الباحث القرآني

ثُمَّ بَيَّنَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ تَعالى بَعْدَ ذَلِكَ: ﴿لَوْ خَرَجُوا فِيكم ما زادُوكم إلّا خَبالًا ولَأوْضَعُوا خِلالَكم يَبْغُونَكُمُ الفِتْنَةَ وفِيكم سَمّاعُونَ لَهم واللَّهُ عَلِيمٌ بِالظّالِمِينَ﴾ . اعْلَمْ أنَّهُ تَعالى بَيَّنَ في هَذِهِ الآيَةِ أنْواعَ المَفاسِدِ الحاصِلَةِ مِن خُرُوجِهِمْ، وهي ثَلاثَةٌ: الأوَّلُ: قَوْلُهُ: ﴿لَوْ خَرَجُوا فِيكم ما زادُوكم إلّا خَبالًا﴾ وفِيهِ مَسائِلُ: المَسْألَةُ الأُولى: الخَبالُ: الشَّرُّ والفَسادُ في كُلِّ شَيْءٍ، ومِنهُ يُسَمّى العَتَهُ بِالخَبَلِ، والمَعْتُوهُ بِالمَخْبُولِ، ولِلْمُفَسِّرِينَ عِباراتٌ، قالَ الكَلْبِيُّ: إلّا شَرًّا، وقالَ يَمانٌ: إلّا مَكْرًا، وقِيلَ: إلّا غَيًّا، وقالَ الضَّحّاكُ: إلّا غَدْرًا، وقِيلَ: الخَبالُ: الِاضْطِرابُ في الرَّأْيِ، وذَلِكَ بِتَزْيِينِ أمْرٍ لِقَوْمٍ وتَقْبِيحِهِ لِقَوْمٍ آخَرِينَ؛ لِيَخْتَلِفُوا وتَفْتَرِقَ كَلِمَتُهم. المَسْألَةُ الثّانِيَةُ: قالَ بَعْضُ النَّحْوِيِّينَ: قَوْلُهُ: ﴿إلّا خَبالًا﴾ مِنَ الِاسْتِثْناءِ المُنْقَطِعِ، وهو أنْ لا يَكُونَ المُسْتَثْنى مِن جِنْسِ المُسْتَثْنى مِنهُ، كَقَوْلِكَ: ما زادُوكم خَيْرًا إلّا خَبالًا، وهَهُنا المُسْتَثْنى مِنهُ غَيْرُ مَذْكُورٍ، وإذا لَمْ يُذْكَرْ وقَعَ الِاسْتِثْناءُ مِنَ الأعَمِّ، والعامُّ هو الشَّيْءُ، فَكانَ الِاسْتِثْناءُ مُتَّصِلًا، والتَّقْدِيرُ: ما زادُوكم شَيْئًا إلّا خَبالًا. المَسْألَةُ الثّالِثَةُ: قالَتِ المُعْتَزِلَةُ: إنَّهُ تَعالى بَيَّنَ في الآيَةِ الأُولى أنَّهُ كَرِهَ انْبِعاثَهم، وبَيَّنَ في هَذِهِ الآيَةِ أنَّهُ إنَّما كَرِهَ ذَلِكَ الِانْبِعاثَ؛ لِكَوْنِهِ مُشْتَمِلًا عَلى هَذا الخَبالِ والشَّرِّ والفِتْنَةِ، وذَلِكَ يَدُلُّ عَلى أنَّهُ تَعالى يَكْرَهُ الشَّرَّ والفِتْنَةَ والفَسادَ عَلى الإطْلاقِ، ولا يَرْضى إلّا بِالخَيْرِ، ولا يُرِيدُ إلّا الطّاعَةَ. النَّوْعُ الثّانِي: مِنَ المَفاسِدِ النّاشِئَةِ مِن خُرُوجِهِمْ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿ولَأوْضَعُوا خِلالَكم يَبْغُونَكُمُ الفِتْنَةَ﴾ وفي الإيضاعِ قَوْلانِ نَقَلَهُما الواحِدِيُّ: القَوْلُ الأوَّلُ: وهو قَوْلُ أكْثَرِ أهْلِ اللُّغَةِ، أنَّ الإيضاعَ حَمْلُ البَعِيرِ عَلى العَدْوِ، ولا يَجُوزُ أنْ يُقالَ: أوْضَعَ الرَّجُلُ إذا سارَ بِنَفْسِهِ سَيْرًا حَثِيثًا. يُقالُ: وضَعَ البَعِيرُ إذا عَدا، وأوْضَعَهُ الرّاكِبُ إذا حَمَلَهُ عَلَيْهِ. قالَ الفَرّاءُ: العَرَبُ تَقُولُ: وضَعَتِ النّاقَةُ، وأوْضَعَ الرّاكِبُ، ورُبَّما قالُوا لِلرّاكِبِ: وضَعَ. والقَوْلُ الثّانِي، وهو قَوْلُ الأخْفَشِ، وأبِي عُبَيْدٍ: أنَّهُ يَجُوزُ أنْ يُقالَ: أوْضَعَ الرَّجُلُ إذا سارَ بِنَفْسِهِ سَيْرًا حَثِيثًا مِن غَيْرِ أنْ يُرادَ أنَّهُ وضَعَ ناقَتَهُ، رَوى أبُو عُبَيْدٍ «أنَّ النَّبِيَّ ﷺ أفاضَ مِن عَرَفَةَ وعَلَيْهِ السَّكِينَةُ، وأوْضَعَ في وادِي مُحَسِّرٍ» . وقالَ لَبِيدٌ: ؎أُرانا مُوضِعِينَ لِحُكْمِ غَيْبٍ ونَسْخُو بِالطَّعامِ وبِالشَّرابِ أرادَ مُسْرِعِينَ، ولا يَجُوزُ أنْ يَكُونَ يُرِيدُ مُوضِعِينَ الإبِلَ؛ لِأنَّهُ لَمْ يُرِدِ السَّيْرَ في الطَّرِيقِ. وقالَ عُمَرُ بْنُ أبِي رَبِيعَةَ: ؎تَبالَهْنَ بِالعُدْوانِ لَمّا عَرَفْنَنِي ∗∗∗ وقُلْنَ امْرُؤٌ باغٍ أكَلَّ وأوْضَعا قالَ الواحِدِيُّ: والآيَةُ تَشْهَدُ لِقَوْلِ الأخْفَشِ وأبِي عُبَيْدٍ. (p-٦٦)واعْلَمْ أنَّ عَلى القَوْلَيْنِ فالمُرادُ مِنَ الآيَةِ السَّعْيُ بَيْنَ المُسْلِمِينَ بِالتَّضْرِيبِ والنَّمائِمِ، فَإنِ اعْتَبَرْنا القَوْلَ الأوَّلَ كانَ المَعْنى: ولَأوْضَعُوا رَكائِبَهم بَيْنَكم، والمُرادُ الإسْراعُ بِالنَّمائِمِ؛ لِأنَّ الرّاكِبَ أسْرَعُ مِنَ الماشِي، وإنِ اعْتَبَرْنا القَوْلَ الثّانِيَ كانَ المُرادُ أنَّهم يُسْرِعُونَ في هَذا التَّضْرِيبِ. المَسْألَةُ الرّابِعَةُ: نَقَلَ صاحِبُ الكَشّافِ عَنِ ابْنِ الزُّبَيْرِ أنَّهُ قَرَأ: ”ولَأوْقَصُوا“ مِن وقَصَتِ النّاقَةُ وقْصًا إذا أسْرَعَتْ، وأوْقَصْتُها. وقُرِئَ: ”ولَأرْفَضُوا“ . فَإنْ قِيلَ: كَيْفَ كُتِبَ في المُصْحَفِ: ”ولاأوْضَعُوا“ بِزِيادَةِ الألِفِ ؟ أجابَ صاحِبُ الكَشّافِ بِأنَّ الفَتْحَةَ كانَتْ ألِفًا قَبْلَ الخَطِّ العَرَبِيِّ، والخَطُّ العَرَبِيُّ اخْتُرِعَ قَرِيبًا مِن نُزُولِ القُرْآنِ، وقَدْ بَقِيَ مِن ذَلِكَ الألِفِ أثَرٌ في الطِّباعِ، فَكَتَبُوا صُورَةَ الهَمْزَةِ ألِفًا وفَتْحَتَها ألِفًا أُخْرى، ونَحْوُهُ: ”أوْ لاأذْبَحَنَّهُ“ . المَسْألَةُ الخامِسَةُ: قَوْلُهُ: ﴿خِلالَكُمْ﴾ أيْ: فِيما بَيْنَكم، ومِنهُ قَوْلُهُ: ﴿وفَجَّرْنا خِلالَهُما نَهَرًا﴾ [الكهف: ٣٣] . وقَوْلُهُ: ﴿فَجاسُوا خِلالَ الدِّيارِ﴾ [الإسراء: ٥] . وأصْلُهُ مِنَ الخَلَلِ، وهو الفُرْجَةُ بَيْنَ الشَّيْئَيْنِ، وجَمْعُهُ خِلالٌ، ومِنهُ قَوْلُهُ: ﴿فَتَرى الوَدْقَ يَخْرُجُ مِن خِلالِهِ﴾ [النور: ٤٣] . وقُرِئَ ”مِن خَلَلِهِ“ وهي مَخارِجُ مَصَبِّ القَطْرِ، وقالَ الأصْمَعِيُّ: تَخَلَّلْتُ القَوْمَ إذا دَخَلْتَ بَيْنَ خَلَلِهِمْ وخِلالِهِمْ. ويُقالُ: جَلَسْنا خِلالَ بُيُوتِ الحَيِّ، وخِلالَ دُورِهِمْ أيْ: جَلَسْنا بَيْنَ البُيُوتِ، ووَسَطَ الدُّورِ. إذا عَرَفْتَ هَذا فَنَقُولُ: قَوْلُهُ: ﴿ولَأوْضَعُوا خِلالَكُمْ﴾ أيْ: بِالنَّمِيمَةِ والإفْسادِ، وقَوْلُهُ: ﴿يَبْغُونَكُمُ الفِتْنَةَ﴾ أيْ: يَبْغُونَ لَكم، وقالَ الأصْمَعِيُّ: ابْغِنِي كَذا أيْ: اطْلُبْهُ لِي، ومَعْنى ابْغِنِي وابْغِ لِي سَواءٌ، وإذا قالَ: ابْغِنِي، فَمَعْناهُ: أعِنِّي عَلى ما بَغَيْتُهُ. ومَعْنى ”الفِتْنَةِ“ هَهُنا افْتِراقُ الكَلِمَةِ وظُهُورُ التَّشْوِيشِ. واعْلَمْ أنَّ حاصِلَ الكَلامِ هو أنَّهم لَوْ خَرَجُوا فِيهِمْ ما زادُوهم إلّا خَبالًا، والخَبالُ: هو الإفْسادُ الَّذِي يُوجِبُ اخْتِلافَ الرَّأْيِ، وهو مِن أعْظَمِ الأُمُورِ الَّتِي يَجِبُ الِاحْتِرازُ عَنْها في الحُرُوبِ؛ لِأنَّ عِنْدَ حُصُولِ الِاخْتِلافِ في الرَّأْيِ يَحْصُلُ الِانْهِزامُ والِانْكِسارُ عَلى أسْهَلِ الوُجُوهِ. ثُمَّ بَيَّنَ تَعالى أنَّهم لا يَقْتَصِرُونَ عَلى ذَلِكَ، بَلْ يَمْشُونَ بَيْنَ الأكابِرِ بِالنَّمِيمَةِ، فَيَكُونُ الإفْسادُ أكْثَرَ، وهو المُرادُ بِقَوْلِهِ: ﴿ولَأوْضَعُوا خِلالَكُمْ﴾ . فَأمّا قَوْلُهُ: ﴿وفِيكم سَمّاعُونَ لَهُمْ﴾ فَفِيهِ قَوْلانِ: الأوَّلُ: المُرادُ: فِيكم عُيُونٌ لَهم يَنْقُلُونَ إلَيْهِمْ ما يَسْمَعُونَ مِنكم، وهَذا قَوْلُ مُجاهِدٍ وابْنِ زَيْدٍ. والثّانِي: قالَ قَتادَةُ: فِيكم مَن يَسْمَعُ كَلامَهم ويَقْبَلُ قَوْلَهم، فَإذا ألْقَوْا إلَيْهِمْ أنْواعًا مِنَ الكَلِماتِ المُوجِبَةِ لِضَعْفِ القَلْبِ قَبِلُوها، وفَتَرُوا بِسَبَبِها عَنِ القِيامِ بِأمْرِ الجِهادِ كَما يَنْبَغِي. فَإنْ قِيلَ: كَيْفَ يَجُوزُ ذَلِكَ عَلى المُؤْمِنِينَ مَعَ قُوَّةِ دِينِهِمْ ونِيَّتِهِمْ في الجِهادِ ؟ قُلْنا: لا يَمْتَنِعُ فِيمَن قَرُبَ عَهْدُهُ بِالإسْلامِ أنْ يُؤَثِّرَ قَوْلُ المُنافِقِينَ فِيهِمْ، ولا يَمْتَنِعُ كَوْنُ بَعْضِ النّاسِ مَجْبُولِينَ عَلى الجُبْنِ والفَشَلِ وضَعْفِ القَلْبِ، فَيُؤَثِّرُ قَوْلُهم فِيهِمْ، ولا يَمْتَنِعُ أنْ يَكُونَ بَعْضُ المُسْلِمِينَ مِن أقارِبِ رُؤَساءِ المُنافِقِينَ فَيَنْظُرُونَ إلَيْهِمْ بِعَيْنِ الإجْلالِ والتَّعْظِيمِ، فَلِهَذا السَّبَبِ يُؤَثِّرُ قَوْلُ هَؤُلاءِ الأكابِرِ مِنَ المُنافِقِينَ فِيهِمْ، ولا يَمْتَنِعُ أيْضًا أنْ يُقالَ: المُنافِقُونَ عَلى قِسْمَيْنِ: مِنهم مَن يَقْتَصِرُ عَلى النِّفاقِ ولا يَسْعى في الأرْضِ بِالفَسادِ، ثُمَّ إنَّ الفَرِيقَ الثّانِيَ مِنَ المُنافِقِينَ يَحْمِلُونَهم عَلى السَّعْيِ بِالفَسادِ بِسَبَبِ إلْقاءِ الشُّبُهاتِ والأراجِيفِ إلَيْهِمْ. (p-٦٧)ثُمَّ إنَّهُ تَعالى خَتَمَ الآيَةَ بِقَوْلِهِ: ﴿واللَّهُ عَلِيمٌ بِالظّالِمِينَ﴾ الَّذِينَ ظَلَمُوا أنْفُسَهم بِسَبَبِ كُفْرِهِمْ ونِفاقِهِمْ، وظَلَمُوا غَيْرَهم بِسَبَبِ أنَّهم سَعَوْا في إلْقاءِ غَيْرِهِمْ في وُجُوهِ الآفاتِ والمُخالَفاتِ. واللَّهُ أعْلَمُ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب