الباحث القرآني

قَوْلُهُ تَعالى: ﴿لَقَدِ ابْتَغَوُا الفِتْنَةَ مِن قَبْلُ وقَلَّبُوا لَكَ الأُمُورَ حَتّى جاءَ الحَقُّ وظَهَرَ أمْرُ اللَّهِ وهم كارِهُونَ﴾ ﴿ومِنهم مَن يَقُولُ ائْذَنْ لِي ولا تَفْتِنِّي ألا في الفِتْنَةِ سَقَطُوا وإنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالكافِرِينَ﴾ . اعْلَمْ أنَّ المَذْكُورَ في هَذِهِ الآيَةِ نَوْعٌ آخَرُ مِن مَكْرِ المُنافِقِينَ وخُبْثِ باطِنِهِ، فَقالَ: ﴿لَقَدِ ابْتَغَوُا الفِتْنَةَ مِن قَبْلُ﴾ أيْ: مِن قَبْلِ واقِعَةِ تَبُوكَ. قالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: هو أنَّ اثْنَيْ عَشَرَ رَجُلًا مِنَ المُنافِقِينَ وقَفُوا عَلى ثَنِيَّةِ الوَداعِ لَيْلَةَ العَقَبَةِ لِيَفْتِكُوا بِالنَّبِيِّ ﷺ، وقِيلَ: المُرادُ ما فَعَلَهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَيٍّ يَوْمَ أُحُدٍ، حِينَ انْصَرَفَ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ مَعَ أصْحابِهِ، وقِيلَ: طَلَبُوا صَدَّ أصْحابِكَ عَنِ الدِّينِ، ورَدَّهم إلى الكُفْرِ، وتَخْذِيلَ النّاسِ عَنْكَ. ومَعْنى الفِتْنَةِ: هو الِاخْتِلافُ المُوجِبُ لِلْفُرْقَةِ بَعْدَ الأُلْفَةِ، وهو الَّذِي طَلَبَهُ المُنافِقُونَ لِلْمُسْلِمِينَ وسَلَّمَهُمُ اللَّهُ مِنهُ، وقَوْلُهُ: ﴿وقَلَّبُوا لَكَ الأُمُورَ﴾ تَقْلِيبُ الأمْرِ تَصْرِيفُهُ وتَرْدِيدُهُ لِأجْلِ التَّدَبُّرِ والتَّأمُّلِ فِيهِ، يَعْنِي: اجْتَهَدُوا في الحِيلَةِ عَلَيْكَ والكَيْدِ بِكَ، يُقالُ في الرَّجُلِ المُتَصَرِّفِ في وُجُوهِ الحِيَلِ: فُلانٌ حُوَّلٌ قُلَّبٌ، أيْ: يَتَقَلَّبُ في وُجُوهِ الحِيَلِ. ثُمَّ قالَ تَعالى: ﴿حَتّى جاءَ الحَقُّ وظَهَرَ أمْرُ اللَّهِ وهم كارِهُونَ﴾ والمَعْنى: أنَّ هَؤُلاءِ المُنافِقِينَ كانُوا مُواظِبِينَ عَلى وجْهِ الكَيْدِ والمَكْرِ وإثارَةِ الفِتْنَةِ، وتَنْفِيرِ النّاسِ عَنْ قَبُولِ الدِّينِ حَتّى جاءَ الحَقُّ الَّذِي كانَ في حُكْمِ المَذاهِبِ، والمُرادُ مِنهُ: القُرْآنُ ودَعْوَةُ مُحَمَّدٍ،﴿وظَهَرَ أمْرُ اللَّهِ﴾ الَّذِي كانَ كالمَسْتُورِ؛ والمُرادُ بِأمْرِ اللَّهِ: الأسْبابُ الَّتِي أظْهَرَها اللَّهُ تَعالى وجَعَلَها مُؤَثِّرَةً في قُوَّةِ شَرْعِ مُحَمَّدٍ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ، ﴿وهم كارِهُونَ﴾ . أيْ: وهم لِمَجِيءِ هَذا الحَقِّ وظُهُورِ أمْرِ اللَّهِ كارِهُونَ، وفِيهِ تَنْبِيهٌ عَلى أنَّهُ لا أثَرَ لِمَكْرِهِمْ وكَيْدِهِمْ ومُبالَغَتِهِمْ في إثارَةِ الشَّرِّ، فَإنَّهم مُنْذُ كانُوا في طَلَبِ هَذا المَكْرِ والكَيْدِ، واللَّهُ تَعالى رَدَّهُ في نَحْرِهِمْ وقَلَبَ مُرادَهم وأتى بِضِدِّ مَقْصُودِهِمْ، فَلَمّا كانَ الأمْرُ كَذَلِكَ في الماضِي، فَهَذا يَكُونُ في المُسْتَقْبَلِ. ثُمَّ قالَ تَعالى: ﴿ومِنهم مَن يَقُولُ ائْذَنْ لِي ولا تَفْتِنِّي﴾ يُرِيدُ ائْذَنْ لِي في القُعُودِ، ولا تَفْتِنِّي بِسَبَبِ الأمْرِ بِالخُرُوجِ، وذَكَرُوا فِيهِ وُجُوهًا: الأوَّلُ: لا تَفْتِنِّي. أيْ: لا تُوقِعْنِي في الفِتْنَةِ، وهي الإثْمُ بِأنْ لا تَأْذَنَ لِي، فَإنَّكَ إنْ مَنَعْتَنِي مِنَ القُعُودِ وقَعَدْتُ بِغَيْرِ إذْنِكَ وقَعْتُ في الإثْمِ، وعَلى هَذا التَّقْدِيرِ فَيَحْتَمِلُ أنْ يَكُونُوا ذَكَرُوهُ عَلى سَبِيلِ السُّخْرِيَةِ، وأنْ يَكُونُوا أيْضًا ذَكَرُوهُ عَلى سَبِيلِ الجِدِّ، وإنْ كانَ ذَلِكَ المُنافِقُ مُنافِقًا كانَ يَغْلِبُ عَلى ظَنِّهِ كَوْنُ مُحَمَّدٍ عَلَيْهِ السَّلامُ صادِقًا، وإنْ كانَ غَيْرَ قاطِعٍ بِذَلِكَ. والثّانِي: لا تَفْتِنِّي. أيْ: لا تُلْقِنِي في الهَلاكِ؛ فَإنَّ الزَّمانَ زَمانُ شِدَّةِ الحَرِّ ولا طاقَةَ لِي بِها. والثّالِثُ: لا تَفْتِنِّي فَإنِّي إنْ خَرَجْتُ مَعَكَ هَلَكَ مالِي وعِيالِي. والرّابِعُ: قالَ الجَدُّ بْنُ قَيْسٍ: قَدْ عَلِمَتِ الأنْصارُ أنِّي مُغْرَمٌ بِالنِّساءِ؛ فَلا تَفْتِنِّي بِبَناتِ الأصْفَرِ - يَعْنِي نِساءَ الرُّومِ - ولَكِنِّي أُعِينُكَ بِمالٍ (p-٦٨)فاتْرُكْنِي. وقُرِئَ: ”ولا تُفْتِنِّي“ مِن أفْتَنَهُ.﴿ألا في الفِتْنَةِ سَقَطُوا﴾ والمَعْنى: أنَّهم يَحْتَرِزُونَ عَنِ الوُقُوعِ في الفِتْنَةِ، وهم في الحالِ ما وقَعُوا إلّا في الفِتْنَةِ، فَإنَّ أعْظَمَ أنْواعِ الفِتْنَةِ الكُفْرُ بِاللَّهِ ورَسُولِهِ، والتَّمَرُّدُ عَنْ قَبُولِ التَّكْلِيفِ. وأيْضًا فَهم يَبْقَوْنَ خالِفِينَ عَنِ المُسْلِمِينَ، خائِفِينَ مِن أنْ يَفْضَحَهُمُ اللَّهُ، ويُنْزِلَ آياتٍ في شَرْحِ نِفاقِهِمْ، وفي مُصْحَفِ أُبَيٍّ ”سَقَطَ“؛ لِأنَّ لَفْظَ مَن مُوَحَّدُ اللَّفْظِ مَجْمُوعُ المَعْنى. قالَ أهْلُ المَعانِي: وفِيهِ تَنْبِيهٌ عَلى أنَّ مَن عَصى اللَّهَ لِغَرَضٍ ما، فَإنَّهُ تَعالى يَبْطُلُ عَلَيْهِ ذَلِكَ الغَرَضُ، ألا تَرى أنَّ القَوْمَ إنَّما اخْتارُوا القُعُودَ؛ لِئَلّا يَقَعُوا في الفِتْنَةِ، فاللَّهُ تَعالى بَيَّنَ أنَّهم في عَيْنِ الفِتْنَةِ واقِعُونَ ساقِطُونَ. ثُمَّ قالَ تَعالى: ﴿وإنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالكافِرِينَ﴾ قِيلَ: إنَّها تُحِيطُ بِهِمْ يَوْمَ القِيامَةِ. وقِيلَ: إنَّ أسْبابَ تِلْكَ الإحاطَةِ حاصِلَةٌ في الحالِ، فَكَأنَّهم في وسَطِها. وقالَ الحُكَماءُ الإسْلامِيَّةُ: إنَّهم كانُوا مَحْرُومِينَ مِن نُورِ مَعْرِفَةِ اللَّهِ ومَلائِكَتِهِ وكُتُبِهِ ورُسُلِهِ واليَوْمِ الآخِرِ، وما كانُوا يَعْتَقِدُونَ لِأنْفُسِهِمْ كَمالًا وسَعادَةً سِوى الدُّنْيا وما فِيها مِنَ المالِ والجاهِ، ثُمَّ إنَّهُمُ اشْتَهَرُوا بَيْنَ النّاسِ بِالنِّفاقِ والطَّعْنِ في الدِّينِ، وقَصْدِ الرَّسُولِ بِكُلِّ سُوءٍ، وكانُوا يُشاهِدُونَ أنَّ دَوْلَةَ الإسْلامِ أبَدًا في التَّرَقِّي والِاسْتِعْلاءِ والتَّزايُدِ، وكانُوا في أشَدِّ الخَوْفِ عَلى أنْفُسِهِمْ، وأوْلادِهِمْ وأمْوالِهِمْ؛ والحاصِلُ أنَّهم كانُوا مَحْرُومِينَ عَنْ كُلِّ السَّعاداتِ الرُّوحانِيَّةِ، فَكانُوا في أشَدِّ الخَوْفِ، بِسَبَبِ الأحْوالِ العاجِلَةِ، والخَوْفُ الشَّدِيدُ مَعَ الجَهْلِ الشَّدِيدِ أعْظَمُ أنْواعِ العُقُوباتِ الرُّوحانِيَّةِ، فَعَبَّرَ اللَّهُ تَعالى عَنْ تِلْكَ الأحْوالِ بِقَوْلِهِ: ﴿وإنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالكافِرِينَ﴾ .
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب