الباحث القرآني

قَوْلُهُ تَعالى: ﴿ولَئِنْ سَألْتَهم لَيَقُولُنَّ إنَّما كُنّا نَخُوضُ ونَلْعَبُ قُلْ أبِاللَّهِ وآياتِهِ ورَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ﴾ ﴿لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إيمانِكم إنْ نَعْفُ عَنْ طائِفَةٍ مِنكم نُعَذِّبْ طائِفَةً بِأنَّهم كانُوا مُجْرِمِينَ﴾ . فِي الآيَةِ مَسائِلُ: المَسْألَةُ الأُولى: ذَكَرُوا في سَبَبِ نُزُولِ الآيَةِ أُمُورًا: الأوَّلُ: «رَوى ابْنُ عُمَرَ أنَّ رَجُلًا مِنَ المُنافِقِينَ قالَ في غَزْوَةِ تَبُوكَ: ما رَأيْتُ مِثْلَ هَؤُلاءِ القَوْمِ أرْعَبَ قُلُوبًا، ولا أكْذَبَ ألْسُنًا، ولا أجْبَنَ عِنْدَ اللِّقاءِ. يَعْنِي رَسُولَ اللَّهِ ﷺ والمُؤْمِنِينَ، فَقالَ واحِدٌ مِنَ الصَّحابَةِ: كَذَبْتَ ولَأنْتَ مُنافِقٌ. ثُمَّ ذَهَبَ لِيُخْبِرَ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ فَوَجَدَ القُرْآنَ قَدْ سَبَقَهُ. فَجاءَ ذَلِكَ الرَّجُلُ إلى رَسُولِ اللَّهِ وكانَ قَدْ رَكِبَ ناقَتَهُ، فَقالَ: يا رَسُولَ اللَّهِ، إنَّما كُنّا نَلْعَبُ ونَتَحَدَّثُ بِحَدِيثِ الرَّكْبِ نَقْطَعُ بِهِ الطَّرِيقَ. وكانَ يَقُولُ: إنَّما كُنّا نَخُوضُ ونَلْعَبُ، ورَسُولُ اللَّهِ ﷺ يَقُولُ: ”أبِاللَّهِ وآياتِهِ ورَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ ؟“، ولا يَلْتَفِتُ إلَيْهِ وما يَزِيدُهُ عَلَيْهِ» . الثّانِي: «قالَ الحَسَنُ وقَتادَةُ: لَمّا سارَ الرَّسُولُ إلى تَبُوكَ (p-٩٨)قالَ المُنافِقُونَ بَيْنَهم: أتُراهُ يَظْهَرُ عَلى الشَّأْمِ ويَأْخُذُ حُصُونَها وقُصُورَها ؟ هَيْهاتَ هَيْهاتَ ! فَعِنْدَ رُجُوعِهِ دَعاهم وقالَ: أنْتُمُ القائِلُونَ بِكَذا وكَذا ؟ فَقالُوا: ما كانَ ذَلِكَ بِالجِدِّ في قُلُوبِنا، وإنَّما كُنّا نَخُوضُ ونَلْعَبُ» . الثّالِثُ: رُوِيَ أنَّ المُتَخَلِّفِينَ عَنِ الرَّسُولِ ﷺ سُئِلُوا عَمّا كانُوا يَصْنَعُونَ وعَنْ سَبَبِ تَخَلُّفِهِمْ، فَقالُوا هَذا القَوْلَ. الرّابِعُ: حُكِّينا عَنْ أبِي مُسْلِمٍ أنَّهُ قالَ في تَفْسِيرِ قَوْلِهِ: ﴿يَحْذَرُ المُنافِقُونَ أنْ تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهم بِما في قُلُوبِهِمْ﴾ . أظْهَرُوا هَذا الحَذَرَ عَلى سَبِيلِ الِاسْتِهْزاءِ، فَبَيَّنَ تَعالى في هَذِهِ الآيَةِ أنَّهُ إذا قِيلَ لَهم: لِمَ فَعَلْتُمْ ذَلِكَ ؟ قالُوا: لَمْ نَقُلْ ذَلِكَ عَلى سَبِيلِ الطَّعْنِ، بَلْ لِأجْلِ أنّا كُنّا نَخُوضُ ونَلْعَبُ. الخامِسُ: اعْلَمْ أنَّهُ لا حاجَةَ في مَعْرِفَةِ هَذِهِ الآيَةِ إلى هَذِهِ الرِّواياتِ؛ فَإنَّها تَدُلُّ عَلى أنَّهم ذَكَرُوا كَلامًا فاسِدًا عَلى سَبِيلِ الطَّعْنِ والِاسْتِهْزاءِ، فَلَمّا أخْبَرَهُمُ الرَّسُولُ بِأنَّهم قالُوا ذَلِكَ خافُوا واعْتَذَرُوا عَنْهُ؛ بِأنّا إنَّما قُلْنا ذَلِكَ عَلى وجْهِ اللَّعِبِ، لا عَلى سَبِيلِ الجِدِّ، وذَلِكَ قَوْلُهم: إنَّما كُنّا نَخُوضُ ونَلْعَبُ، أيْ: ما قُلْنا ذَلِكَ إلّا لِأجْلِ اللَّعِبِ، وهَذا يَدُلُّ عَلى أنَّ كَلِمَةَ ”إنَّما“ تُفِيدُ الحَصْرَ؛ إذْ لَوْ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ لَمْ يَلْزَمْ مِن كَوْنِهِمْ لاعِبِينَ، أنْ لا يَكُونُوا مُسْتَهْزِئِينَ، فَحِينَئِذٍ لا يَتِمُّ هَذا العُذْرُ. والجَوابُ: قالَ الواحِدِيُّ: أصْلُ الخَوْضِ الدُّخُولُ في مائِعٍ مِنَ الماءِ والطِّينِ، ثُمَّ كَثُرَ حَتّى صارَ اسْمًا لِكُلِّ دُخُولٍ فِيهِ تَلْوِيثٌ وأذًى، والمَعْنى: أنّا كُنّا نَخُوضُ ونَلْعَبُ في الباطِلِ مِنَ الكَلامِ كَما يَخُوضُ الرَّكْبُ لِقَطْعِ الطَّرِيقِ، فَأجابَهُمُ الرَّسُولُ بِقَوْلِهِ: ”أبِاللَّهِ وآياتِهِ ورَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ ؟!“ وفِيهِ مَسائِلُ: المَسْألَةُ الأُولى: فَرْقٌ بَيْنَ قَوْلِكَ: أتَسْتَهْزِئُ بِاللَّهِ ؟ وبَيْنَ قَوْلِكَ: أبِاللَّهِ تَسْتَهْزِئُ ؟ فالأوَّلُ يَقْتَضِي الإنْكارَ عَلى عَمَلِ الِاسْتِهْزاءِ، والثّانِي: يَقْتَضِي الإنْكارَ عَلى إيقاعِ الِاسْتِهْزاءِ في اللَّهِ، كَأنَّهُ يَقُولُ: هَبْ أنَّكَ قَدْ تُقْدِمُ عَلى الِاسْتِهْزاءِ، ولَكِنْ كَيْفَ أقْدَمْتَ عَلى إيقاعِ الِاسْتِهْزاءِ في اللَّهِ، ونَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿لا فِيها غَوْلٌ﴾ [الصافات: ٤٧] . والمَقْصُودُ لَيْسَ نَفْيَ الغَوْلِ، بَلْ نَفْيُ أنْ يَكُونَ خَمْرُ الجَنَّةِ مَحَلًّا لِلْغَوْلِ. المَسْألَةُ الثّانِيَةُ: أنَّهُ تَعالى حَكى عَنْهم أنَّهم يَسْتَهْزِئُونَ بِاللَّهِ وآياتِهِ ورَسُولِهِ، ومَعْلُومٌ أنَّ الِاسْتِهْزاءَ بِاللَّهِ مُحالٌ، فَلا بُدَّ لَهُ مِن تَأْوِيلٍ، وفِيهِ وُجُوهٌ: الأوَّلُ: المُرادُ بِالِاسْتِهْزاءِ بِاللَّهِ هو الِاسْتِهْزاءُ بِتَكالِيفِ اللَّهِ تَعالى. الثّانِي: يَحْتَمِلُ أنْ يَكُونَ المُرادُ الِاسْتِهْزاءَ بِذِكْرِ اللَّهِ؛ فَإنَّ أسْماءَ اللَّهِ قَدْ يَسْتَهْزِئُ الكافِرُ بِها، كَما أنَّ المُؤْمِنَ يُعَظِّمُها ويُمَجِّدُها؛ قالَ تَعالى: ﴿سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأعْلى﴾ [الأعلى: ١] . فَأمَرَ المُؤْمِنَ بِتَعْظِيمِ اسْمِ اللَّهِ. وقالَ: ﴿ولِلَّهِ الأسْماءُ الحُسْنى فادْعُوهُ بِها وذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ في أسْمائِهِ﴾ [الأعراف: ١٨٠] . فَلا يَمْتَنِعُ أنْ يُقالَ: ﴿أبِاللَّهِ﴾ ويُرادُ: أبِذِكْرِ اللَّهِ. الثّالِثُ: لَعَلَّ المُنافِقِينَ لَمّا قالُوا: كَيْفَ يَقْدِرُ مُحَمَّدٌ عَلى أخْذِ حُصُونِ الشَّأْمِ وقُصُورِها. قالَ بَعْضُ المُسْلِمِينَ: اللَّهُ يُعِينُهُ عَلى ذَلِكَ ويَنْصُرُهُ عَلَيْهِمْ، ثُمَّ إنَّ بَعْضَ الجُهّالِ مِنَ المُنافِقِينَ ذَكَرَ كَلامًا مُشْعِرًا بِالقَدْحِ في قُدْرَةِ اللَّهِ كَما هو عاداتُ الجُهّالِ والمُلْحِدَةِ، فَكانَ المُرادُ ذَلِكَ. وأمّا قَوْلُهُ: ﴿وآياتِهِ﴾ فالمُرادُ بِها القُرْآنُ، وسائِرُ ما يَدُلُّ عَلى الدِّينِ. وقَوْلُهُ: ﴿ورَسُولِهِ﴾ مَعْلُومٌ، وذَلِكَ يَدُلُّ عَلى أنَّ القَوْمَ إنَّما ذَكَرُوا ما ذَكَرُوهُ عَلى سَبِيلِ الِاسْتِهْزاءِ. * * * ثُمَّ قالَ تَعالى: ﴿لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إيمانِكُمْ﴾ وفِيهِ مَسائِلُ: المَسْألَةُ الأُولى: نَقَلَ الواحِدِيُّ عَنْ أهْلِ اللُّغَةِ في لَفْظِ الِاعْتِذارِ قَوْلَيْنِ: القَوْلُ الأوَّلُ: أنَّهُ عِبارَةٌ عَنْ مَحْوِ الذَّنْبِ، مِن قَوْلِهِمْ: اعْتَذَرَتِ المَنازِلُ إذا دَرَسَتْ. يُقالُ: مَرَرْتُ بِمَنزِلٍ (p-٩٩)مُعْتَذِرٍ، والِاعْتِذارُ هو الدَّرْسُ وأخْذُ الِاعْتِذارِ مِنهُ؛ لِأنَّ المُعْتَذِرَ يُحاوِلُ إزالَةَ أثَرِ ذَنْبِهِ. والقَوْلُ الثّانِي: حَكى ابْنُ الأعْرابِيِّ أنَّ الِاعْتِذارَ هو القَطْعُ، ومِنهُ يُقالُ لِلْقُلْفَةِ: عُذْرَةٌ؛ لِأنَّها تُقْطَعُ، وعُذْرَةُ الجارِيَةِ سُمِّيَتْ عُذْرَةً؛ لِأنَّها تُعْذَرُ أيْ: تُقْطَعُ، ويُقالُ: اعْتَذَرَتِ المِياهُ إذا انْقَطَعَتْ، فالعُذْرُ لَمّا كانَ سَبَبًا لِقَطْعِ اللَّوْمِ سُمِّيَ عُذْرًا، قالَ الواحِدِيُّ: والقَوْلانِ مُتَقارِبانِ؛ لِأنَّ مَحْوَ أثَرِ الذَّنْبِ وقَطْعَ اللَّوْمِ يَتَقارَبانِ. المَسْألَةُ الثّانِيَةُ: أنَّهُ تَعالى بَيَّنَ أنْ ذَلِكَ الِاسْتِهْزاءَ كانَ كُفْرًا، والعَقْلُ يَقْتَضِي أنَّ الإقْدامَ عَلى الكُفْرِ لِأجْلِ اللَّعِبِ غَيْرُ جائِزٍ، فَثَبَتَ أنَّ قَوْلَهم: إنَّما كُنّا نَخُوضُ ونَلْعَبُ، ما كانَ عُذْرًا حَقِيقِيًّا في الإقْدامِ عَلى ذَلِكَ الِاسْتِهْزاءِ، فَلَمّا لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ عُذْرًا في نَفْسِهِ نَهاهُمُ اللَّهُ عَنْ أنْ يَعْتَذِرُوا بِهِ؛ لِأنَّ المَنعَ عَنِ الكَلامِ الباطِلِ واجِبٌ، فَقالَ: ﴿لا تَعْتَذِرُوا﴾ أيْ: لا تَذْكُرُوا هَذا العُذْرَ في دَفْعِ هَذا الجُرْمِ. المَسْألَةُ الثّالِثَةُ: قَوْلُهُ: ﴿قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إيمانِكُمْ﴾ يَدُلُّ عَلى أحْكامٍ: الحُكْمُ الأوَّلُ: أنَّ الِاسْتِهْزاءَ بِالدِّينِ كَيْفَ كانَ كُفْرًا بِاللَّهِ؛ وذَلِكَ لِأنَّ الِاسْتِهْزاءَ يَدُلُّ عَلى الِاسْتِخْفافِ، والعُمْدَةُ الكُبْرى في الإيمانِ تَعْظِيمُ اللَّهِ تَعالى بِأقْصى الإمْكانِ، والجَمْعُ بَيْنَهُما مُحالٌ. الحُكْمُ الثّانِي: أنَّهُ يَدُلُّ عَلى بُطْلانِ قَوْلِ مَن يَقُولُ: الكُفْرُ لا يَدْخُلُ إلّا في أفْعالِ القُلُوبِ. الحُكْمُ الثّالِثُ: يَدُلُّ عَلى أنَّ قَوْلَهُمُ الَّذِي صَدَرَ مِنهم كُفْرٌ في الحَقِيقَةِ، وإنْ كانُوا مُنافِقِينَ مِن قَبْلُ، وأنَّ الكُفْرَ يُمْكِنُ أنْ يَتَجَدَّدَ مِنَ الكافِرِ حالًا فَحالًا. الحُكْمُ الرّابِعُ: يَدُلُّ عَلى أنَّ الكُفْرَ إنَّما حَدَثَ بَعْدَ أنْ كانُوا مُؤْمِنِينَ. ولِقائِلٍ أنْ يَقُولَ: القَوْمُ لَمّا كانُوا مُنافِقِينَ فَكَيْفَ يَصِحُّ وصْفُهم بِذَلِكَ ؟ قُلْنا: قالَ الحَسَنُ: المُرادُ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إيمانِكُمُ الَّذِي أظْهَرْتُمُوهُ، وقالَ آخَرُونَ: ظَهَرَ كُفْرُكم لِلْمُؤْمِنِينَ بَعْدَ أنْ كُنْتُمْ عِنْدَهم مُسْلِمِينَ، والقَوْلانِ مُتَقارِبانِ. * * * ثُمَّ قالَ تَعالى: ﴿إنْ نَعْفُ عَنْ طائِفَةٍ مِنكم نُعَذِّبْ طائِفَةً﴾ وفِيهِ مَسائِلُ: المَسْألَةُ الأُولى: قَرَأ عاصِمٌ: ”إنْ نَعْفُ ونُعَذِّبْ“ بِالنُّونِ وكَسْرِ الذّالِ، وطائِفَةً بِالنَّصْبِ، والمَعْنى: أنَّهُ تَعالى حَكى عَنْ نَفْسِهِ أنَّهُ يَقُولُ: إنْ يَعْفُ عَنْ طائِفَةٍ يُعَذِّبْ طائِفَةً، والباقُونَ بِالياءِ وضَمِّها، وفَتْحِ الفاءِ عَلى ما لَمْ يُسَمَّ فاعِلُهُ، إنْ يُعْفَ عَنْ طائِفَةٍ بِالتَّذْكِيرِ، وتُعَذَّبْ طائِفَةٌ بِالتَّأْنِيثِ، وحَكى صاحِبُ الكَشّافِ عَنْ مُجاهِدٍ: إنْ تُعْفَ عَنْ طائِفَةٍ عَلى البِناءِ لِلْمَفْعُولِ مَعَ التَّأْنِيثِ، ثُمَّ قالَ: والوَجْهُ التَّذْكِيرُ؛ لِأنَّ المُسْنَدَ إلَيْهِ الظَّرْفُ، كَما تَقُولُ: سِيرَ بِالدّابَّةِ، ولا تَقُولُ: سِيرَتْ بِالدّابَّةِ، وأمّا تَأْوِيلُ قِراءَتِهِ فَهو أنَّ مُجاهِدًا لَعَلَّهُ ذَهَبَ إلى أنَّ المَعْنى كَأنَّهُ قِيلَ: إنْ (p-١٠٠)تُرْحَمْ طائِفَةٌ فَأنْتِ كَذَلِكَ، وهو غَرِيبٌ، والجَيِّدُ القِراءَةُ العامَّةُ: إنْ يُعْفَ عَنْ طائِفَةٍ بِالتَّذْكِيرِ وتُعَذَّبْ طائِفَةٌ بِالتَّأْنِيثِ. المَسْألَةُ الثّانِيَةُ: ذَكَرَ المُفَسِّرُونَ أنَّ الطّائِفَتَيْنِ كانُوا ثَلاثَةً، اسْتَهْزَأ اثْنانِ وضَحِكَ واحِدٌ، فالطّائِفَةُ الأُولى الضّاحِكُ، والثّانِيَةُ الهازِئانِ، وقالَ المُفَسِّرُونَ: لَمّا كانَ ذَنْبُ الضّاحِكِ أخَفَّ لا جَرَمَ عَفا اللَّهُ عَنْهُ، وذَنْبُ الهازِئِينَ أغْلَظَ، فَلا جَرَمَ ما عَفا اللَّهُ عَنْهُما، قالَ القاضِي: هَذا بَعِيدٌ؛ لِأنَّهُ تَعالى حَكَمَ عَلى الطّائِفَتَيْنِ بِالكُفْرِ، وأنَّهُ تَعالى لا يَعْفُو عَنِ الكافِرِ إلّا بَعْدَ التَّوْبَةِ والرُّجُوعِ إلى الإسْلامِ، وأيْضًا لا يُعَذِّبُ الكافِرَ إلّا بَعْدَ إصْرارِهِ عَلى الكُفْرِ، أمّا لَوْ تابَ عَنْهُ ورَجَعَ إلى الإسْلامِ فَإنَّهُ لا يُعَذِّبُهُ، فَلَمّا ذَكَرَ اللَّهُ تَعالى أنَّهُ يَعْفُو عَنْ طائِفَةٍ ويُعَذِّبُ الأُخْرى، كانَ فِيهِ إضْمارُ أنَّ الطّائِفَةَ الَّتِي أخْبَرَ أنَّهُ يَعْفُو عَنْهم تابُوا عَنِ الكُفْرِ ورَجَعُوا إلى الإسْلامِ، وأنَّ الطّائِفَةَ الَّتِي أخْبَرَ أنَّهُ يُعَذِّبُهم أصَرُّوا عَلى الكُفْرِ ولَمْ يَرْجِعُوا إلى الإسْلامِ، ولَعَلَّ ذَلِكَ الواحِدَ لَمّا لَمْ يُبالِغْ في الطَّعْنِ ولَمْ يُوافِقِ القَوْمَ في الذِّكْرِ خَفَّ كُفْرُهُ، ثُمَّ إنَّهُ تَعالى وفَّقَهُ لِلْإيمانِ والخُرُوجِ عَنِ الكُفْرِ، وذَلِكَ يَدُلُّ عَلى أنَّ مَن خاضَ في عَمَلٍ باطِلٍ، فَلْيَجْتَهِدْ في التَّقْلِيلِ فَإنَّهُ يُرْجى لَهُ بِبَرَكَةِ ذَلِكَ التَّقْلِيلِ أنْ يَتُوبَ اللَّهُ عَلَيْهِ في الكُلِّ. المَسْألَةُ الثّالِثَةُ: قالُوا: ثَبَتَ بِالرِّواياتِ أنَّ الطّائِفَتَيْنِ كانُوا ثَلاثَةً، فَوَجَبَ أنْ تَكُونَ إحْدى الطّائِفَتَيْنِ إنْسانًا واحِدًا. قالَ الزَّجّاجُ: والطّائِفَةُ في اللُّغَةِ: أصْلُها الجَماعَةُ؛ لِأنَّها المِقْدارُ الَّذِي يُمْكِنُها أنْ تُطِيفَ بِالشَّيْءِ، ثُمَّ يَجُوزُ أنْ يُسَمّى الواحِدُ بِالطّائِفَةِ، قالَ تَعالى: ﴿ولْيَشْهَدْ عَذابَهُما طائِفَةٌ مِنَ المُؤْمِنِينَ﴾ [النور: ٢] . وأقَلُّهُ الواحِدُ، ورَوى الفَرّاءُ بِإسْنادِهِ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُما - أنَّهُ قالَ: الطّائِفَةُ الواحِدُ فَما فَوْقَهُ. وفي جَوازِ تَسْمِيَةِ الشَّخْصِ الواحِدِ بِالطّائِفَةِ وُجُوهٌ: الأوَّلُ: أنَّ مَنِ اخْتارَ مَذْهَبًا ونَصَرَهُ فَإنَّهُ لا يَزالُ يَكُونُ ذابًّا عَنْهُ ناصِرًا لَهُ، فَكَأنَّهُ بِقَلْبِهِ يَطُوفُ عَلَيْهِ ويَذُبُّ عَنْهُ مِن كُلِّ الجَوانِبِ، فَلا يَبْعُدُ أنْ يُسَمّى الواحِدُ طائِفَةً لِهَذا السَّبَبِ. الثّانِي: قالَ ابْنُ الأنْبارِيِّ: العَرَبُ تُوقِعُ لَفْظَ الجَمْعِ عَلى الواحِدِ فَتَقُولُ: خَرَجَ فُلانٌ إلى مَكَّةَ عَلى الجِمالِ، واللَّهُ تَعالى يَقُولُ: ﴿الَّذِينَ قالَ لَهُمُ النّاسُ﴾ [آل عمران: ١٧٣] . يَعْنِي نُعَيْمَ بْنَ مَسْعُودٍ. الثّالِثُ: لا يَبْعُدُ أنْ تَكُونَ الطّائِفَةُ إذا أُرِيدَ بِها الواحِدُ يَكُونُ أصْلُها طائِفًا، ثُمَّ أدْخَلَ الهاءَ عَلَيْهِ لِلْمُبالَغَةِ، ثُمَّ إنَّهُ تَعالى عَلَّلَ كَوْنَهُ مُعَذِّبًا لِلطّائِفَةِ الثّانِيَةِ بِأنَّهم كانُوا مُجْرِمِينَ. واعْلَمْ أنَّ الطّائِفَتَيْنِ لَمّا اشْتَرَكَتا في الكُفْرِ، فَقَدِ اشْتَرَكَتا في الجُرْمِ، والتَّعْذِيبُ يَخْتَصُّ بِإحْدى الطّائِفَتَيْنِ، وتَعْلِيلُ الحُكْمِ الخاصِّ بِالعِلَّةِ العامَّةِ لا يَجُوزُ، وأيْضًا التَّعْذِيبُ حُكْمٌ حاصِلٌ في الحالِ. وقَوْلُهُ: ﴿كانُوا مُجْرِمِينَ﴾ يَدُلُّ عَلى صُدُورِ الجُرْمِ عَنْهم في الزَّمانِ الماضِي، وتَعْلِيلُ الحُكْمِ الحاصِلِ في الحالِ بِالعِلَّةِ المُتَقَدِّمَةِ لا يَجُوزُ، بَلْ كانَ الأوْلى أنْ يُقالَ ذَلِكَ: بِأنَّهم مُجْرِمُونَ. واعْلَمْ أنَّ الجَوابَ عَنْهُ أنَّ هَذا تَنْبِيهٌ عَلى أنَّ جُرْمَ الطّائِفَةِ الثّانِيَةِ كانَ أغْلَظَ وأقْوى مِن جُرْمِ الطّائِفَةِ الأُولى، فَوَقَعَ التَّعْلِيلُ بِذَلِكَ الجُرْمِ الغَلِيظِ، وأيْضًا فَفِيهِ تَنْبِيهٌ عَلى أنَّ ذَلِكَ الجُرْمَ بَقِيَ واسْتَمَرَّ ولَمْ يَزَلْ، فَأوْجَبَ التَّعْذِيبَ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب