الباحث القرآني

قَوْلُهُ تَعالى: ﴿قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنا إلّا إحْدى الحُسْنَيَيْنِ ونَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكم أنْ يُصِيبَكُمُ اللَّهُ بِعَذابٍ مِن عِنْدِهِ أوْ بِأيْدِينا فَتَرَبَّصُوا إنّا مَعَكم مُتَرَبِّصُونَ﴾ . اعْلَمْ أنَّ هَذا هو الجَوابُ الثّانِي عَنْ فَرَحِ المُنافِقِينَ بِمَصائِبِ المُؤْمِنِينَ، وذَلِكَ لِأنَّ المُسْلِمَ إذا ذَهَبَ إلى الغَزْوِ، فَإنْ صارَ مَغْلُوبًا مَقْتُولًا فازَ بِالِاسْمِ الحَسَنِ في الدُّنْيا، والثَّوابِ العَظِيمِ الَّذِي أعَدَّهُ اللَّهُ لِلشُّهَداءِ في الآخِرَةِ، وإنْ صارَ غالِبًا فازَ في الدُّنْيا بِالمالِ الحَلالِ والِاسْمِ الجَمِيلِ، وهي الرُّجُولِيَّةُ والشَّوْكَةُ والقُوَّةُ، وفي الآخِرَةِ بِالثَّوابِ العَظِيمِ. وأمّا المُنافِقُ إذا قَعَدَ في بَيْتِهِ فَهو في الحالِ قَعَدَ في بَيْتِهِ مَذْمُومًا، مَنسُوبًا إلى الجُبْنِ والفَشَلِ وضَعْفِ القَلْبِ والقَناعَةِ بِالأُمُورِ الخَسِيسَةِ مِنَ الدُّنْيا، عَلى وجْهٍ يُشارِكُهُ فِيها النِّسْوانُ والصِّبْيانُ والعاجِزُونَ مِنَ النِّساءِ، ثُمَّ يَكُونُونَ أبَدًا خائِفِينَ عَلى أنْفُسِهِمْ وأوْلادِهِمْ وأمْوالِهِمْ، وفي الآخِرَةِ إنْ ماتُوا فَقَدِ انْتَقَلُوا إلى العَذابِ الدّائِمِ في القِيامَةِ، وإنْ أذِنَ اللَّهُ في قَتْلِهِمْ وقَعُوا في القَتْلِ والأسْرِ والنَّهْبِ، وانْتَقَلُوا مِنَ الدُّنْيا إلى عَذابِ النّارِ، فالمُنافِقُ لا يَتَرَبَّصُ بِالمُؤْمِنِ إلّا إحْدى الحالَتَيْنِ المَذْكُورَتَيْنِ، وكُلُّ واحِدَةٍ مِنهُما في غايَةِ الجَلالَةِ والرِّفْعَةِ والشَّرَفِ، والمُسْلِمُ يَتَرَبَّصُ بِالمُنافِقِ إحْدى الحالَتَيْنِ المَذْكُورَتَيْنِ، أعْنِي البَقاءَ في الدُّنْيا مَعَ الخِزْيِ والذُّلِّ والهَوانِ، ثُمَّ الِانْتِقالَ إلى عَذابِ القِيامَةِ، والوُقُوعُ في القَتْلِ والنَّهْبِ مَعَ الخِزْيِ والذُّلِّ، وكُلُّ واحِدَةٍ مِن هاتَيْنِ الحالَتَيْنِ في غايَةِ الخَساسَةِ والدَّناءَةِ، ثُمَّ قالَ تَعالى لِلْمُنافِقِينَ: ﴿فَتَرَبَّصُوا﴾ بِنا إحْدى الحالَتَيْنِ الشَّرِيفَتَيْنِ﴿إنّا مَعَكم مُتَرَبِّصُونَ﴾ وُقُوعَكم في إحْدى الحالَتَيْنِ الخَسِيسَتَيْنِ النّازِلَتَيْنِ. قالَ الواحِدِيُّ: يُقالُ: فُلانٌ يَتَرَبَّصُ بِفُلانٍ الدَّوائِرَ، إذا كانَ يَنْتَظِرُ وُقُوعَ مَكْرُوهٍ بِهِ، وهَذا قَدْ سَبَقَ الكَلامُ فِيهِ. وقالَ أهْلُ المَعانِي: التَّرَبُّصُ: التَّمَسُّكُ بِما يُنْتَظَرُ بِهِ مَجِيءُ حِينِهِ؛ ولِذَلِكَ قِيلَ: فُلانٌ يَتَرَبَّصُ بِالطَّعامِ إذا تَمَسَّكَ بِهِ إلى حِينِ زِيادَةِ سِعْرِهِ. والحُسْنى: تَأْنِيثُ الأحْسَنِ. واخْتَلَفُوا في تَفْسِيرِ قَوْلِهِ: ﴿بِعَذابٍ مِن عِنْدِهِ أوْ بِأيْدِينا﴾ قِيلَ: مِن عِنْدِ اللَّهِ، أيْ: بِعَذابٍ يُنْزِلُهُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ في الدُّنْيا، أوْ بِأيْدِينا بِأنْ يَأْذَنَ لَنا في قَتْلِكم. وقِيلَ: بِعَذابٍ مِن عِنْدِ اللَّهِ يَتَناوَلُ عَذابَ الدُّنْيا والآخِرَةِ، أوْ بِأيْدِينا القَتْلُ. فَإنْ قِيلَ: إذا كانُوا مُنافِقِينَ لا يَحِلُّ قَتْلُهم مَعَ إظْهارِهِمُ الإيمانَ، فَكَيْفَ يَقُولُ تَعالى ذَلِكَ ؟ قُلْنا: قالَ الحَسَنُ: المُرادُ بِأيْدِينا إنْ ظَهَرَ نِفاقُكم؛ لِأنَّ نِفاقَهم إذا ظَهَرَ كانُوا كَسائِرِ المُشْرِكِينَ في كَوْنِهِمْ حَرْبًا لِلْمُؤْمِنِينَ. وقَوْلُهُ: ﴿فَتَرَبَّصُوا﴾ وإنْ كانَ بِصِيغَةِ الأمْرِ، إلّا أنَّ المُرادَ مِنهُ التَّهْدِيدُ، كَما في قَوْلِهِ: ﴿ذُقْ إنَّكَ أنْتَ العَزِيزُ الكَرِيمُ﴾ [الدخان: ٤٩] . واللَّهُ أعْلَمُ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب