الباحث القرآني
قَوْلُهُ تَعالى: ﴿وعَدَ اللَّهُ المُنافِقِينَ والمُنافِقاتِ والكُفّارَ نارَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها هي حَسْبُهم ولَعَنَهُمُ اللَّهُ ولَهم عَذابٌ مُقِيمٌ﴾ ﴿كالَّذِينَ مِن قَبْلِكم كانُوا أشَدَّ مِنكم قُوَّةً وأكْثَرَ أمْوالًا وأوْلادًا فاسْتَمْتَعُوا بِخَلاقِهِمْ فاسْتَمْتَعْتُمْ بِخَلاقِكم كَما اسْتَمْتَعَ الَّذِينَ مِن قَبْلِكم بِخَلاقِهِمْ وخُضْتُمْ كالَّذِي خاضُوا أُولَئِكَ حَبِطَتْ أعْمالُهم في الدُّنْيا والآخِرَةِ وأُولَئِكَ هُمُ الخاسِرُونَ﴾ .
(p-١٠٢)اعْلَمْ أنَّهُ تَعالى لَمّا بَيَّنَ مِن قَبْلُ في المُنافِقِينَ والمُنافِقاتِ أنَّهُ نَسِيَهم، أيْ جازاهم عَلى تَرْكِهِمُ التَّمَسُّكَ بِطاعَةِ اللَّهِ أكَّدَ هَذا الوَعِيدَ، وضَمَّ المُنافِقِينَ إلى الكُفّارِ فِيهِ، فَقالَ: ﴿وعَدَ اللَّهُ المُنافِقِينَ والمُنافِقاتِ والكُفّارَ نارَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها﴾ . ولا شَكَّ أنَّ النّارَ المُخَلَّدَةَ مِن أعْظَمِ العُقُوباتِ.
ثُمَّ قالَ: ﴿هِيَ حَسْبُهُمْ﴾ والمَعْنى: أنَّ تِلْكَ العُقُوبَةَ كافِيَةٌ لَهم ولا شَيْءَ أبْلَغُ مِنها، ولا يُمْكِنُ الزِّيادَةُ عَلَيْها.
ثُمَّ قالَ: ﴿ولَعَنَهُمُ اللَّهُ﴾ أيْ: ألْحَقَ بِتِلْكَ العُقُوبَةِ الشَّدِيدَةِ الإهانَةَ والذَّمَّ واللَّعْنَ.
ثُمَّ قالَ: ﴿ولَهم عَذابٌ مُقِيمٌ﴾ ولِقائِلٍ أنْ يَقُولَ: مَعْنى كَوْنِ العَذابِ مُقِيمًا وكَوْنِهِ خالِدًا واحِدٌ، فَكانَ هَذا تَكْرارًا ؟
والجَوابُ: لَيْسَ ذَلِكَ تَكْرِيرًا، وبَيانُ الفَرْقِ مِن وُجُوهٍ:
الأوَّلُ: أنَّ لَهم نَوْعًا آخَرَ مِنَ العَذابِ المُقِيمِ الدّائِمِ سِوى العَذابِ بِالنّارِ والخُلُودِ المَذْكُورِ أوَّلًا، ولا يَدُلُّ عَلى أنَّ العَذابَ بِالنّارِ دائِمٌ. وقَوْلُهُ: ﴿ولَهم عَذابٌ مُقِيمٌ﴾ يَدُلُّ عَلى أنَّ لَهم مَعَ ذَلِكَ نَوْعًا آخَرَ مِنَ العَذابِ.
ولِقائِلٍ أنْ يَقُولَ: هَذا التَّأْوِيلُ مُشْكِلٌ؛ لِأنَّهُ قالَ في النّارِ المُخَلَّدَةِ: ﴿هِيَ حَسْبُهُمْ﴾، وكَوْنُها حَسْبًا يَمْنَعُ مِن ضَمِّ شَيْءٍ آخَرَ إلَيْهِ.
وجَوابُهُ: أنَّها حَسْبُهم في الإيلامِ والإيجاعِ، ومَعَ ذَلِكَ فَيُضَمُّ إلَيْهِ نَوْعٌ آخَرُ زِيادَةً في تَعْذِيبِهِمْ. والثّانِي: أنَّ المُرادَ بِقَوْلِهِ: ﴿ولَهم عَذابٌ مُقِيمٌ﴾ العَذابُ العاجِلُ الَّذِي لا يَنْفَكُّونَ عَنْهُ، وهو ما يُقاسُونَهُ مِن تَعَبِ النِّفاقِ والخَوْفِ مِنِ اطِّلاعِ الرَّسُولِ عَلى بَواطِنِهِمْ، وما يَحْذَرُونَهُ أبَدًا مِن أنْواعِ الفَضائِحِ.
ثُمَّ قالَ: ﴿كالَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ﴾ واعْلَمْ أنَّ هَذا رُجُوعٌ مِنَ الغَيْبَةِ إلى الخِطابِ، وهَذا الكافُ لِلتَّشْبِيهِ، وهو يَحْتَمِلُ وُجُوهًا: الأوَّلُ: قالَ الفَرّاءُ: فَعَلْتُمْ كَأفْعالِ الَّذِينَ مِن قَبْلِكم، والمَعْنى: أنَّهُ تَعالى شَبَّهَ المُنافِقِينَ بِالكُفّارِ الَّذِينَ كانُوا قَبْلَهم في الأمْرِ بِالمُنْكَرِ والنَّهْيِ عَنِ المَعْرُوفِ، وقَبْضِ الأيْدِي عَنِ الخَيْراتِ، ثُمَّ إنَّهُ تَعالى وصَفَ أُولَئِكَ الكُفّارَ بِأنَّهم كانُوا أشَدَّ قُوَّةً مِن هَؤُلاءِ المُنافِقِينَ وأكْثَرَ أمْوالًا وأوْلادًا، ثُمَّ اسْتَمْتَعُوا مُدَّةً بِالدُّنْيا ثُمَّ هَلَكُوا وبادُوا وانْقَلَبُوا إلى العِقابِ الدّائِمِ، فَأنْتُمْ مَعَ ضَعْفِكم وقِلَّةِ خَيْراتِ الدُّنْيا عِنْدَكم أوْلى أنْ تَكُونُوا كَذَلِكَ.
والوَجْهُ الثّانِي: أنَّهُ تَعالى شَبَّهَ المُنافِقِينَ في عُدُولِهِمْ عَنْ طاعَةِ اللَّهِ تَعالى لِأجْلِ طَلَبِ لَذّاتِ الدُّنْيا، بِمَن قَبْلَهم مِنَ الكُفّارِ، ثُمَّ وصَفَهم تَعالى بِكَثْرَةِ الأمْوالِ والأوْلادِ وبِأنَّهُمُ اسْتَمْتَعُوا بِخَلاقِهِمْ، والخَلاقُ النَّصِيبُ، وهو ما خُلِقَ لِلْإنْسانِ، أيْ: قُدِّرَ لَهُ مِن خَيْرٍ، كَما قِيلَ لَهُ: قَسْمٌ لِأنَّها قَسْمٌ ونَصِيبٌ؛ لِأنَّهُ نُصِبَ أيْ: ثَبَتَ، فَذَكَرَ تَعالى أنَّهُمُ اسْتَمْتَعُوا بِخَلاقِهِمْ، فَأنْتُمْ أيُّها المُنافِقُونَ اسْتَمْتَعْتُمْ بِخَلاقِكم كَما اسْتَمْتَعَ أُولَئِكَ بِخَلاقِهِمْ.
فَإنْ قِيلَ: ما الفائِدَةُ في ذِكْرِ الِاسْتِمْتاعِ بِالخَلاقِ في حَقِّ الأوَّلِينَ مَرَّةً، ثُمَّ ذِكْرِهِ في حَقِّ المُنافِقِينَ ثانِيًا، ثُمَّ ذِكْرِهِ في حَقِّ الأوَّلِينَ ثالِثًا ؟
قُلْنا: الفائِدَةُ فِيهِ أنَّهُ تَعالى ذَمَّ الأوَّلِينَ بِالِاسْتِمْتاعِ بِما أُوتُوا مِن حُظُوظِ الدُّنْيا، وحِرْمانِهِمْ عَنْ سَعادَةِ الآخِرَةِ بِسَبَبِ اسْتِغْراقِهِمْ في تِلْكَ الحُظُوظِ العاجِلَةِ، فَلَمّا قَرَّرَ تَعالى هَذا الذَّمَّ عادَ فَشَبَّهَ حالَ هَؤُلاءِ المُنافِقِينَ (p-١٠٣)بِحالِهِمْ، فَيَكُونُ ذَلِكَ نِهايَةً في المُبالَغَةِ، ومِثالُهُ: أنَّ مَن أرادَ أنْ يُنَبِّهَ بَعْضَ الظَّلَمَةِ عَلى قُبْحِ ظُلْمِهِ يَقُولُ لَهُ: أنْتَ مِثْلُ فِرْعَوْنَ، كانَ يَقْتُلُ بِغَيْرِ جُرْمٍ ويُعَذِّبُ مِن غَيْرِ مُوجِبٍ، وأنْتَ تَفْعَلُ مِثْلَ ما فَعَلَهُ، وبِالجُمْلَةِ فالتَّكْرِيرُ هَهُنا لِلتَّأْكِيدِ.
ولَمّا بَيَّنَ تَعالى مُشابَهَةَ هَؤُلاءِ المُنافِقِينَ لِأُولَئِكَ المُتَقَدِّمِينَ في طَلَبِ الدُّنْيا، وفي الإعْراضِ عَنْ طَلَبِ الآخِرَةِ، بَيَّنَ حُصُولَ المُشابَهَةِ بَيْنَ الفَرِيقَيْنِ في تَكْذِيبِ الأنْبِياءِ وفي المَكْرِ والخَدِيعَةِ والغَدْرِ بِهِمْ، فَقالَ: ﴿وخُضْتُمْ كالَّذِي خاضُوا﴾ قالَ الفَرّاءُ: يُرِيدُ كَخَوْضِهِمُ الَّذِي خاضُوا، فَـ ”الَّذِي“ صِفَةُ مَصْدَرٍ مَحْذُوفٍ دَلَّ عَلَيْهِ الفِعْلُ.
ثُمَّ قالَ تَعالى: ﴿أُولَئِكَ حَبِطَتْ أعْمالُهم في الدُّنْيا والآخِرَةِ﴾؛ أيْ: بَطَلَتْ حَسَناتُهم في الدُّنْيا بِسَبَبِ المَوْتِ والفَقْرِ والِانْتِقالِ مِنَ العِزِّ إلى الذُّلِّ، ومِنَ القُوَّةِ إلى الضَّعْفِ، وفي الآخِرَةِ بِسَبَبِ أنَّهم لا يُثابُونَ، بَلْ يُعاقَبُونَ أشَدَّ العِقابِ: ﴿وأُولَئِكَ هُمُ الخاسِرُونَ﴾ حَيْثُ أتْعَبُوا أنْفُسَهم في الرَّدِّ عَلى الأنْبِياءِ والرُّسُلِ، فَما وجَدُوا مِنهُ إلّا فَواتَ الخَيْراتِ في الدُّنْيا والآخِرَةِ، وإلّا حُصُولَ العِقابِ في الدُّنْيا والآخِرَةِ، والمَقْصُودُ أنَّهُ تَعالى لَمّا شَبَّهَ حالَ هَؤُلاءِ المُنافِقِينَ بِأُولَئِكَ الكُفّارِ بَيَّنَ أنَّ أُولَئِكَ الكُفّارَ لَمْ يَحْصُلْ لَهم إلّا حُبُوطُ الأعْمالِ، وإلّا الخِزْيُ والخَسارُ، مَعَ أنَّهم كانُوا أقْوى مِن هَؤُلاءِ المُنافِقِينَ وأكْثَرَ أمْوالًا وأوْلادًا مِنهم، فَهَؤُلاءِ المُنافِقُونَ المُشارِكُونَ لَهم في هَذِهِ الأعْمالِ القَبِيحَةِ أوْلى أنْ يَكُونُوا واقِعِينَ في عَذابِ الدُّنْيا والآخِرَةِ، مَحْرُومِينَ مِن خَيْراتِ الدُّنْيا والآخِرَةِ.
{"ayahs_start":68,"ayahs":["وَعَدَ ٱللَّهُ ٱلۡمُنَـٰفِقِینَ وَٱلۡمُنَـٰفِقَـٰتِ وَٱلۡكُفَّارَ نَارَ جَهَنَّمَ خَـٰلِدِینَ فِیهَاۚ هِیَ حَسۡبُهُمۡۚ وَلَعَنَهُمُ ٱللَّهُۖ وَلَهُمۡ عَذَابࣱ مُّقِیمࣱ","كَٱلَّذِینَ مِن قَبۡلِكُمۡ كَانُوۤا۟ أَشَدَّ مِنكُمۡ قُوَّةࣰ وَأَكۡثَرَ أَمۡوَ ٰلࣰا وَأَوۡلَـٰدࣰا فَٱسۡتَمۡتَعُوا۟ بِخَلَـٰقِهِمۡ فَٱسۡتَمۡتَعۡتُم بِخَلَـٰقِكُمۡ كَمَا ٱسۡتَمۡتَعَ ٱلَّذِینَ مِن قَبۡلِكُم بِخَلَـٰقِهِمۡ وَخُضۡتُمۡ كَٱلَّذِی خَاضُوۤا۟ۚ أُو۟لَـٰۤىِٕكَ حَبِطَتۡ أَعۡمَـٰلُهُمۡ فِی ٱلدُّنۡیَا وَٱلۡـَٔاخِرَةِۖ وَأُو۟لَـٰۤىِٕكَ هُمُ ٱلۡخَـٰسِرُونَ"],"ayah":"كَٱلَّذِینَ مِن قَبۡلِكُمۡ كَانُوۤا۟ أَشَدَّ مِنكُمۡ قُوَّةࣰ وَأَكۡثَرَ أَمۡوَ ٰلࣰا وَأَوۡلَـٰدࣰا فَٱسۡتَمۡتَعُوا۟ بِخَلَـٰقِهِمۡ فَٱسۡتَمۡتَعۡتُم بِخَلَـٰقِكُمۡ كَمَا ٱسۡتَمۡتَعَ ٱلَّذِینَ مِن قَبۡلِكُم بِخَلَـٰقِهِمۡ وَخُضۡتُمۡ كَٱلَّذِی خَاضُوۤا۟ۚ أُو۟لَـٰۤىِٕكَ حَبِطَتۡ أَعۡمَـٰلُهُمۡ فِی ٱلدُّنۡیَا وَٱلۡـَٔاخِرَةِۖ وَأُو۟لَـٰۤىِٕكَ هُمُ ٱلۡخَـٰسِرُونَ"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق











