الباحث القرآني
قَوْلُهُ تَعالى:( لا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ واليَوْمِ الآخِرِ أنْ يُجاهِدُوا بِأمْوالِهِمْ وأنْفُسِهِمْ واللَّهُ عَلِيمٌ بِالمُتَّقِينَ ﴿إنَّما يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ واليَوْمِ الآخِرِ وارْتابَتْ قُلُوبُهم فَهم في رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ﴾ ﴿ولَوْ أرادُوا الخُرُوجَ لَأعَدُّوا لَهُ عُدَّةً ولَكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعاثَهم فَثَبَّطَهم وقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ القاعِدِينَ﴾
فِي الآيَةِ مَسائِلُ:
المَسْألَةُ الأُولى: قالَ ابْنُ عَبّاسٍ: قَوْلُهُ: ﴿لا يَسْتَأْذِنُكَ﴾ أيْ: بَعْدَ غَزْوَةِ تَبُوكَ، وقالَ الباقُونَ: هَذا لا يَجُوزُ؛ لِأنَّ ما قَبْلَ هَذِهِ الآيَةِ وما بَعْدَها ورَدَتْ في قِصَّةِ تَبُوكَ، والمَقْصُودُ مِن هَذا الكَلامِ تَمْيِيزُ المُؤْمِنِينَ عَنِ المُنافِقِينَ؛ فَإنَّ المُؤْمِنِينَ مَتى أُمِرُوا بِالخُرُوجِ إلى الجِهادِ تَبادَرُوا إلَيْهِ ولَمْ يَتَوَقَّفُوا، والمُنافِقُونَ يَتَوَقَّفُونَ ويَتَبَلَّدُونَ، ويَأْتُونَ بِالعِلَلِ والأعْذارِ. وهَذا المَقْصُودُ حاصِلٌ سَواءٌ عَبَّرَ عَنْهُ بِلَفْظِ المُسْتَقْبَلِ أوِ الماضِي، والمَقْصُودُ أنَّهُ تَعالى جَعَلَ عَلامَةَ النِّفاقِ في ذَلِكَ الِوَقْتِ الِاسْتِئْذانَ، واللَّهُ أعْلَمُ.
المَسْألَةُ الثّانِيَةُ: قَوْلُهُ: ﴿لا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ واليَوْمِ الآخِرِ أنْ يُجاهِدُوا﴾ فِيهِ مَحْذُوفٌ، والتَّقْدِيرُ: في أنْ يُجاهِدُوا، إلّا أنَّهُ حَسُنَ الحَذْفُ لِظُهُورِهِ. ثُمَّ هاهُنا قَوْلانِ:
القَوْلُ الأوَّلُ: إجْراءُ هَذا الكَلامِ عَلى ظاهِرِهِ مِن غَيْرِ إضْمارٍ آخَرَ، وعَلى هَذا التَّقْدِيرِ فالمَعْنى أنَّهُ لَيْسَ مِن عادَةِ المُؤْمِنِينَ أنْ يَسْتَأْذِنُوكَ في أنْ يُجاهِدُوا، وكانَ الأكابِرُ مِنَ المُهاجِرِينَ والأنْصارِ يَقُولُونَ: لا نَسْتَأْذِنُ النَّبِيَّ ﷺ في الجِهادِ؛ فَإنَّ رَبَّنا نَدَبَنا إلَيْهِ مَرَّةً بَعْدَ أُخْرى، فَأيُّ فائِدَةٍ في الِاسْتِئْذانِ ؟ وكانُوا بِحَيْثُ لَوْ أمَرَهُمُ (p-٦٢)الرَّسُولُ بِالقُعُودِ لَشَقَّ عَلَيْهِمْ ذَلِكَ، ألا تَرى «أنَّ عَلِيَّ بْنَ أبِي طالِبٍ لَمّا أمَرَهُ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ بِأنْ يَبْقى في المَدِينَةِ شَقَّ عَلَيْهِ ذَلِكَ، ولَمْ يَرْضَ إلى أنْ قالَ لَهُ الرَّسُولُ: ”أنْتَ مِنِّي بِمَنزِلَةِ هارُونَ مِن مُوسى“» .
القَوْلُ الثّانِي: أنَّهُ لا بُدَّ هاهُنا مِن إضْمارٍ آخَرَ، قالُوا: لِأنَّ تَرْكَ اسْتِئْذانِ الإمامِ في الجِهادِ غَيْرُ جائِزٍ، وهَؤُلاءِ ذَمَّهُمُ اللَّهُ في تَرْكِ هَذا الِاسْتِئْذانِ، فَثَبَتَ أنَّهُ لا بُدَّ مِنَ الإضْمارِ، والتَّقْدِيرُ: لا يَسْتَأْذِنُكَ هَؤُلاءِ في أنْ لا يُجاهِدُوا، إلّا أنَّهُ حَذَفَ حَرْفَ النَّفْيِ، ونَظِيرُهُ قَوْلُهُ: ﴿يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكم أنْ تَضِلُّوا﴾ [النساء: ١٧٦] . والَّذِي دَلَّ عَلى هَذا المَحْذُوفِ أنَّ ما قَبْلَ الآيَةِ وما بَعْدَها يَدُلُّ عَلى أنَّ حُصُولَ هَذا الذَّمِّ إنَّما كانَ عَلى الِاسْتِئْذانِ في القُعُودِ، واللَّهُ أعْلَمُ.
* * *
ثُمَّ قالَ تَعالى: ﴿إنَّما يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ واليَوْمِ الآخِرِ وارْتابَتْ قُلُوبُهم فَهم في رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ﴾ وفِيهِ مَسائِلُ:
المَسْألَةُ الأُولى: بَيَّنَ أنَّ هَذا الِانْتِقالَ لا يَصْدُرُ إلّا عِنْدَ عَدَمِ الإيمانِ بِاللَّهِ واليَوْمِ الآخِرِ، ثُمَّ لَمّا كانَ عَدَمُ الإيمانِ قَدْ يَكُونُ بِسَبَبِ الشَّكِّ فِيهِ، وقَدْ يَكُونُ بِسَبَبِ الجَزْمِ والقَطْعِ بِعَدَمِهِ، بَيَّنَ تَعالى أنَّ عَدَمَ إيمانِ هَؤُلاءِ إنَّما كانَ بِسَبَبِ الشَّكِّ والرَّيْبِ، وهَذا يَدُلُّ عَلى أنَّ الشّاكَّ المُرْتابَ غَيْرُ مُؤْمِنٍ بِاللَّهِ. وهاهُنا سُؤالانِ:
السُّؤالُ الأوَّلُ: أنَّ العِلْمَ إذا كانَ اسْتِدْلالِيًّا كانَ وُقُوعُ الشَّكِّ في الدَّلِيلِ يُوجِبُ وُقُوعَ الشَّكِّ في المَدْلُولِ، ووُقُوعُ الشَّكِّ في مُقَدِّمَةٍ واحِدَةٍ مِن مُقَدِّماتِ الدَّلِيلِ يَكْفِي في حُصُولِ الشَّكِّ في صِحَّةِ الدَّلِيلِ، فَهَذا يَقْتَضِي أنَّ الرَّجُلَ المُؤْمِنَ إذا وقَعَ لَهُ سُؤالٌ وإشْكالٌ في مُقَدِّمَةٍ مِن مُقَدِّماتِ دَلِيلِهِ أنْ يَصِيرَ شاكًّا في المَدْلُولِ، وهَذا يَقْتَضِي أنْ يَخْرُجَ المُؤْمِنُ عَنْ إيمانِهِ في كُلِّ لَحْظَةٍ، بِسَبَبِ أنَّهُ خَطَرَ بِبالِهِ سُؤالٌ وإشْكالٌ، ومَعْلُومٌ أنَّ ذَلِكَ باطِلٌ، فَثَبَتَ أنَّ بِناءَ الإيمانِ لَيْسَ عَلى الدَّلِيلِ، بَلْ عَلى التَّقْلِيدِ، فَصارَتْ هَذِهِ الآيَةُ دالَّةً عَلى أنَّ الأصْلَ في الإيمانِ هو التَّقْلِيدُ مِن هَذا الوَجْهِ.
والجَوابُ: أنَّ المُسْلِمَ وإنَّ عَرَضَ لَهُ الشَّكُّ في صِحَّةِ بَعْضِ مُقَدِّماتِ دَلِيلٍ واحِدٍ إلّا أنَّ سائِرَ الدَّلائِلِ سَلِيمَةٌ عِنْدَهُ مِنَ الطَّعْنِ؛ فَلِهَذا السَّبَبِ بَقِيَ إيمانُهُ دائِمًا مُسْتَمِرًّا.
السُّؤالُ الثّانِي: ألَيْسَ أنَّ أصْحابَكم يَقُولُونَ: إنّا نُؤْمِنُ إنْ شاءَ اللَّهُ تَعالى، وذَلِكَ يَقْتَضِي حُصُولَ الشَّكِّ ؟
والجَوابُ: أنّا اسْتَقْصَيْنا في تَحْقِيقِ هَذِهِ المَسْألَةِ في سُورَةِ الأنْفالِ، في تَفْسِيرِ قَوْلِهِ: ﴿أُولَئِكَ هُمُ المُؤْمِنُونَ حَقًّا﴾ [الأنفال: ٧٤] .
المَسْألَةُ الثّانِيَةُ: قالَتِ الكَرّامِيَّةُ: الإيمانُ هو مُجَرَّدُ الإقْرارِ، مَعَ أنَّهُ تَعالى شَهِدَ عَلَيْهِمْ في هَذِهِ الآيَةِ بِأنَّهم لَيْسُوا مُؤْمِنِينَ.
المَسْألَةُ الثّالِثَةُ: قَوْلُهُ: ﴿وارْتابَتْ قُلُوبُهُمْ﴾ يَدُلُّ عَلى أنَّ مَحَلَّ الرَّيْبِ هو القَلْبُ فَقَطْ، ومَتى كانَ مَحَلُّ الرَّيْبِ هو القَلْبَ كانَ مَحَلُّ المَعْرِفَةِ والإيمانِ أيْضًا هو القَلْبَ؛ لِأنَّ مَحَلَّ أحَدِ الضِّدَّيْنِ يَجِبُ أنْ يَكُونَ هو مَحَلًّا لِلضِّدِّ الآخَرِ؛ ولِهَذا السَّبَبِ قالَ تَعالى: ﴿أُولَئِكَ كَتَبَ في قُلُوبِهِمُ الإيمانَ﴾ [المجادلة: ٢٢] . وإذا كانَ مَحَلُّ المَعْرِفَةِ والكُفْرِ القَلْبَ، كانَ المُثابُ والمُعاقَبُ في الحَقِيقَةِ هو القَلْبَ والبَواقِي تَكُونُ تَبَعًا لَهُ.
المَسْألَةُ الرّابِعَةُ: قَوْلُهُ: ﴿فَهم في رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ﴾ مَعْناهُ: أنَّ الشّاكَّ المُرْتابَ يَبْقى مُتَرَدِّدًا بَيْنَ النَّفْيِ (p-٦٣)والإثْباتِ، غَيْرَ حاكِمٍ بِأحَدِ القِسْمَيْنِ ولا جازِمٍ بِأحَدِ النَّقِيضَيْنِ. وتَقْرِيرُهُ: أنَّ الِاعْتِقادَ إمّا أنْ يَكُونَ جازِمًا أوْ لا يَكُونَ، فالجازِمُ إنْ كانَ غَيْرَ مُطابِقٍ فَهو الجَهْلُ، وإنْ كانَ مُطابِقًا فَإنْ كانَ عَنْ يَقِينٍ فَهو العِلْمُ، وإلّا فَهو اعْتِقادُ المُقَلِّدِ. وإنْ كانَ غَيْرَ جازِمٍ فَإنْ كانَ أحَدُ الطَّرَفَيْنِ راجِحًا فالرّاجِحُ هو الظَّنُّ، والمَرْجُوحُ هو الوَهْمُ، وإنِ اعْتَدَلَ الطَّرَفانِ فَهو الرَّيْبُ والشَّكُّ، وحِينَئِذٍ يَبْقى الإنْسانُ مُتَرَدِّدًا بَيْنَ الطَّرَفَيْنِ.
* * *
ثُمَّ قالَ تَعالى: ﴿ولَوْ أرادُوا الخُرُوجَ لَأعَدُّوا لَهُ عُدَّةً﴾ قُرِئَ: ”عُدَّتَهُ“، وقُرِئَ أيْضًا: ”عِدَّةً“ بِكَسْرِ العَيْنِ بِغَيْرِ إضافَةٍ وبِإضافَةٍ، قالَ ابْنُ عَبّاسٍ: يُرِيدُ مِنَ الزّادِ والماءِ والرّاحِلَةِ؛ لِأنَّ سَفَرَهم بَعِيدٌ وفي زَمانٍ شَدِيدٍ، وتَرْكَهُمُ العُدَّةَ دَلِيلٌ عَلى أنَّهم أرادُوا التَّخَلُّفَ. وقالَ آخَرُونَ: هَذا إشارَةٌ إلى أنَّهم كانُوا مَياسِيرَ قادِرِينَ عَلى تَحْصِيلِ الأُهْبَةِ والعُدَّةِ.
ثُمَّ قالَ تَعالى: ﴿ولَكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعاثَهم فَثَبَّطَهُمْ﴾ وفِيهِ مَسائِلُ:
المَسْألَةُ الأُولى: الِانْبِعاثُ: الِانْطِلاقُ في الأمْرِ، يُقالُ: بَعَثْتُ البَعِيرَ فانْبَعَثَ، وبَعَثْتُهُ لِأمْرِ كَذا فانْبَعَثَ، وبَعَثَهُ لِأمْرِ كَذا أيْ: نَفَّذَهُ فِيهِ. والتَّثْبِيطُ: رَدُّ الإنْسانِ عَنِ الفِعْلِ الَّذِي هَمَّ بِهِ، والمَعْنى: أنَّهُ تَعالى كَرِهَ خُرُوجَهم مَعَ الرَّسُولِ ﷺ فَصَرَفَهم عَنْهُ.
فَإنْ قِيلَ: إنَّ خُرُوجَهم مَعَ الرَّسُولِ إمّا أنْ يُقالَ: إنَّهُ كانَ مَفْسَدَةً، وإمّا أنْ يُقالَ: إنَّهُ كانَ مَصْلَحَةً.
فَإنْ قُلْنا: إنَّهُ كانَ مَفْسَدَةً، فَلِمَ عاتَبَ الرَّسُولَ في إذْنِهِ إيّاهم في القُعُودِ ؟ وإنْ قُلْنا: إنَّهُ كانَ مَصْلَحَةً، فَلِمَ قالَ: إنَّهُ تَعالى كَرِهَ انْبِعاثَهم وخُرُوجَهم ؟
والجَوابُ الصَّحِيحُ: أنَّ خُرُوجَهم مَعَ الرَّسُولِ ما كانَ مَصْلَحَةً، بِدَلِيلِ أنَّهُ تَعالى صَرَّحَ بَعْدَ هَذِهِ الآيَةِ وشَرَحَ تِلْكَ المَفاسِدَ، وهو قَوْلُهُ: ﴿لَوْ خَرَجُوا فِيكم ما زادُوكم إلّا خَبالًا﴾ [التوبة: ٤٧] . بَقِيَ أنْ يُقالَ: فَلَمّا كانَ الأصْوَبُ الأصْلَحُ أنْ لا يَخْرُجُوا، فَلِمَ عاتَبَ الرَّسُولَ في الإذْنِ ؟ فَنَقُولُ: قَدْ حَكَيْنا عَنْ أبِي مُسْلِمٍ أنَّهُ قالَ: لَيْسَ في قَوْلِهِ: لِمَ أذِنْتَ لَهم أنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ كانَ قَدْ أذِنَ لَهم في القُعُودِ، بَلْ يَحْتَمِلُ أنْ يُقالَ: إنَّهُمُ اسْتَأْذَنُوهُ في الخُرُوجِ مَعَهُ فَأذِنَ لَهم، وعَلى هَذا التَّقْدِيرِ فَإنَّهُ يَسْقُطُ السُّؤالُ، قالَ أبُو مُسْلِمٍ: والدَّلِيلُ عَلى صِحَّةِ ما قُلْنا أنَّ هَذِهِ الآيَةَ دَلَّتْ عَلى أنَّ خُرُوجَهم مَعَهُ كانَ مَفْسَدَةً، فَوَجَبَ حَمْلُ ذَلِكَ العِتابِ عَلى أنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ أذِنَ لَهم في الخُرُوجِ مَعَهُ، وتَأكَّدَ ذَلِكَ بِسائِرِ الآياتِ، مِنها قَوْلُهُ تَعالى: ﴿فَإنْ رَجَعَكَ اللَّهُ إلى طائِفَةٍ مِنهم فاسْتَأْذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ فَقُلْ لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أبَدًا﴾ [التوبة: ٨٣] . ومِنها قَوْلُهُ تَعالى: ﴿سَيَقُولُ المُخَلَّفُونَ إذا انْطَلَقْتُمْ﴾ [الفتح: ١٥] إلى قَوْلِهِ: ﴿قُلْ لَنْ تَتَّبِعُونا﴾ فَهَذا دَفْعُ هَذا السُّؤالِ عَلى طَرِيقَةِ أبِي مُسْلِمٍ.
والوَجْهُ الثّانِي مِنَ الجَوابِ: أنْ نُسَلِّمَ أنَّ العِتابَ في قَوْلِهِ: ﴿لِمَ أذِنْتَ لَهُمْ﴾ إنَّما تَوَجَّهَ؛ لِأنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ أذِنَ لَهم في القُعُودِ، فَنَقُولُ: ذَلِكَ العِتابُ ما كانَ لِأجْلِ أنَّ ذَلِكَ القُعُودَ كانَ مَفْسَدَةً، بَلْ لِأجْلِ أنَّ إذْنَهُ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ بِذَلِكَ القُعُودِ كانَ مَفْسَدَةً، وبَيانُهُ مِن وُجُوهٍ:
الأوَّلُ: أنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ أذِنَ قَبْلَ إتْمامِ التَّفَحُّصِ، وإكْمالِ التَّأمُّلِ والتَّدَبُّرِ؛ ولِهَذا السَّبَبِ قالَ تَعالى: ﴿لِمَ أذِنْتَ لَهم حَتّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وتَعْلَمَ الكاذِبِينَ﴾ .
والثّانِي: أنَّ بِتَقْدِيرِ أنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ ما كانَ يَأْذَنُ لَهم في القُعُودِ؛ فَهم كانُوا يَقْعُدُونَ مِن تِلْقاءِ أنْفُسِهِمْ، وكانَ يَصِيرُ ذَلِكَ القُعُودُ عَلامَةً عَلى نِفاقِهِمْ، وإذا ظَهَرَ نِفاقُهُمُ احْتَرَزَ المُسْلِمُونَ مِنهم ولَمْ (p-٦٤)يَغْتَرُّوا بِقَوْلِهِمْ، فَلَمّا أذِنَ الرَّسُولُ في القُعُودِ بَقِيَ نِفاقُهم مَخْفِيًّا، وفاتَتْ تِلْكَ المَصالِحُ.
والثّالِثُ: أنَّهم لَمّا اسْتَأْذَنُوا رَسُولَ اللَّهِ ﷺ غَضِبَ عَلَيْهِمْ وقالَ: ﴿اقْعُدُوا مَعَ القاعِدِينَ﴾ عَلى سَبِيلِ الزَّجْرِ، كَما حَكاهُ اللَّهُ في آخِرِ هَذِهِ الآيَةِ، وهو قَوْلُهُ: ﴿وقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ القاعِدِينَ﴾ . ثُمَّ إنَّهُمُ اغْتَنَمُوا هَذِهِ اللَّفْظَةَ، وقالُوا: قَدْ أذِنَ لَنا؛ فَقالَ تَعالى: ﴿لِمَ أذِنْتَ لَهُمْ﴾ أيْ: لِمَ ذَكَرْتَ عِنْدَهم هَذا اللَّفْظَ الَّذِي أمْكَنَهم أنْ يَتَوَسَّلُوا بِهِ إلى تَحْصِيلِ غَرَضِهِمْ.
الرّابِعُ: أنَّ الَّذِينَ يَقُولُونَ: الِاجْتِهادُ غَيْرُ جائِزٍ عَلى الأنْبِياءِ عَلَيْهِمُ السَّلامُ، قالُوا: إنَّهُ إنَّما أذِنَ بِمُقْتَضى الِاجْتِهادِ، وذَلِكَ غَيْرُ جائِزٍ؛ لِأنَّهم لَمّا تَمَكَّنُوا مِنَ الوَحْيِ وكانَ الإقْدامُ عَلى الِاجْتِهادِ مَعَ التَّمَكُّنِ مِنَ الوَحْيِ جارِيًا مَجْرى الإقْدامِ عَلى الِاجْتِهادِ مَعَ حُصُولِ النَّصِّ، فَكَما أنَّ هَذا غَيْرُ جائِزٍ فَكَذا ذاكَ.
المَسْألَةُ الثّانِيَةُ: قالَتِ المُعْتَزِلَةُ البَصْرِيَّةُ: الآيَةُ دالَّةٌ عَلى أنَّهُ تَعالى كَما هو مَوْصُوفٌ بِصِفَةِ المُرِيدِيَّةِ هو مَوْصُوفٌ بِصِفَةِ الكارِهِيَّةِ، بِدَلِيلِ قَوْلِهِ تَعالى: ﴿ولَكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعاثَهُمْ﴾ قالَ أصْحابُنا: مَعْنى: ﴿كَرِهَ اللَّهُ﴾ أرادَ عَدَمَ ذَلِكَ الشَّيْءِ. قالَتِ البَصْرِيَّةُ: العَدَمُ لا يَصْلُحُ أنْ يَكُونَ مُتَعَلِّقًا؛ وذَلِكَ لِأنَّ الإرادَةَ عِبارَةٌ عَنْ صِفَةٍ تَقْتَضِي تَرْجِيحَ أحَدِ طَرَفَيِ المُمْكِنِ عَلى الآخَرِ، والعَدَمُ: نَفْيٌ مَحْضٌ، وأيْضًا فالعَدَمُ المُسْتَمِرُّ لا تَعَلُّقَ لِلْإرادَةِ بِالعَدَمِ بِهِ؛ لِأنَّ تَحْصِيلَ الحاصِلِ مُحالٌ، وجَعْلَ العَدَمِ عَدَمًا مُحالٌ، فَثَبَتَ أنَّ تَعَلُّقَ الإرادَةِ بِالعَدَمِ مُحالٌ، فامْتَنَعَ القَوْلُ بِأنَّ المُرادَ مِنَ الكَراهَةِ إرادَةُ العَدَمِ.
أجابَ أصْحابُنا بِأنّا نُفَسِّرُ الكَراهَةَ في حَقِّ اللَّهِ بِإرادَةِ ضِدِّ ذَلِكَ الشَّيْءِ، فَهو تَعالى أرادَ مِنهُمُ السُّكُونَ، فَوَقَعَ التَّعْبِيرُ عَنْ هَذِهِ الإرادَةِ بِكَوْنِهِ تَعالى كارِهًا لِخُرُوجِهِمْ مَعَ الرَّسُولِ.
المَسْألَةُ الثّالِثَةُ: احْتَجَّ أصْحابُنا في مَسْألَةِ القَضاءِ والقَدَرِ بِقَوْلِهِ تَعالى: ﴿فَثَبَّطَهُمْ﴾ أيْ: فَكَسَّلَهم، وضَعَّفَ رَغْبَتَهم في الِانْبِعاثِ، وحاصِلُ الكَلامِ فِيهِ لا يَتِمُّ إلّا إذا صَرَّحْنا بِالحَقِّ، وهو أنَّ صُدُورَ الفِعْلِ يَتَوَقَّفُ عَلى حُصُولِ الدّاعِي إلَيْهِ، فَإذا صارَتِ الدّاعِيَةُ فاتِرَةً مَرْجُوحَةً امْتَنَعَ صُدُورُ الفِعْلِ عَنْهُ، ثُمَّ إنَّ صَيْرُورَةَ تِلْكَ الدّاعِيَةِ جازِمَةٌ أوْ فاتِرَةٌ، إنْ كانَتْ مِنَ العَبْدِ لَزِمَ التَّسَلْسُلُ، وإنْ كانَتْ مِنَ اللَّهِ فَحِينَئِذٍ لَزِمَ المَقْصُودُ؛ لِأنَّ تَقْوِيَةَ الدّاعِيَةِ لَيْسَتْ إلّا مِنَ اللَّهِ، ومَتى حَصَلَتْ تِلْكَ التَّقْوِيَةُ لَزِمَ حُصُولُ الفِعْلِ، وحِينَئِذٍ يَصِحُّ قَوْلُنا في مَسْألَةِ القَضاءِ والقَدَرِ، ثُمَّ إنَّهُ تَعالى خَتَمَ الآيَةَ بِقَوْلِهِ: ﴿وقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ القاعِدِينَ﴾ وفِيهِ مَسْألَتانِ:
المَسْألَةُ الأُولى: المَقْصُودُ مِنهُ التَّنْبِيهُ عَلى ذَمِّهِمْ وإلْحاقِهِمْ بِالنِّساءِ والصِّبْيانِ والعاجِزِينَ الَّذِينَ شَأْنُهُمُ القُعُودُ في البُيُوتِ، وهُمُ القاعِدُونَ والخالِفُونَ والخَوالِفُ عَلى ما ذَكَرَهُ في قَوْلِهِ: ﴿رَضُوا بِأنْ يَكُونُوا مَعَ الخَوالِفِ﴾ [التوبة: ٨٧] .
المَسْألَةُ الثّانِيَةُ: اخْتَلَفُوا في أنَّ هَذا القَوْلَ مِمَّنْ كانَ ؟ فَيَحْتَمِلُ أنْ يَكُونَ القائِلُ بِذَلِكَ هو الشَّيْطانُ عَلى سَبِيلِ الوَسْوَسَةِ، ويَحْتَمِلُ أنْ يَكُونَ بَعْضُهم قالَ ذَلِكَ لِبَعْضٍ لَمّا أرادُوا الِاجْتِماعَ عَلى التَّخَلُّفِ؛ لِأنَّ مَن يَتَوَلّى الفَسادَ يُحِبُّ التَّكَثُّرَ بِأشْكالِهِ، ويَحْتَمِلُ أنْ يَكُونَ القائِلُ هو الرَّسُولَ ﷺ لَمّا أذِنَ لَهم في التَّخَلُّفِ فَعاتَبَهُ اللَّهُ، ويَحْتَمِلُ أنْ يَكُونَ القائِلُ هو اللَّهَ سُبْحانَهُ؛ لِأنَّهُ قَدْ كَرِهَ خُرُوجَهم لِلْإفْسادِ، وكانَ المُرادُ إذا كُنْتُمْ مُفْسِدِينَ فَقَدْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعاثَكم عَلى هَذا الوَجْهِ فَأمَرَكم بِالقُعُودِ عَنْ هَذا الخُرُوجِ المَخْصُوصِ.
{"ayahs_start":44,"ayahs":["لَا یَسۡتَـٔۡذِنُكَ ٱلَّذِینَ یُؤۡمِنُونَ بِٱللَّهِ وَٱلۡیَوۡمِ ٱلۡـَٔاخِرِ أَن یُجَـٰهِدُوا۟ بِأَمۡوَ ٰلِهِمۡ وَأَنفُسِهِمۡۗ وَٱللَّهُ عَلِیمُۢ بِٱلۡمُتَّقِینَ","إِنَّمَا یَسۡتَـٔۡذِنُكَ ٱلَّذِینَ لَا یُؤۡمِنُونَ بِٱللَّهِ وَٱلۡیَوۡمِ ٱلۡـَٔاخِرِ وَٱرۡتَابَتۡ قُلُوبُهُمۡ فَهُمۡ فِی رَیۡبِهِمۡ یَتَرَدَّدُونَ","۞ وَلَوۡ أَرَادُوا۟ ٱلۡخُرُوجَ لَأَعَدُّوا۟ لَهُۥ عُدَّةࣰ وَلَـٰكِن كَرِهَ ٱللَّهُ ٱنۢبِعَاثَهُمۡ فَثَبَّطَهُمۡ وَقِیلَ ٱقۡعُدُوا۟ مَعَ ٱلۡقَـٰعِدِینَ"],"ayah":"۞ وَلَوۡ أَرَادُوا۟ ٱلۡخُرُوجَ لَأَعَدُّوا۟ لَهُۥ عُدَّةࣰ وَلَـٰكِن كَرِهَ ٱللَّهُ ٱنۢبِعَاثَهُمۡ فَثَبَّطَهُمۡ وَقِیلَ ٱقۡعُدُوا۟ مَعَ ٱلۡقَـٰعِدِینَ"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق











