الباحث القرآني

أمّا قَوْلُهُ تَعالى: ﴿أوْ مِسْكِينًا ذا مَتْرَبَةٍ﴾ أيْ مِسْكِينًا قَدْ لَصِقَ بِالتُّرابِ مِن فَقْرِهِ وضُرِّهِ، فَلَيْسَ فَوْقَهُ ما يَسْتُرُهُ ولا تَحْتَهُ ما يُوَطِّئُهُ، رُوِيَ أنَّ ابْنَ عَبّاسٍ مَرَّ بِمِسْكِينٍ لاصِقٍ بِالتُّرابِ فَقالَ: هَذا الَّذِي قالَ اللَّهُ تَعالى [ فِيهِ ]: ﴿أوْ مِسْكِينًا ذا مَتْرَبَةٍ﴾ واحْتَجَّ الشّافِعِيُّ بِهَذِهِ الآيَةِ عَلى أنَّ المِسْكِينَ قَدْ يَكُونُ بِحَيْثُ يَمْلِكُ شَيْئًا، لِأنَّهُ لَوْ كانَ لَفْظُ المِسْكِينِ دَلِيلًا عَلى أنَّهُ لا يَمْلِكُ شَيْئًا البَتَّةَ لَكانَ تَقْيِيدُهُ بِقَوْلِهِ: ﴿ذا مَتْرَبَةٍ﴾ تَكْرِيرًا وهو غَيْرُ جائِزٍ. أمّا قَوْلُهُ تَعالى: ﴿ثُمَّ كانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا﴾ أيْ: كانَ مُقْتَحِمُ العَقَبَةِ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا، فَإنَّهُ إنْ لَمْ يَكُنْ مِنهم لَمْ يَنْتَفِعْ بِشَيْءٍ مِن هَذِهِ الطّاعاتِ، ولا مُقْتَحِمًا لِلْعَقَبَةِ (فَإنْ قِيلَ): لَمّا كانَ الإيمانُ شَرْطًا لِلِانْتِفاعِ بِهَذِهِ الطّاعاتِ وجَبَ كَوْنُهُ مُقَدَّمًا عَلَيْها، فَما السَّبَبُ في أنَّ اللَّهَ تَعالى أخَّرَهُ عَنْها بِقَوْلِهِ: ﴿ثُمَّ كانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا﴾ ؟ والجَوابُ: مِن وُجُوهٍ: أحَدُها: أنَّ هَذا التَّراخِيَ في الذِّكْرِ لا في الوُجُودِ، كَقَوْلِهِ: ؎إنَّ مَن سادَ ثُمَّ سادَ أبُوهُ ثُمَّ قَدْ سادَ قَبْلَ ذَلِكَ جَدُّهُ لَمْ يُرِدْ بِقَوْلِهِ: ”ثُمَّ سادَ أبُوهُ“ التَّأخُّرَ في الوُجُودِ، وإنَّما المَعْنى، ثُمَّ اذْكُرْ أنَّهُ سادَ أبُوهُ. كَذَلِكَ في الآيَةِ. وثانِيها: أنْ يَكُونَ المُرادُ ثُمَّ كانَ في عاقِبَةِ أمْرِهِ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وهو أنْ يَمُوتَ عَلى الإيمانِ فَإنَّ المُوافاةَ شَرْطُ الِانْتِفاعِ بِالطّاعاتِ. وثالِثُها: أنَّ مَن أتى بِهَذِهِ القُرَبِ تَقَرُّبًا إلى اللَّهِ تَعالى قَبْلَ إيمانِهِ بِمُحَمَّدٍ ﷺ ثُمَّ آمَنَ بَعْدَ ذَلِكَ بِمُحَمَّدٍ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ، فَعِنْدَ بَعْضِهِمْ أنَّهُ يُثابُ عَلى تِلْكَ الطّاعاتِ، قالُوا: ويَدُلُّ عَلَيْهِ ما رُوِيَ: ”«أنَّ حَكِيمَ بْنَ حِزامٍ بَعْدَما أسْلَمَ قالَ لِرَسُولِ اللَّهِ ﷺ: إنّا كُنّا نَأْتِي بِأعْمالِ الخَيْرِ في الجاهِلِيَّةِ فَهَلْ لَنا مِنها شَيْءٌ ؟ فَقالَ عَلَيْهِ السَّلامُ: أسْلَمْتَ عَلى ما قَدَّمْتَ مِنَ الخَيْرِ» “ . ورابِعُها: أنَّ المُرادَ مِن قَوْلِهِ: ﴿ثُمَّ كانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا﴾ تَراخِي الإيمانِ وتَباعُدُهُ في الرُّتْبَةِ والفَضِيلَةِ عَنِ العِتْقِ والصَّدَقَةِ لِأنَّ دَرَجَةَ ثَوابِ الإيمانِ أعْظَمُ بِكَثِيرٍ مِن دَرَجَةِ ثَوابِ سائِرِ الأعْمالِ. (p-١٧٠) أمّا قَوْلُهُ تَعالى: ﴿وتَواصَوْا بِالصَّبْرِ وتَواصَوْا بِالمَرْحَمَةِ﴾ فالمَعْنى أنَّهُ كانَ يُوصِي بَعْضُهم بَعْضًا بِالصَّبْرِ عَلى الإيمانِ والثَّباتِ عَلَيْهِ أوِ الصَّبْرِ عَلى المَعاصِي وعَلى الطّاعاتِ والمِحَنِ الَّتِي يُبْتَلى بِها المُؤْمِنُ ثُمَّ ضَمَّ إلَيْهِ التَّواصِيَ بِالمَرْحَمَةِ وهو أنْ يَحُثَّ بَعْضُهم بَعْضًا عَلى أنْ يَرْحَمَ المَظْلُومَ أوِ الفَقِيرَ، أوْ يَرْحَمَ المُقْدِمَ عَلى مُنْكَرٍ فَيَمْنَعَهُ مِنهُ لِأنَّ كُلَّ ذَلِكَ داخِلٌ في الرَّحْمَةِ، وهَذا يَدُلُّ عَلى أنَّهُ يَجِبُ عَلى المَرْءِ أنْ يَدُلَّ غَيْرَهُ عَلى طَرِيقِ الحَقِّ ويَمْنَعَهُ مِن سُلُوكِ طَرِيقِ الشَّرِّ والباطِلِ ما أمْكَنَهُ، واعْلَمْ أنَّ قَوْلَهُ: ﴿ثُمَّ كانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وتَواصَوْا بِالصَّبْرِ وتَواصَوْا بِالمَرْحَمَةِ﴾ يَعْنِي: يَكُونُ مُقْتَحِمُ العَقَبَةِ مِن هَذِهِ الزُّمْرَةِ والطّائِفَةِ، وهَذِهِ الطّائِفَةُ هم أكابِرُ الصَّحابَةِ كالخُلَفاءِ الأرْبَعَةِ وغَيْرِهِمْ، فَإنَّهم كانُوا مُبالِغِينَ في الصَّبْرِ عَلى شَدائِدِ الدِّينِ والرَّحْمَةِ عَلى الخَلْقِ، وبِالجُمْلَةِ فَقَوْلُهُ: ﴿وتَواصَوْا بِالصَّبْرِ﴾ إشارَةٌ إلى التَّعْظِيمِ لِأمْرِ اللَّهِ، وقَوْلُهُ: ﴿وتَواصَوْا بِالمَرْحَمَةِ﴾ إشارَةٌ إلى الشَّفَقَةِ عَلى خَلْقِ اللَّهِ، ومَدارُ أمْرِ الطّاعاتِ لَيْسَ إلّا عَلى هَذَيْنِ الأصْلَيْنِ وهو الَّذِي قالَهُ بَعْضُ المُحَقِّقِينَ: إنَّ الأصْلَ في التَّصَوُّفِ أمْرانِ: صِدْقٌ مَعَ الحَقِّ، وخُلُقٌ مَعَ الحَقِّ. ثُمَّ إنَّهُ سُبْحانَهُ لَمّا وصَفَ هَؤُلاءِ المُؤْمِنِينَ بَيَّنَ أنَّهم مَن هم في القِيامَةِ فَقالَ:
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب