الباحث القرآني

قَوْلُهُ تَعالى: ﴿سَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكم إذا انْقَلَبْتُمْ إلَيْهِمْ لِتُعْرِضُوا عَنْهم فَأعْرِضُوا عَنْهم إنَّهم رِجْسٌ ومَأْواهم جَهَنَّمُ جَزاءً بِما كانُوا يَكْسِبُونَ﴾ ﴿يَحْلِفُونَ لَكم لِتَرْضَوْا عَنْهم فَإنْ تَرْضَوْا عَنْهم فَإنَّ اللَّهَ لا يَرْضى عَنِ القَوْمِ الفاسِقِينَ﴾ اعْلَمْ أنَّهُ تَعالى لَمّا حَكى عَنْهم في الآيَةِ الأُولى أنَّهم يَعْتَذِرُونَ، ذَكَرَ في هَذِهِ الآيَةِ أنَّهم كانُوا يُؤَكِّدُونَ تِلْكَ الأعْذارَ بِالأيْمانِ الكاذِبَةِ. أمّا قَوْلُهُ: ﴿سَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكم إذا انْقَلَبْتُمْ إلَيْهِمْ لِتُعْرِضُوا عَنْهُمْ﴾ فاعْلَمْ أنَّ هَذا الكَلامَ يَدُلُّ عَلى أنَّهم حَلَفُوا بِاللَّهِ، ولَمْ يَدُلَّ عَلى أنَّهم عَلى أيِّ شَيْءٍ حَلَفُوا ؟ فَقِيلَ: إنَّهم حَلَفُوا عَلى أنَّهم ما قَدَرُوا عَلى الخُرُوجِ، وإنَّما حَلَفُوا عَلى ذَلِكَ لِتُعْرِضُوا عَنْهم، أيْ لِتَصْفَحُوا عَنْهم، ولِتُعْرِضُوا عَنْ ذَمِّهِمْ. ثُمَّ قالَ تَعالى: ﴿فَأعْرِضُوا عَنْهُمْ﴾ قالَ ابْنُ عَبّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُما -: يُرِيدُ تَرْكَ الكَلامِ والسَّلامِ. قالَ مُقاتِلٌ: قالَ النَّبِيُّ ﷺ حِينَ قَدِمَ المَدِينَةَ: ”«لا تُجالِسُوهم ولا تُكَلِّمُوهم» “ قالَ أهْلُ المَعانِي: هَؤُلاءِ طَلَبُوا إعْراضَ الصَّفْحِ، فَأُعْطُوا إعْراضَ المَقْتِ، ثُمَّ ذَكَرَ العِلَّةَ في وُجُوبِ الإعْراضِ عَنْهم، فَقالَ: ﴿إنَّهم رِجْسٌ﴾ والمَعْنى: أنَّ خُبْثَ باطِنِهِمْ رِجْسٌ رُوحانِيٌّ، فَكَما يَجِبُ الِاحْتِرازُ عَنِ الأرْجاسِ الجُسْمانِيَّةِ، فَوُجُوبُ الِاحْتِرازِ عَنِ (p-١٣١)الأرْجاسِ الرُّوحانِيَّةِ أوْلى، خَوْفًا مِن سَرَيانِها إلى الإنْسانِ، وحَذَرًا مِن أنْ يَمِيلَ طَبْعُ الإنْسانِ إلى تِلْكَ الأعْمالِ. ثُمَّ قالَ تَعالى: ﴿ومَأْواهم جَهَنَّمُ جَزاءً بِما كانُوا يَكْسِبُونَ﴾ ومَعْناهُ ظاهِرٌ، ولَمّا بَيَّنَ في الآيَةِ أنَّهم يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لِيُعْرِضَ المُسْلِمُونَ عَنْ إيذائِهِمْ، بَيَّنَ أيْضًا أنَّهم يَحْلِفُونَ لِيَرْضى المُسْلِمُونَ عَنْهم، ثُمَّ إنَّهُ تَعالى نَهى المُسْلِمِينَ عَنْ أنْ يَرْضَوْا عَنْهم، فَقالَ: ﴿فَإنْ تَرْضَوْا عَنْهم فَإنَّ اللَّهَ لا يَرْضى عَنِ القَوْمِ الفاسِقِينَ﴾ والمَعْنى: أنَّكم إنْ رَضِيتُمْ عَنْهم مَعَ أنَّ اللَّهَ لا يَرْضى عَنْهم، كانَتْ إرادَتُكم مُخالِفَةً لِإرادَةِ اللَّهِ، وأنَّ ذَلِكَ لا يَجُوزُ. وأقُولُ: إنَّ هَذِهِ المَعانِيَ مَذْكُورَةٌ في الآياتِ السّالِفَةِ، وقَدْ أعادَها اللَّهُ هَهُنا مَرَّةً أُخْرى، وأظُنُّ أنَّ الأوَّلَ خِطابٌ مَعَ المُنافِقِينَ الَّذِينَ كانُوا في المَدِينَةِ، وهَذا خِطابٌ مَعَ المُنافِقِينَ مِنَ الأعْرابِ وأصْحابِ البَوادِي، ولَمّا كانَتْ طُرُقُ المُنافِقِينَ مُتَقارِبَةً سَواءٌ كانُوا مِن أهْلِ الحَضَرِ أوْ مِن أهْلِ البادِيَةِ، لا جَرَمَ كانَ الكَلامُ مَعَهم عَلى مَناهِجَ مُتَقارِبَةٍ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب