الباحث القرآني

قَوْلُهُ تَعالى: ﴿ولا تُصَلِّ عَلى أحَدٍ مِنهم ماتَ أبَدًا ولا تَقُمْ عَلى قَبْرِهِ إنَّهم كَفَرُوا بِاللَّهِ ورَسُولِهِ وماتُوا وهم فاسِقُونَ﴾ . اعْلَمْ أنَّهُ تَعالى أمَرَ رَسُولَهُ بِأنْ يَسْعى في تَخْذِيلِهِمْ وإهانَتِهِمْ وإذْلالِهِمْ، فالَّذِي سَبَقَ ذِكْرُهُ في الآيَةِ الأُولى وهو مَنعُهم مِنَ الخُرُوجِ مَعَهُ إلى الغَزَواتِ سَبَبٌ قَوِيٌّ مِن أسْبابِ إذْلالِهِمْ وإهانَتِهِمْ، وهَذا الَّذِي ذَكَرَهُ في هَذِهِ الآيَةِ، وهو مَنعُ الرَّسُولِ مِن أنْ يُصَلِّيَ عَلى مَن ماتَ مِنهم سَبَبٌ آخَرُ قَوِيٌّ في إذْلالِهِمْ وتَخْذِيلِهِمْ. عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُما أنَّهُ «لَمّا اشْتَكى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَيٍّ ابْنُ سَلُولَ عادَهُ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ، فَطَلَبَ مِنهُ أنْ يُصَلِّيَ عَلَيْهِ إذا ماتَ ويَقُومَ عَلى قَبْرِهِ، ثُمَّ إنَّهُ أرْسَلَ إلى الرَّسُولِ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ يَطْلُبُ مِنهُ قَمِيصَهُ لِيُكَفَّنَ فِيهِ، فَأرْسَلَ إلَيْهِ القَمِيصَ الفَوْقانِيَّ، فَرَدَّهُ وطَلَبَ الَّذِي يَلِي جِلْدَهُ لِيُكَفَّنَ فِيهِ، فَقالَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: لِمَ تُعْطِي قَمِيصَكَ الرِّجْسَ النَّجِسَ ؟ فَقالَ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ: ”إنَّ قَمِيصِي لا يُغْنِي عَنْهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا، فَلَعَلَّ اللَّهَ أنْ يُدْخِلَ بِهِ ألْفًا في الإسْلامِ“ . وكانَ المُنافِقُونَ لا يُفارِقُونَ عَبْدَ اللَّهِ، فَلَمّا رَأوْهُ يَطْلُبُ هَذا القَمِيصَ ويَرْجُو أنْ يَنْفَعَهُ، أسْلَمَ مِنهم يَوْمَئِذٍ ألْفٌ، فَلَمّا ماتَ جاءَ ابْنُهُ يَعْرِفُهُ، فَقالَ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ لِابْنِهِ: ”صَلِّ عَلَيْهِ وادْفِنْهُ“ . فَقالَ: إنْ لَمْ تُصَلِّ عَلَيْهِ يا رَسُولَ اللَّهِ لَمْ يُصَلِّ عَلَيْهِ مُسْلِمٌ. فَقامَ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ لِيُصَلِّيَ عَلَيْهِ، فَقامَ عُمَرُ فَحالَ بَيْنَ رَسُولِ اللَّهِ وبَيْنَ القِبْلَةِ؛ لِئَلّا يُصَلِّيَ عَلَيْهِ، فَنَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ، وأخَذَ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلامُ بِثَوْبِهِ وقالَ: ﴿ولا تُصَلِّ عَلى أحَدٍ مِنهم ماتَ أبَدًا»﴾ . واعْلَمْ أنَّ هَذا يَدُلُّ عَلى مَنقَبَةٍ عَظِيمَةٍ مِن مَناقِبِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ؛ وذَلِكَ لِأنَّ الوَحْيَ نَزَلَ عَلى وفْقِ قَوْلِهِ في آياتٍ كَثِيرَةٍ: مِنها آيَةُ أخْذِ الفِداءِ عَنْ أُسارى بَدْرٍ، وقَدْ سَبَقَ شَرْحُهُ. وثانِيها: آيَةُ تَحْرِيمِ الخَمْرِ. وثالِثُها: آيَةُ تَحْوِيلِ القِبْلَةِ. ورابِعُها: آيَةُ أمْرِ النِّسْوانِ بِالحِجابِ. وخامِسُها: هَذِهِ الآيَةُ. فَصارَ نُزُولُ الوَحْيِ عَلى مُطابَقَةِ قَوْلِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مَنصِبًا عالِيًا ودَرَجَةً رَفِيعَةً لَهُ في الدِّينِ؛ فَلِهَذا قالَ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ في حَقِّهِ: ”«لَوْ لَمْ أُبْعَثْ لَبُعِثْتَ يا عُمَرُ نَبِيًّا» “ . فَإنْ قِيلَ: كَيْفَ يَجُوزُ أنْ يُقالَ: إنَّ الرَّسُولَ رَغِبَ في أنْ يُصَلِّيَ عَلَيْهِ بَعْدَ أنْ عَلِمَ كَوْنَهُ كافِرًا وقَدْ ماتَ عَلى كُفْرِهِ، وأنَّ صَلاةَ الرَّسُولِ عَلَيْهِ تَجْرِي مَجْرى الإجْلالِ والتَّعْظِيمِ لَهُ، وأيْضًا إذا صَلّى عَلَيْهِ فَقَدْ دَعا لَهُ، وذَلِكَ مَحْظُورٌ؛ لِأنَّهُ تَعالى أعْلَمَهُ أنَّهُ لا يَغْفِرُ لِلْكُفّارِ البَتَّةَ، وأيْضًا دَفْعُ القَمِيصِ إلَيْهِ يُوجِبُ إعْزازَهُ ؟ والجَوابُ: لَعَلَّ السَّبَبَ فِيهِ أنَّهُ لَمّا طَلَبَ مِنَ الرَّسُولِ أنْ يُرْسِلَ إلَيْهِ قَمِيصَهُ الَّذِي مَسَّ جِلْدَهُ لِيُدْفَنَ فِيهِ، غَلَبَ عَلى ظَنِّ الرَّسُولِ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ أنَّهُ انْتَقَلَ إلى الإيمانِ؛ لِأنَّ ذَلِكَ الوَقْتَ وقْتٌ يَتُوبُ فِيهِ الفاجِرُ ويُؤْمِنُ فِيهِ الكافِرُ، فَلَمّا رَأى مِنهُ إظْهارَ الإسْلامِ وشاهَدَ مِنهُ هَذِهِ الأمارَةَ الَّتِي دَلَّتْ عَلى دُخُولِهِ في الإسْلامِ، غَلَبَ عَلى ظَنِّهِ أنَّهُ صارَ مُسْلِمًا، فَبَنى عَلى هَذا الظَّنِّ ورَغِبَ في أنْ يُصَلِّيَ عَلَيْهِ، فَلَمّا نَزَلَ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلامُ وأخْبَرَهُ بِأنَّهُ ماتَ عَلى كُفْرِهِ ونِفاقِهِ، امْتَنَعَ مِنَ الصَّلاةِ عَلَيْهِ. وأمّا دَفْعُ القَمِيصِ إلَيْهِ فَذَكَرُوا فِيهِ وُجُوهًا: الأوَّلُ: أنَّ العَبّاسَ عَمَّ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ لَمّا أُخِذَ أسِيرًا بِبَدْرٍ، لَمْ يَجِدُوا لَهُ قَمِيصًا، وكانَ رَجُلًا طَوِيلًا، فَكَساهُ عَبْدُ اللَّهِ (p-١٢٢)قَمِيصَهُ. الثّانِي: أنَّ المُشْرِكِينَ قالُوا لَهُ يَوْمَ الحُدَيْبِيَةِ: إنّا لا نَنْقادُ لِمُحَمَّدٍ، ولَكِنّا نَنْقادُ لَكَ، فَقالَ: لا، إنَّ لِي في رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةً حَسَنَةً. فَشَكَرَ رَسُولُ اللَّهِ لَهُ ذَلِكَ. والثّالِثُ: أنَّ اللَّهَ تَعالى أمَرَهُ أنْ لا يَرُدَّ سائِلًا بِقَوْلِهِ: ﴿وأمّا السّائِلَ فَلا تَنْهَرْ﴾ [الضحى: ١٠] . فَلَمّا طَلَبَ القَمِيصَ مِنهُ دَفَعَهُ إلَيْهِ لِهَذا المَعْنى. الرّابِعُ: أنَّ مَنعَ القَمِيصِ لا يَلِيقُ بِأهْلِ الكَرَمِ. الخامِسُ: أنَّ ابْنَهُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُبَيٍّ كانَ مِنَ الصّالِحِينَ، وأنَّ الرَّسُولَ أكْرَمَهُ لِمَكانِ ابْنِهِ. السّادِسُ: لَعَلَّ اللَّهَ تَعالى أوْحى إلَيْهِ أنَّكَ إذا دَفَعْتَ قَمِيصَكَ إلَيْهِ صارَ ذَلِكَ حامِلًا لِألْفِ نَفَرٍ مِنَ المُنافِقِينَ في الدُّخُولِ في الإسْلامِ فَفَعَلَ ذَلِكَ لِهَذا الغَرَضِ، ورُوِيَ أنَّهم لَمّا شاهَدُوا ذَلِكَ أسْلَمَ ألْفٌ مِنَ المُنافِقِينَ. السّابِعُ: أنَّ الرَّحْمَةَ والرَّأْفَةَ كانَتْ غالِبَةً عَلَيْهِ كَما قالَ: ﴿وما أرْسَلْناكَ إلّا رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ﴾ [الأنبياء: ١٠٧] . وقالَ: ﴿فَبِما رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ﴾ [آل عمران: ١٥٩] . فامْتَنَعَ مِنَ الصَّلاةِ عَلَيْهِ رِعايَةً لِأمْرِ اللَّهِ تَعالى، ودَفَعَ إلَيْهِ القَمِيصَ لِإظْهارِ الرَّحْمَةِ والرَّأْفَةِ. إذا عَرَفْتَ هَذا فَنَقُولُ: قَوْلُهُ: ﴿ولا تُصَلِّ عَلى أحَدٍ مِنهم ماتَ أبَدًا﴾ قالَ الواحِدِيُّ: ”ماتَ“ في مَوْضِعِ جَرٍّ؛ لِأنَّهُ صِفَةٌ لِلنَّكِرَةِ، كَأنَّهُ قِيلَ: عَلى أحَدٍ مِنهم مَيِّتٍ. وقَوْلُهُ: ﴿أبَدًا﴾ مُتَعَلِّقٌ بِقَوْلِهِ: ﴿أحَدٍ﴾ والتَّقْدِيرُ: ولا تُصَلِّ أبَدًا عَلى أحَدٍ مِنهم. واعْلَمْ أنَّ قَوْلَهُ: ولا تُصَلِّ أبَدًا يَحْتَمِلُ تَأْيِيدَ النَّفْيِ ويَحْتَمِلُ تَأْيِيدَ المَنفِيِّ، والمَقْصُودُ هو الأوَّلُ؛ لِأنَّ قَرائِنَ هَذِهِ الآياتِ دالَّةٌ عَلى أنَّ المَقْصُودَ مَنعُهُ مِن أنْ يُصَلِّيَ عَلى أحَدٍ مِنهم مَنعًا كُلِّيًّا دائِمًا. ثُمَّ قالَ تَعالى: ﴿ولا تَقُمْ عَلى قَبْرِهِ﴾ وفِيهِ وجْهانِ: الأوَّلُ: قالَ الزَّجّاجُ: كانَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ إذا دَفَنَ المَيِّتَ وقَفَ عَلى قَبْرِهِ ودَعا لَهُ، فَمَنَعَ هَهُنا مِنهُ. الثّانِي: قالَ الكَلْبِيُّ: لا تَقُمْ بِإصْلاحِ مُهِمّاتِ قَبْرِهِ، وهو مِن قَوْلِهِمْ: قامَ فُلانٌ بِأمْرِ فُلانٍ إذا كَفاهُ أمْرَهُ وتَوَلّاهُ. ثُمَّ إنَّهُ تَعالى عَلَّلَ المَنعَ مِنَ الصَّلاةِ عَلَيْهِ والقِيامِ عَلى قَبْرِهِ بِقَوْلِهِ: ﴿إنَّهم كَفَرُوا بِاللَّهِ ورَسُولِهِ وماتُوا وهم فاسِقُونَ﴾ وفِيهِ سُؤالاتٌ: السُّؤالُ الأوَّلُ: الفِسْقُ أدْنى حالًا مِنَ الكُفْرِ، ولَمّا ذَكَرَ في تَعْلِيلِ هَذا النَّهْيِ كَوْنَهُ كافِرًا فَما الفائِدَةُ في وصْفِهِ بَعْدَ ذَلِكَ بِكَوْنِهِ فاسِقًا ؟ والجَوابُ: أنَّ الكافِرَ قَدْ يَكُونُ عَدْلًا في دِينِهِ، وقَدْ يَكُونُ فاسِقًا في دِينِهِ خَبِيثًا مَمْقُوتًا عِنْدَ قَوْمِهِ، والكَذِبُ والنِّفاقُ والخِداعُ والمَكْرُ والكَيْدُ أمْرٌ مُسْتَقْبَحٌ في جَمِيعِ الأدْيانِ، فالمُنافِقُونَ لَمّا كانُوا مَوْصُوفِينَ بِهَذِهِ الصِّفاتِ وصَفَهُمُ اللَّهُ تَعالى بِالفِسْقِ بَعْدَ أنْ وصَفَهم بِالكُفْرِ؛ تَنْبِيهًا عَلى أنَّ طَرِيقَةَ النِّفاقِ طَرِيقَةٌ مَذْمُومَةٌ عِنْدَ كُلِّ أهْلِ العالَمِ. السُّؤالُ الثّانِي: ألَيْسَ أنَّ المُنافِقَ يُصَلّى عَلَيْهِ إذا أظْهَرَ الإيمانَ مَعَ قِيامِ الكُفْرِ فِيهِ ؟ . والجَوابُ: أنَّ التَّكالِيفَ مَبْنِيَّةٌ عَلى الظّاهِرِ، قالَ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ: ”«نَحْنُ نَحْكُمُ بِالظّاهِرِ، واللَّهُ تَعالى يَتَوَلّى السَّرائِرَ» “ . السُّؤالُ الثّالِثُ: قَوْلُهُ: ﴿ذَلِكَ بِأنَّهم كَفَرُوا بِاللَّهِ ورَسُولِهِ﴾ تَصْرِيحٌ بِكَوْنِ ذَلِكَ النَّهْيِ مُعَلَّلًا بِهَذِهِ العِلَّةِ، وذَلِكَ يَقْتَضِي تَعْلِيلَ حُكْمِ اللَّهِ تَعالى، وهو مُحالٌ؛ لِأنَّ حُكْمَ اللَّهِ قَدِيمٌ، وهَذِهِ العِلَّةُ مُحْدَثَةٌ، وتَعْلِيلُ القَدِيمِ بِالمُحْدَثِ مُحالٌ. والجَوابُ: الكَلامُ في أنَّ تَعْلِيلَ حُكْمِ اللَّهِ تَعالى بِالمَصالِحِ هَلْ يَجُوزُ أمْ لا، بَحْثٌ طَوِيلٌ، ولا شَكَّ أنَّ هَذا الظّاهِرَ يَدُلُّ عَلَيْهِ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب