عَلى الحُكْمِ والتَّسْمِيَةِ فَهو ضَعِيفٌ؛ لِأنَّ بِناءَ التَّفْعِيلاتِ عَلى التَّكْوِينِ، ثُمَّ إنْ سَلَّمْنا ذَلِكَ لَكِنْ ما حَكَمَ اللَّهُ بِهِ يَمْتَنِعُ تَغَيُّرُهُ؛ لِأنَّ تَغَيُّرَ المَحْكُومِ بِهِ يَسْتَلْزِمُ تَغَيُّرَ الحُكْمِ مِنَ الصِّدْقِ إلى الكَذِبِ وتَغَيُّرَ العِلْمِ إلى الجَهْلِ وذَلِكَ مُحالٌ، والمُفْضِي إلى المُحالِ مُحالٌ، أمّا قَوْلُهُ: ذِكْرُ النَّفْسِ قَدْ تَقَدَّمَ، قُلْنا: هَذا بِالعَكْسِ أوْلى، فَإنَّ أهْلَ اللُّغَةِ اتَّفَقُوا عَلى أنَّ عَوْدَ الضَّمِيرِ إلى الأقْرَبِ أوْلى مِن عُودِهِ إلى الأبْعَدِ، وقَوْلُهُ: ﴿فَألْهَمَها﴾ أقْرَبُ إلى قَوْلِهِ: (ما) مِنهُ إلى قَوْلِهِ: ﴿ونَفْسٍ﴾ فَكانَ التَّرْجِيحُ لِما ذَكَرْناهُ، ومِمّا يُؤَكِّدُ هَذا التَّأْوِيلَ ما رَواهُ الواحِدِيُّ في البَسِيطِ عَنْ سَعِيدِ بْنِ أبِي هِلالٍ أنَّهُ عَلَيْهِ السَّلامُ كانَ إذا قَرَأ: ﴿قَدْ أفْلَحَ مَن زَكّاها﴾ وقَفَ وقالَ: ”«اللَّهُمَّ آتِ نَفْسِي تَقْواها، أنْتَ ولِيُّها وأنْتَ مَوْلاها، وزَكِّها أنْتَ خَيْرُ مَن زَكّاها» “ . أمّا قَوْلُهُ تَعالى: ﴿وقَدْ خابَ مَن دَسّاها﴾، فَقالُوا: ﴿دَسّاها﴾ أصْلُهُ دَسَّسَها مِنَ التَّدْسِيسِ، وهو إخْفاءُ الشَّيْءِ في الشَّيْءِ، فَأُبْدِلَتْ إحْدى السِّيناتِ ياءً، فَأصْلُ دَسّى دَسَّسَ، كَما أنَّ أصْلَ تَقَضّى البازِيُّ تَقَضَّضَ البازِيُّ، وكَما قالُوا: ألَبَّيْتُ والأصْلُ لَبَّبْتُ، ومُلَبِّي والأصْلُ مُلَبِّبُ، ثُمَّ نَقُولُ: أمّا المُعْتَزِلَةُ فَذَكَرُوا وُجُوهًا تُوافِقُ قَوْلَهم: أحَدُها: أنَّ أهْلَ الصَّلاحِ يُظْهِرُونَ أنْفُسَهم، وأهْلَ الفِسْقِ يُخْفُونَ أنْفُسَهم ويَدُسُّونَها في المَواضِعِ الخَفِيَّةِ، كَما أنَّ أجْوادَ العَرَبِ يَنْزِلُونَ الرُّبا حَتّى تَشْتَهِرَ أماكِنُهم ويَقْصِدُهُمُ المُحْتاجُونَ، ويُوقِدُونَ النِّيرانَ بِاللَّيْلِ لِلطّارِقِينَ. وأمّا اللِّئامُ فَإنَّهم يُخْفُونَ أماكِنَهم عَنِ الطّالِبِينَ. وثانِيها: ﴿خابَ مَن دَسّاها﴾ أيْ دَسَّ نَفْسَهُ في جُمْلَةِ الصّالِحِينَ ولَيْسَ مِنهم. وثالِثُها: ﴿مَن دَسّاها﴾ في المَعاصِي حَتّى انْغَمَسَ فِيها. ورابِعُها: ﴿مَن دَسّاها﴾ مَن دَسَّ في نَفْسِهِ الفُجُورَ، وذَلِكَ بِسَبَبِ مُواظَبَتِهِ عَلَيْها ومُجالَسَتِهِ مَعَ أهْلِها. وخامِسُها: أنَّ مَن أعْرَضَ عَنِ الطّاعاتِ واشْتَغَلَ بِالمَعاصِي صارَ خامِلًا مَتْرُوكًا مَنسِيًّا، فَصارَ كالشَّيْءِ المَدْسُوسِ في الِاخْتِفاءِ والخُمُولِ، وأمّا أصْحابُنا فَقالُوا: المَعْنى خابَتْ وخَسِرَتْ نَفْسٌ أضَلَّها اللَّهُ تَعالى وأغْواها وأفْجَرَها وأبْطَلَها وأهْلَكَها، هَذِهِ ألْفاظُهم في تَفْسِيرِ ﴿دَسّاها﴾ قالَ الواحِدِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: فَكَأنَّهُ سُبْحانَهُ أقْسَمَ بِأشْرَفِ مَخْلُوقاتِهِ عَلى فَلاحِ مَن طَهَّرَهُ وخَسارِ مَن خَذَلَهُ حَتّى لا يَظُنَّ أحَدٌ أنَّهُ هو الَّذِي يَتَوَلّى تَطْهِيرَ نَفْسِهِ أوْ إهْلاكَها بِالمَعْصِيَةِ مِن غَيْرِ قَدَرٍ مُتَقَدِّمٍ وقَضاءٍ سابِقٍ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب